
ممن بقي بمصر ولم يغرق؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام فلما كشفنا عنهم الرجز المؤجل إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون، ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلا، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعدا ما وقرأ أبو البرهسم وأبو حيوة: «ينكثون» بكسر الكاف، والنكث نقض ما أبرم، ويستعمل في الأجسام وفي المعاني، وقرأ ابن محيصن ومجاهد وابن جبير «الرّجز» بضم الراء في جميع القرآن، قال أبو حاتم: إلا أن ابن محيصن كسر حرفين «رجز الشيطان» «والرجز فاهجر».
قال القاضي أبو محمد: رآهما بمعنى آخر بمثابة الرجز والنتن الذي يجب التطهر منه. والْيَمِّ البحر، ومنه قول ذي الرمة:
ذوية ودجا ليل كأنهما | يم تراطن في حافاته الروم |
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
قوله: الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ كناية عن بني إسرائيل لاستعباد فرعون لهم وغلبته عليهم، وقوله:
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا قال الحسن وقتادة وغيرهما: يريد أرض الشام، وقال أبو جعفر النحاس: وقيل يراد أرض مصر وهو قول الحسن في كتاب النقاش، وقالت فرقة: يريد الأرض كلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يتجه إما على المجاز لأنه ملكهم بلادا كثيرة، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم وهو سليمان بن داود ولكن الذي يليق بمعنى الآية وروي فيها هو أنه ملك أبناء المستضعفين بأعيانهم مشارق الأرض ومغاربها لا سيما بوصفه الأرض بأنها التي بارك فيها ولا يتصف بهذه الصفة وينفرد بها أكثر من غيرها إلا أرض الشام لما بها من الماء والشجر والنعم والفوائد، وحكى الطبري عن قائل لم يسمه وذكر الزهراوي أنه الفراء: أن مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا نصب على الظرف أي يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن قوله: الَّتِي بارَكْنا فِيها معمول ل أَوْرَثْنَا، وضعفه الطبري، وكذلك هو قول غير متجه، والَّتِي في موضع خفض نعت ل الْأَرْضِ، ويجوز أن يكون في موضع نصب نعت لمشارق ومغارب، وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى أي ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه، قاله مجاهد، وقال المهدوي: وهي قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: ٥] وقيل هي قوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ صفحة رقم 446

[الأعراف: ١٢٩]، وروي عن أبي عمرو «كلمات» ويَعْرِشُونَ قال ابن عباس ومجاهد معناه يبنون وعرش البيت سقفه والعرش البناء والتنضيد، وقال الحسن هي في الكروم وما أشبهها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ الباقون: ابن عامر وعاصم فيما روي عنه والحسن وأبو رجاء ومجاهد بضمها، وكذلك في سورة النحل وهما لغتان، وقرأ ابن أبي عبلة «يعرّشون ويعكّفون» بضم الياء فيهما وفتحة العين مشددة الراء والكاف مكسورتين.
قال القاضي أبو محمد: ورأيت للحسن البصري أنه احتج بقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ إلى آخر الآية، على أنه لا ينبغي أن يخرج على ملوك السوء وإنما ينبغي أن يصبر عليهم، فإن الله تعالى يدمرهم، ورأيت لغيره أنه قال: إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه، وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الله بالفرج، وروي هذا القول أيضا عن الحسن.
وقرأ جمهور الناس «وجاوزنا» وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «وجوزنا» ذكره أبو حاتم والمهدوي، والمعنى قطعناه بهم وجزعناه وهذه الآية ابتداء خبر عنهم، قال النقاش: جاوزوا البحر يوم عاشوراء، وأعطي موسى التوراة يوم النحر القابل بين الأمرين أحد عشر شهرا، وروي أن قطعهم كان من ضفة البحر إلى ضفة المناوحة الأولى وروي أنه قطع من الضفة إلى موضع آخر منها.
قال القاضي أبو محمد: فإما أن يكون ذلك بوحي من الله وأمر لينفذ أمره في فرعون وقومه وهذا هو الظاهر، وإما بحسب اجتهاد موسى في التخلص بأن يكون بين وضعين أوعار وحايلات، ووقع في كتاب النقاش أنه نيل مصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ لا تساعده رواية ولا يحتمله لفظ إلا على تحامل، وإنما هو بحر القلزم و «القوم» المشار إليهم في الآية العرب، قيل هم الكنعانيون، وقال قتادة وقال أبو عمران الجوني: هم قوم من لخم وجذام، والقوم في كلام العرب الرجال خاصة، ومنه قول زهير:
ولا أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
عكف النّبيط يلعبون الفنزجا
و «الأصنام» في هذه الآية قيل كانت بقرا على الحقيقة، وقال ابن جريج: كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من مقالة بني إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أنهم استحسنوا ما رأوه من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به صفحة رقم 447