
قوله: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان﴾، الآية.
كان هارون أخا موسى (عليه السلام)، شقيقه، وإنما قال له: ﴿ابن أُمَّ﴾، لى طريق الاستعطاف بالرحم.
فمن قرأ ي ﴿ابن أُمَّ﴾، بالفتح، فالتقدير عند الكسائي، والفراء، وأبي عبيد: يا ابن أماه، ثم حذف.
وهو عند البصريين يبنى ك " خَمْسَةَ عَشَرَ ".

ومن كسر " الميم "، فقال أبو حاتم، والأخفش: حذف الياء لدلالة الكسرة عليها، وهي لغة لبعض العرب، يقولون: يا غُلاَمَ غُلاَمِ أَقْبِل.
وحكى الأخفش: هذا غُلاَمِ يا هذا، بغير ياء في غُلاَمِي.
وأحسن منه عند أهل النظر: أن يكون بناء الاسمين اسماً واحداً، ثم أضافه بعد ذلك.
وشبه أبو عمرو الفتح بقولهم: هُوَ جَارِي بَيْتَ بَيْتَ، ولقيته كِفَّةَ كِفَّةَ يا فتى.

ولا يفعل ما فعل في الأم والعم في غيرهما، لا يقال: يَابْنَ أَبِ ولا يَابْنَ أختِ، ولا شبهه، ولا يجوز الفتح إلا في الأم والعم، وذلك لكثرة الاستعمال.
وقرأ مجاهد ومالك بن دينار: " فَلاَ تَشْمَتْ بِيَ الأَعْدَاءُ "، بفتح " التاء " و " الميم "، ورفع: " الأعداء " بفعلهم، وهو مثل قوله: ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢]، أي: اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. فالمعنى: فلا تشمت من أجلي

الأعداء.
وحكى أبو عبيد عن حُمَيْد " تَشْمِتْ "، بفتح " التاء " وكسر " الميم ". ولا جه له؛ لأنه إنما يقال: " شَمِتَ " فإن سمع " شمت " بالفتح، فهي لغة من العرب، ولَمْ يَرُوْا ذلك.
ومعنى الآية: أن الله (تعالى) أعلم موسى (عليه السلام)، أنه قد فتن قومه، وأن/ السامري قد أضلهم، فرجع موسى غضبان على قومه أسفاً عليهم.
و" الأسف ": شدة الغضب.

وقال أبو الدرداء: " الأسف " منزلة وراء الغضب، أشد منه.
وقال السدي: " ﴿أَسِفاً﴾: حزيناً.
وكذلك قال الحسن، وابن عباس.
ومن هذا قولهم للعبد: " أَسيفٌ "؛ لأن مقهور، وحزين مستعبد، وكذلك قيل للأجير: " أسِيفٌ ": لأنه مستخدم، ومخزون على استخدام الناس له.

قوله: ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي﴾.
أي: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم، في عبادتكم العجل.
﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾.
أي: أسبقتم أمره؟ يقال: " عَجِلْتُ الرَّجُلَ ": سبقته، و " أَعْجَلْتُهُ ": استعجلته.
والفرق بين " العَجَلَة " و " السرعة "، أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أقل أوقاته.
﴿وَأَلْقَى الألواح﴾. أي: ألقاها غَضَباً على قومه.
ثم أخذ برأس أخيه يجره إليه غضباً. قاله ابن عباس.
[قال ابن عباس]: لما رجع موسى (عليه السلام)، إلى قومه، وصار قريباً منهم،

سمع أصواتهم، فقال: إنني لأسمع أصوات قوم لاهين، فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقال
﴿مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: ٩٢ - ٩٣].
قال قتادة أخذ الألواح، وقال: رب، إني أجد في الألواح أمة (خير أمة) أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد قال: إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلُهُمْ في صدورهم يقرأونها، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فُضُول

الضَّلاَلَةِ، حتى يقاتلوا الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد قال: رب، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهمه، ثم يُؤْجَرُونَ عليها، [قال]: فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني إجد في الألواح أمة إذا هَمَّ أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عمَلِهَا كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك [أمة] أحمد! قال: رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، رب فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب [إني] أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفع لهم، فاجعلهم أمتي قال:
صفحة رقم 2568
تلك أمة أحمد (قال): فذكر لنا أن نبي الله (عليه السلام)، نبذ الألواح وقال: الله اجعلني من أمة أحمد قال: فأعطى الله موسى شيئين لم يعطها نبي، قال الله: ﴿ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ [الأعراف: ١٤٤]، فرضي موسى (عليه السلام)، والثانية قوله: ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٩]، فرضي موسى (عليه السلام) كل الرضى.
ويروى أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستعة أسباعها، وبقي السبع، وكان فيما رفع: " تفصيل كل شيء ". وبقي: " الهدى والرحمة " في السبع الباقي.
قال مقاتل: كانت لوحين.
فيكون هذا مما جُمِعَ في مَوْضِعِ التَّثْنِية، كما قال: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، يريد:

داوود وسليمان. وله نظار قد ذكرت.
وقال الربيع بن أنس: كانت التوراة سبعين وسق بعير، يقرأ الجزء منها في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، وعيسى، وعُزَير، ويوشع عليه السلام.
[و] قال ابن جبير: كانت الألواح من ياقوتة.
وقال مجاهد: كانت من زُمَرُّدٍ أخضر.
وقال أبو العالية: كانت من زَبَرْجَدٍ.

وقال ابن عباس: لما تكسرت رفعت إلا سدسها.
وقال ابن جبير: كانت الألواح من زُمُرّدُ، فلما ألقى الألواح ذهب الفصيل، وبقي الهدى/ والرحمة، وهو قوله: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأعراف: ١٥٤].
وقال الفراء: ذكر أنهما كانا لوحين.
وذك النحاس أنه قيل: إنما أخذ برأس (أخيه) هارون على جهة المسارة لا غيره، فكره هارون أن يتوهم من حضر أن الأمر على خلاف ذلك. فقال: ﴿لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾ [طه: ٩٤].
وكان هارون أخاه لأُمِّهِ.