آيات من القرآن الكريم

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَاقِبَةَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَتَأْوِيلَهَا فِي الْمِصْرِيِّينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ عَاقِبَتِهَا وَتَأْوِيلَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْبَلِيغَةِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْبِيَرُ عَنِ اسْتِخْلَافِ اللهِ قَوْمًا فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِالْإِيرَاثِ، أَيْ وَأَعْطَيْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ فِي مِصْرَ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْخِصْبِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، مَشَارِقُهَا مِنْ حُدُودِ الشَّامِ وَمَغَارِبُهَا مِنْ حُدُودِ مِصْرَ تَحْقِيقًا لِوَعْدِنَا وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٢٨: ٥، ٦)
رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِيرِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هِيَ قُرَى الشَّامِ، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَوْذَبٍ: فَلَسْطِينُ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ اللهَ بَارَكَ فِي الشَّامِ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْعَرِيشِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (٢١: ٧١) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (٢١: ٨١) وَقَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بَعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (١٧: ١).
وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي كَانَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ وَفَلَسْطِينَ جَمِيعًا، وَرُبَّمَا يَتَرَاءَى أَنَّ إِرَادَةَ أَرْضِ مِصْرَ هِيَ الْظَاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٦: ٥٧، ٥٩) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٤٤: ٢٥ - ٢٨) لِأَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَأِ وَالْجُنْدِ مِنْ مِصْرَ وَتَرَكُوا

صفحة رقم 85

مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، إِلَى الْغَرَقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَحِيمِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَظْهَرُ فِي بِلَادِ الشَّامِ ذَاتِ الْجَنَّاتِ الْكَثِيرَةِ، وَالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ، وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا إِزَالَةُ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَنْهَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ التَّفَكُّهِ بِنَعِيمِهَا، فَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ فَلَسْطِينَ إِلَى الشَّامِ تَابِعَةً لِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُسْتَعْمِرَةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا حُكَّامًا وَجُنُودًا لِئَلَّا تَنْتَقِضَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسْكُنَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِخَيْرَاتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ جُمْلَةً مِنَ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْقَدِيمِ الْوَحِيدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ ذِكْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْطِقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ كَانَتْ تَابِعَةً لِمِصْرَ.
عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا مِنْ أَنَّ مُوسَى اسْتَوْلَى عَلَى مِصْرَ، وَتَمَتَّعَ هُوَ وَقَوْمُهُ بِالسِّيَادَةِ فِيهَا طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ، نَذْكُرُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صِدْقُ الْآيَاتِ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَى صِحَّةِ مَضْمُونِهِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةٍ لِأَحَدِ مَبَاحِثِ الدُّكْتُورِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَعَقَائِدِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهَذَا نَصُّهُ (كَمَا فِي ص٤٤٦، ٤٤٧ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ) :
" جَاءَ فِي كِتَابِ (الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ) صَفْحَةِ ٨٨ لِمُؤَلِّفِهِ لِيَنْجَ أَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الشَّهِيرَ نَقَلَ عَنْ (مَانِيثُونَ) هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمِصْرِيَّةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي مُلَخَّصُهَا " أَنَّ مُوسَى بَعْدَ أَنْ هَزَمَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ - الَّذِي فَرَّ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ - حَكَمَ مِصْرَ ١٣ سَنَةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى فِرْعَوْنَ هُوَ وَابْنُهُ، وَمَعَهُمَا جَيْشٌ عَظِيمٌ فَقَهَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ " وَجَاءَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ
لِبُوسْتَ مُجَلَّدِ ١ص٤١٠ أَنَّ هِيرُودُوتَسَ الْمُؤَرِّخَ الْيُونَانِيَّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ قَالَ: " إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ ضُرِبَ بِالْعَمَى مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ رَمَى رُمْحَهُ فِي النَّهْرِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَمْوَاجُهُ وَقْتَ فَيْضِهِ؛ بِسَبَبِ نَوْءٍ شَدِيدٍ إِلَى عُلُوٍّ غَيْرِ اعْتِيَادِيٍّ " اهـ، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ هَذَا (وَهُوَ مِنْفِتَاحُ الثَّانِي) هُوَ فِرْعَوْنُ الْخُرُوجِ، وَيَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ إِشَارَةً إِلَى غَرَقِهِ فِي زَمَنِ مُوسَى، لَكِنْ يَرَى الْقَارِئُ مِنْهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْغَرَقِ لَكَانَ الْغَرَقُ فِي النِّيلِ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُعْلَمُ أَنَّ مُوسَى حَكَمَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ ١٣ سَنَةً فِي مِصْرَ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا مِنْ أَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتَا الْوَحِيدَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ الْمِصْرِيِّينَ اسْتَغَاثُوا بِمَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى بِالْخُرُوجِ حِينَئِذٍ مِنْ مِصْرَ، وَتَرْكِهَا لِأَهْلِهَا، وَعَلَيْهِ يَجُوزُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَتَمُوا خَبَرَ غَرَقِ مَلِكِهِمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ دَعْوَى تَقَهْقُرِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ

صفحة رقم 86

وَأَخْرَجَ مُوسَى بِالْقُوَّةِ؛ سِتْرًا لِخِزْيِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، وَإِرْضَاءً لِمُلُوكِهِمْ وَأَسَرَ (جَمْعَ أُسُرِهِ بِالضَّمِّ) هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ، وَرُبَّمَا أَنَّهُ لَوْلَا عِظَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَشُهْرَتُهَا بَيْنَهُمْ لَأَنْكَرُوهَا بِالْمَرَّةِ.
" وَمِنْ ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ غَرَقِ الْمِصْرِيِّينَ مُبَاشَرَةً كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الَّتِي غَرَقَ فِيهَا فِرْعَوْنُ وَجَيْشُهُ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ سِنِينَ ".
وَيَرَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ أَنَّ هَاتَيْنِ الرُّوَايَتَيْنِ صَادِقَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي النِّيلِ، وَمَسْأَلَةِ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ ١٣ سَنَةً، وَأَمَّا الْغَرَقُ فِي النَّيْلِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقُرْآنِ مَثَلًا فِي سُورَةِ طَهَ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ (٢٠: ٣٨، ٣٩) ثُمَّ قَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ غَرَقَ فِي نَفْسِ الْيَمِّ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ مُوسَى وَهُوَ النِّيلُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (٢٨: ٧) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهَا بَعْدُ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودُهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
(٢٨: ٤٠).
" وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا هُوَ وَقَوْمُهُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ الْغَرَقِ فَهُوَ أَيْضًا الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَادَ أَيْ: فِرْعَوْنُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ (١٧: ١٠٣، ١٠٤) وَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٦: ٥٧ - ٥٩) وَيَجُوزُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُعْطِيَتْ لِمُوسَى فِي الطُّورِ قَبْلَ تَرْكِهِ حُكْمَ مِصْرَ.
" وَفِي زَمَنِ مُوسَى أَعْطَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ - بَدَلًا عَنْ مِصْرَ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا - الْمَمَالِكَ الَّتِي فِي شَرْقِ الْأُرْدُن كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي زَمَنِ يَشُوعَ أَعْطَاهُمْ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَّا بَعْضَ أَجْزَاءٍ مِنْهَا (يش ١٣: ١) وَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُمْ هِيَ مِنْ أَخْصَبِ أَرَاضِي الْعَالَمِ وَأَحْسَنِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا مِنْ قَبْلُ.
" فَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِلْمُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ؟ وَمُغَايِرٌ لِلتَّوْرَاةِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا - حَتَّى الْآنَ - إِلَّا وَاسِعُو الِاطِّلَاعِ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ؟
" وَأَمَّا مَانِيثُو Manetho الْمَذْكُورُ هُنَا الَّذِي وَافَقَتْ رِوَايَتُهُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ كَاهِنًا لِمَعْبَدٍ مِنْ أَقْدَمِ الْمَعَابِدِ وَأَشْهَرِهَا، وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخَ مِصْرَ بِأَمْرِ بَطْلَيْمُوسَ فِيلَادَلْفُوسَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَدَقِّ مُؤَرِّخِي الْقُدَمَاءِ وَأَصْدَقِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ بِأَوْثَقِ الْمَصَادِرِ

صفحة رقم 87

وَأَصَحِّهَا فِي كِتَابَةِ تَارِيخِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّارِيخَ فُقِدَ مَعَ مَا فُقِدَ فِي حَرِيقِ مَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى مُقْتَطَفَاتٍ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَقَدْ أَيَّدَ أَكْثَرُ هَذِهِ الْمُقْتَطَفَاتِ مَا اكْتُشِفَ حَدِيثًا مِنَ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْمَكْتُوبَاتِ الْعَتِيقَةِ مَعَ أَنَّ آبَاءَ النَّصْرَانِيَّةِ كِيُوسِيبْيُوسَ حَرَّفُوا كَعَادَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا نَقَلُوهُ مِنْهَا لِتُطَابِقَ نُصُوصَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ لِيَنْجُ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ " ص١١ مِنْهُ اهـ.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا تَمَامُ الشَّيْءِ: وُصُولُهُ إِلَى آخِرِ حَدِّهِ، وَكَلِمَةُ اللهِ: وَعْدُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ. فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرٍ: مَضَى عَلَيْهِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرِكَ، وَتَمَّ
إِلَى مَقْصِدِكَ، وَالْمَعْنَى: نَفَذَتْ كَلِمَةُ اللهِ، وَمَضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَامَّةً كَامِلَةً؛ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ الَّتِي كَابَدُوهَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ مَقْرُونًا بِأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّقْوَى لَهُ كَمَا أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْلِيغًا عَنْهُ تَعَالَى. رَاجِعْ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا الْآيَةَ، مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَإِذْ كَانَ قَدْ تَمَّ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ سَلَبَهُمُ اللهُ تِلْكَ الْأَرْضَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مُقْتَضَى الْوَعْدِ أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ، وَنَفَذَ صِدْقًا وَعَدْلًا.
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ التَّدْمِيرُ: إِدْخَالُ الْهَلَاكِ عَلَى السَّالِمِ وَالْخَرَابِ عَلَى الْعَامِرِ، الْعَرْشُ: رَفْعُ الْمَبَانِي وَالسَّقَائِفِ لِلنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ الْمُتَسَلِّقِ كَعَرَائِشِ الْعِنَبِ، وَمِنْهُ عَرْشُ الْمَلِكِ، وَالْمُرَادُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَيْدِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْأَوَّلُ كَالْمَبَانِي الَّتِي كَانُوا يَبْنُونَهَا لِلْمِصْرِيِّينَ أَوْ يَصْنَعُونَ اللَّبَنَ لَهَا، وَمِنْهَا الصَّرْحُ الَّذِي أُمِرَ هَامَانُ بِبِنَائِهِ؛ لِيَرْقَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، وَالثَّانِي: كَالْمَكَايِدِ السِّحْرِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا السَّحَرَةُ؛ لِإِبْطَالِ آيَاتِهِ أَوِ التَّشْكِيكِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ (٢٠: ٦٩) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمِلَهُ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٤٠: ٣٦، ٣٧) وَالتَّبَابُ بِمَعْنَى الدَّمَارِ.
وَأَمَّا أَسْبَابُ هَذَا التَّدْمِيرِ لِذَلِكَ الصُّنْعِ وَالْعُرُوشِ فَأَوَّلُهَا: الْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَغَيْرِهَا -، وَتُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ الضَّرَبَاتِ، وَفِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي ضَرَرِهَا وَتَخْرِيبِهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ - وَيَلِيهَا: إِنْجَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحِرْمَانُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ اسْتِعْبَادِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَثَالِثُهَا: هَلَاكُ مَنْ غَرَقَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَحِرْمَانُ الْبِلَادِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ مِنْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعُمْرَانِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْهَا، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى

صفحة رقم 88

بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَدْ أَنْذَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ ذَلِكَ لِيَتَّقُوا سُوءَ عَاقَبَتِهِ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْإِعْنَاتِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَفَكَّرَ تَالِي الْقُرْآنِ فِي
تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْوَحْيِ فِي مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ إِذْ تَصَدَّيَا لِأَعْظَمِ مَلِكٍ فِي أَعْظَمِ دَوْلَةٍ فِي الْأَرْضِ، قَاهِرَةٍ لِقَوْمِهِمَا، وَمُعَبِّدَةٍ لَهُمْ فِي خِدْمَتِهَا مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، فَدَعَوَاهُ إِلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، وَتَعْبِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْذَرَاهُ وَهَدَّدَاهُ، وَمَا زَالَا يُكَافِحَانِهِ بِالْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى أَظْفَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْقَذَا قَوْمَهُمَا مِنْ ظُلْمِهِ وَظُلْمِ قَوْمِهِ.
فَجَدِيرٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا إِلَى التَّفَكُّرِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، كَمَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ إِذَا هُمْ قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَأَلَّا يَسْتَعْظِمُوا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ قُوَّةَ الدَّوْلَةِ الظَّالِمَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْحَقِّ الَّتِي نَصَرَهَا اللهُ تَعَالَى بِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَعْظَمِ الدُّوَلِ لَا تُغْلَبُ إِذَا نَصَرْنَاهَا، وَنَحْنُ مِئَاتُ الْمَلَايِينِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (٤٧: ٧) وَيَقُولُ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧)
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَجَدَّدَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْيَهُودِ انْتِزَاعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِهَا الْعَرَبِ، وَتَنَازَعُ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ وَعْدِ اللهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَا أَنْجَزَهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُعْتَبِرُ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ وَعْدِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا لِلْعَرَبِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَآلِهِمُ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَلَعْنَتُهُ وَخِزْيُهُ عَلَى الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ الْمُضِرِّينَ. فَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ لِلْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا كَانُوا مُتَّقِينَ، وَأَخْطَأَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ رَسُولِهِمْ فَأَدَّبَهُمِ اللهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ.
أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ مُوسَى مِنْ مِصْرَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَرْضُ، بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنْهُمْ وَلَا سَعْيٍ، فَامْتَنَعُوا مِنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجَبَّارِينَ، قَالُوا لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٥: ٢٤) فَحَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا عَرَضَ الْغُرُورُ لِبَعْضِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ بِمَا كَانَ مِنْ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالزَّادِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ كَمَا وُعِدُوا، وَإِنْ قَصَّرُوا فِيمَا أُمِرُوا، فَلَمَّا أُصِيبُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ تَعَجَّبُوا وَاسْتَفْهَمُوا، فَأَجَابَهُمْ

صفحة رقم 89

اللهُ تَعَالَى بِمَا عَلِمُوا بِهِ أَنَّ وَعْدَهُ الْمُطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: كَتَبَ اللهِ لِأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (٥٨: ٢١) وَقَوْلُهُ:
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) مُقَيَّدٌ بِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (٤٧: ٧) وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (٨: ٤٦) أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (٣: ١٦٥) إِلَى آخِرِ مَا فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَعَ سِيَاقِهَا مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.
نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ الْأَوَّلَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ لِذُرِّيَّتِهِ، فَجَعَلَهَا أَوَّلًا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْحَاقَ، ثُمَّ نَزَعَهَا مِنْهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ أَعْطَاهَا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ انْتَزَعَ السُّلْطَانَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَيْضًا بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَجَدَّدَ التَّنَازُعُ فِي رَقَبَتِهَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ - بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَنِي إِسْمَاعِيلَ - بِإِغْرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَأَوْقَعُوا الشِّقَاقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيهَا، وَهُمْ أَحَذَقُ الْخَلْقِ فِي ضَرْبِ الشُّعُوبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَسَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ قَوْمُنَا بِالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَّكِلنَّ عَلَى الْمُتَّجِرِينَ بِالْأَقْوَامِ، وَلَا يَنْخَدِعَنَّ بَعْدُ بِشَقَاشِقِ الْكَلَامِ، وَلَا يَنُوطُنَّ الزَّعَامَةَ بِأَصْحَابِ الْأَنْسَابِ الْفَاقِدِينَ لِلْعِلْمِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ ثَبَتَتْ مُوَالَاتُهُمْ لِأَعْدَاءِ الْبِلَادِ، وَسَالِبِي اسْتِقْلَالِهَا، وَوَاضِعِي الْخُطَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِانْتِزَاعِ رَقَبَتِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالِانْقِرَاضِ مِنْهَا بِتَعَذُّرِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، لَا بِالْإِبْعَادِ الْقَسْرِيِّ عَنْهَا، بِأَنْ يَكُونَ شَأْنُهُمْ فِي هَذَا كَسُكَّانِ أَمْرِيكَا قَبْلَ اسْتِعْمَارِ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ لَهَا.
وَلَا مُنْجَاةَ لِعَرَبِ فَلَسْطِينَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ شَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا أَشَدُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَثَرْوَةً وَدَهَاءً وَكَيْدًا، وَعِلْمًا وَصَبْرًا وَجَلَدًا، إِلَّا بِاتِّحَادِهِمْ مَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِاسْتِبْسَالِ، وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الدِّفَاعِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ أُمَّتِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَمَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ الْمَعْنَوِيِّ عَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمَا، وَلَا أَمْنَ عَلَيْهِمَا، مَعَ إِحَاطَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِهِمَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطُوا خَطْوَةً وَاحِدَةً فِي طَرِيقِ الْوَحْدَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ خَطَوْا خَطْوَتَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ فِي سَبِيلِ الشِّقَاقِ، وَالتَّفَرُّقِ بَيْنَ الْإِمَارَاتِ الْمُسَلَّحَةِ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، نَفَّرُوا بِهِمَا أَكْبَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهُمْ.
(الْأُولَى) : مُوَالَاةُ صَاحِبِ الْحِجَازِ الَّذِي أَعَانَ الْإِنْكِلِيزَ عَلَى فَتْحِ بِلَادِهِمْ ثُمَّ
كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مُثَبِّتًا لِأَقْدَامِهِمْ فِيمَا جَاوَرَهَا، وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِهَا، بِأَنْ أَقَرُّوهُ عَلَى انْتِحَالِهِ لِنَفْسِهِ مَلِكَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى سَعْيِهِ لِإِخْضَاعِ تِلْكَ الْإِمَارَاتِ لِحُكْمِهِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى قُوَّةِ الْغَاصِبِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَوْلَا وُجُودُ أَحَدِ أَوْلَادِهِ (عَبْدِ اللهِ) فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ

صفحة رقم 90
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية