
وقال الزجاج: (إنما (١) أخذوا بالضر لأن أحوال الشدة ترق القلب وترغب فيما عند الله وفي الرجوع، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، وقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾) (٢) [فصلت: ٥١].
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: كي تتعظوا) (٣).
وقال أهل المعاني: (في العل) من الله تعالى أن معناه: أنه عاملهم معاملة الشاك إظهاراً للعدل بعد معرفته وعلمه أنَّهم يذّكرون أم لا. كما جاء الابتلاء والاختبار من الله تعالى للعبد على هذا التقدير) (٤).
١٣١ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾، قال ابن عباس (٥) والمفسرون (٦): (معنى ﴿الْحَسَنَةُ﴾ يريد بها: الغيث والخصب والثمار والمواشي والألبان والسعة في الرزق، والعافية والسلامة).
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾. أي: أنَّا مستحقوه (٧) على العادة التي
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٨.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) نقل هذا القول الرازي ١٤/ ٢١٥، عن الواحدي، وقال الطبري ٩/ ٢٨ في تفسير الآية: (يقول: عظة لهم وتذكيرًا لهم لينزجروا عن ضلالتهم ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة) اهـ، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٦٧.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٠، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢١٥.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٩، وأخرج عن مجاهد وابن زيد من طرق جيدة نحوه، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٣، والثعلبي ٦/ ٩ أ، والماوردي ٢/ ٢٥١.
(٧) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٣٩١.

جرت لنا من نعمنا وسعة أرزاقنا في بلادنا، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروا عليه، ويقوموا بحق النعمة فيه.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ يريد: القحط والجدب والمرض والبلاء والضرّ، ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾، أي: يتشاءموا، وقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، والتطير: التشاؤم في قول جميع المفسرين (١).
وقوله تعالى: ﴿يَطَّيَّرُوا﴾ هو في الأصل يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاءة لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾. قال ابن عباس: (يريد شؤمهم عند الله) (٣)، يريد من قبل الله، أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله وجرأتهم (٤) عليه.
وقال الكلبي: (يقول إن الذي أصابهم هو من الله) (٥)، وهذا قول
(٢) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٦٨.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٣، والبغوي ٣/ ٢٦٩ بلفظ: (شؤمهم عند الله ومن قبل الله). وأخرج الطبري ٩/ ٣٠ بسند جيد عن ابن عباس قال: (يقول مصائبهم عند الله) اهـ. وفي رواية قال: (الأمر من قبل الله) اهـ، وذكره الثعلبي ٦/ ٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٩ عنه أنه قال: (طائرهم ما قضى الله عليهم وقدر لهم) اهـ.
(٤) في (ب): (وجرأتهم على الله عليه)، وهو تحريف.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٠.

أكثر المفسرين (١) في الطائر أن معناه هاهنا: الشؤم، ومثل هذا قوله تعالى في قصة ثمود وتشاؤمهم بنبيهم: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٤٧].
قال الفراء: (كما تشاءمت اليهود بالنبي - ﷺ - بالمدينة، فقالوا (٢): غلت أسعارنا، وقلت أمطارنا مُذْ أتانا) (٣).
قال الأزهري: (وقيل للشؤم: طائر وطَيْر وطِيَرة؛ لأن العرب كان من شأنها عِيَافَةُ الطير وزجرها، والتَّطيُّر ببارحها، وبِنَعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فَسَمَّوا الشؤم طَيْراً وطائِراً وطِيَرَة لتشاؤمهم بها.
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طِيَرَتهم باطلة فقال: "لا طِيَرة ولا هام" (٤)، وكان النبي - ﷺ - (٥) يتفاءل ولا يَتَطَير (٦)، وأصل الفأل الكلمة
(٢) لفظ: (فقالوا) ساقط من (أ).
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٢.
(٤) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري رقم (٥٧٧٠) كتاب الطب، باب: لا هامة، ومسلم رقم (٢٢٢٠) كتاب السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" اهـ. والهامة: طائر معروف. وقيل إن عظام الميت وروحه تنقلب هامة تطير، والصفر: داء يأخذ البطن. انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" ١٤/ ٣١٠.
(٥) في (أ): (عليه السلام).
(٦) أخرج البخاري رقم (٥٧٥٧) كتاب الطب، باب: الفأل. ومسلم رقم (٢٢٢٣ - ٢٢٢٤) كتاب السلام، باب: الطيرة والفال، عن أبي هريرة، عن النبي - ﷺ - قال: =

الحسنة يَسمعُها عليل فيتأول فيها ما يدل على برئه، والطيرة مضادة للفأل، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطِّيَرة واحد (١)، فأثبت النبي - ﷺ - الفأل واستحسنه، وأبطل الطِّيَرة ونهى عنها) (٢).
وقال أبو عبيدة في قوله: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾: (أي: حظهم) (٣)، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: (طائرهم ما قُضِي عليهم وقُدر لهم) (٤).
والعرب تقول: أطرت المال وَطيَّرته بين القوم فَطَار لكل (٥) منهم سَهْمُه، أي: صار له (٦). ومنه الحديث: "أطره خُمراً بين نسائك" (٧) أي:
(١) في (أ): (واحدًا).
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠ (طير).
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٦ وفيه: (مجازه إنما طائرهم وتزاد (ألا) للتنبيه والتوكيد، ومجاز طائرهم حظهم ونصيبهم) اهـ.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) في (ب): (فطار لكل واحد منهم سهمه).
(٦) النص من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠.
(٧) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٢٠٧١) كتاب اللباس والزينة، باب: استعمال إناء الذهب والفضة، وأبو داود ٤/ ٣٢٢ رقم (٤٠٤٣)، والنسائي ٨/ ١٩٧ - ١٩٨ كتاب الزينة، باب: ذكر الرخصة للنساء في لبس السيراء، وباب النهي عن لبس الإستبرق، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله - ﷺ - حلة سيراء فبعث بها إلى فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه فقال: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء". وفي رواية: (فأمرني =

فرقة، وطائر كل واحد ما يطير له أي: يخصه، ومنه قول لبيد:
تَطِيرُ عَدَائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً | وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلَامِ (١) |
[قال: (وقال بعضهم (٤): ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ حظهم، والمعنى واحد) (٥)، فجعل تفسير قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ما وعدوا في الآخرة مما ينالهم في الدنيا] (٦)، يريد: أن جميع ما يصيبهم في الدنيا والآخرة هو من الله تعالى، وجعل معنى القولين في الطائر واحداً وإن اختلف الأصلان؛ لأن المعنى فيهما: ما يصيبهم من شرّ وضرّ.
(١) "ديوانه" ص ٢٠٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠، و"الدر المصون" ٥/ ٤٢٩، وتطير: أي تخرج، والعدائد: المال والميراث وقيل: الأنصباء. والأشراك: الشركاء، والزعامة: الرياسة والحظ من المغنم.
(٢) هذا من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠.
(٣) في النسخ: (إلى ما ينالهم في الدنيا)، وهو تحريف.
(٤) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٦.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٩.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).