
واسطة بينه وبينهم ليبلغوهم كلامه ويعرفوهم أحكام دينه، وقد تكون الواسطة من غير البشر كالملائكة مع الأنبياء، ومن جنس البشر كالأنبياء مع الأمم، ولا مانع من هذا عقلا، والمراد بالعقل هو السليم الذي يصدر عنه الفكر السامي والتدبير النافع، وإلا فلا يسمى عقلا بل طيشا، كما أن النفس لا تكون طاهرة، إلا إذا كان لها مبدأ شريف تحلى بمكارم الأخلاق ناشيء عن قلب طيب ولا يكون القلب طيبا إلا إذا كان له حب طاهر في الأمور النافعة وإلا فهو رجس، فإذا جاز هذا في العقل، وقد جاءت الرسل بمعجزات دلت على صدقهم وجب تصديقهم في جميع ما يأتون به، لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائمة مقام قول الله عز وجل، صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه، وتختلف عن الكرامة بعدم دعوى التحدي وتخالف السحر بعدم الدوام، قال تعالى «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» وهم أهل الحل والعقد من عماله بعد رؤية هاتين الآيتين «إِنَّ هذا» الساحر موسى «لَساحِرٌ عَلِيمٌ ١٠٩» ماهر في السحر لأنه يأخذ بأعين الناس ويخيل لهم قلب العصى حية والسمرة بياضا ناصعا، وكان عليه السلام آدم اللون أسمر وقد أراهم يده السمراء بيضاء تتوقد نورا وكان في ذلك الزمن السحر غالب على كل ما يدعى من الفضل كما كان الطب في زمن عيسى
والبلاغة في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يعارض هذه الآية ما جاء في سورة الشعراء الآتية انها من قول فرعون لملائه لأن الكلام متبادل بينهم فتارة هو يقول لملائه كما في الآية ٣٤ منها وأخرى هم يقولون له كما في هذه الآية لما بهرهم مما رآوا، وهذا من باب اتحاد الرأي وتوارد الخاطر في الكلام، ولإعلام العامة أن هذا سحر ليس كما يقول موسى معجزة «يُرِيدُ» هذا الساحر موسى «أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» أيها القبط وطن آبائكم «فَماذا تَأْمُرُونَ ١١٠» به من الرأي، أشيروا عليّ بما يجب أن أعمله لحفظ كيانكم وبلادكم وعلو كلمتكم لأن هذا يريد سلب ملككم ونعمتكم ويستعيدكم كما استعبدنا قومه
«قالُوا» لما رأوا فرعون هم بقتله وتوقف على أخذ رأيهم «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» هرون، لأنه كان معه إلا أنه لم يتول شيئا ولم يتكلم لأن الله أرسله مصدقا لأخيه وعونا له ونائبا عنه بغيابه

أي أخرهما لا تقتلهما ليتبين حالهما للناس أنهما ساحران، وقال بعض المفسرين أرادوا حبسهما، ولذلك قال صاحب روح البيان إنه لم يكن قادرا على حبسهما لما رأى من المعجزتين، وهو وجيه، ولكن يرده ما جاء في سورة الشعراء بعد نظير هذه الآية في الآية ٣٥ منها (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وما قيل إن آية الشعراء هذه نزلت قبل آية الأعراف هذه غير سديد لأن الشعراء لم تنزل بعد وأن الطواسيم نزلت متوالية، أما إذا أراد أنه في علم الله غير قادر على حبسهما فمسلم والواقع يؤيده إذ لم يثبت أنه حبسهما، ثم قالوا له «وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ١١٥» من شرطتك يجمعون لك السحرة من كافة المدن، واشتقاق المدينة من مدن بالمكان إذا أقام به وأمرهم بحزم وعزم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ١١٢» بالسحر ماهر بفتونه ليتبارون معه، فإن كان ما عنده من السحر غلبوه وظهروا عليه وبان للناس أنه وأخوه ساحران، فإذا قتلتهما بعد ذلك فلا لوم عليك لأنهما مفسدان والمفسد يجوز قتله، أما قتلهما الآن قبل أن يظهر كذبهما للعامة ففيه ما فيه من التعدي والظلم وسوء السمعة على الملك ونحن لا نريد أن تسام بالظلم، وان تقتل دون أن يتحقق استحقاق القتل لمن تقتله.
وجاء في الآية ٢٧ من الشعراء سحّار بالمبالغة وهو الذي يدوم سحره ويعلّم الناس السحر، والساحر من يكون سحره منقطعا وقتا دون وقت، قال ابن عباس والسدي وابن اسحق: لما رأى فرعون من سلطان الله وقدرته في العصا واليد قال لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فبعث غلمانا من بني إسرائيل إلى مدينة الغوصاء ليعلموهم السحر، وضرب لموسى موعدا للمباراة بعد أن تعلموا جاءوا ومعلموهم، فقال فرعون للمعلم: ما صنعته؟ قال علمتهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فلا طاقة لهم به ثم بعث من مماليكه حسبما أشار عليه ملؤه، فلم يترك ساحرا إلا أتى به، قال مقاتل، جمع اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل، ثم قال الملأ لفرعون إن غلبوا موسى علمنا والناس أجمع أنه ساحر وإذ ذاك إذا قتلتهما فلا لوم عليك لما في بقائهما من الفساد والإفساد، وإن غلبهم صدقناه واتبعناه، فلم يرد على كلامهم لأن الشق الأخير منه لم يعجبه لأنه

بفطنته علم أن ما جاء به موسى من عند الله وفي تصديقه ذهاب ملكه، ولولا خشيته ذهاب الملك لآمن به، لأن ما هو عليه من حذق ومهارة لا يخفى عليه السحر من غيره.
مطلب ما وقع بين موسى والسحرة:
«وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا» يا فرعون أ «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» عندكم تعطونا إياه «إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ١١٣» لموسى وأخيه ولا يقال هنا إن حق الكلام أن يقال (فقالوا) لأن الكلام فيه حذف وإيجاز وهو من محسنات البديع في الكلام والتقدير كأن سائلا سئل ما قالوا إذ جاءوا إليه فأجيب بقوله قالوا ومثله كثير في القرآن وهذه جرأة من القائل راجع الآية ٦٧ من يونس في ج ٢ وما ترشدك إليه «قال» فرعون بحضور ملأه لأن القول الفصل له وإنما لملائه إبداء الرأي فقط، وهكذا يكون الوزراء مع الملوك راجع الآية ٣٢ من سورة النمل الآتية «نَعَمْ» إن لكم عندنا لأجرا وتكرمة «وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ١١٤» عندنا رفعة ومكانة إذا غلبتم موسى، وأخذهم لأرض الميعاد وجاء موسى وأخوه وتفاوض مع السحرة وأبدى لهم نصحه، وأخبرهم أن ما جاء به ليس بسحر، بل هو من عند الله، وأكد لهم ذلك، وأرشدهم للكف عما جاءوا به، فلم ينجع بهم لما يؤملونه من فرعون وهم لم يروا بعد من موسى شيئا «قالُوا» كف عنا ما تقول «يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» عصاك أو غيرها مما عندك من أنواع السحر «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ١١٥» ما عندنا من أصناف السحر، وإما هنا بكسر الهمزة لأنها للتخيير وهكذا تكون مكسورة في الشرط والشك أيضا، ومفتوحة في الأمر والنهي والخبر، وإنما قدموه وجعلوا له الخيار في التقديم للإلقاء تأدبا معه لما علموا منه أثناء المفاوضة أنه على علم عظيم ومناظرة مفحمة، حتى أنهم لولا الخوف من فرعون لما ناظروه إذ حصل لهم شبه اليقين أنه ليس بساحر ولذلك منّ الله عليهم بالإيمان والهداية، مكافأة لاحترامهم نبيه موسى وتأدبهم معه، وإنما أمرهم أن يتقدموا عليه بالإلقاء بإلهام من الله لظهور معجزته وبيان غلبه «قالَ أَلْقُوا» ما عندكم إن كنتم

ترون أنكم محقون في مباراتي وان ما تفعلونه حق لا تمويه «فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي وغيرها، وتمثلت للناس بغير ما هي عليه، إذ «سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ» وحرّفوها عن إدراك الحقيقة بالتمويه والتخييل، ولذلك لم يقل جل قوله سحروا الناس لأن السحر صرف العين عن إدراك الشيء وقلبه إلى صورة أخرى بأعينهم، والمعجزة قلب الأعيان حقيقة وبقاء الجوارح على حالها «وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» أي طلبوا بذلك التخيل إيقاع الرهبة والخوف في قلوب الناس من شدة ما أروهم من سحرهم الموصوف بقوله تعالى «وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ١١٦» بأعين الناس إذ أروهم الحبال حيات عظيمة والأخشاب جبالا شامخة وقد تراكمت الحيات بعضها على بعض وملأت الوادي وتشامخت الجبال حتى لا يكاد يدركها الطرف فخاف الناس وفزعوا لهول ما رأوا وذلك لأنهم طلو الجبال بالزئبق وحشوا الأخشاب به أيضا، قبل طلوع الشمس، حتى رآها الناس أنها حبال وأخشاب، وصاروا يدمدمون عليها حتى طلعت الشمس وارتفعت، فلما وصلت حرارتها إلى العصي التوى بعضها على بعض، وارتفعت هي والأخشاب، وكذلك الأحبال بتأثير الزئبق وتطاولت وكلما ازدادت حرارة الشمس ازدادت حركاتها وعظمها، فخيّل للناس أنها صارت حيات وجبالا حقيقية، قالوا وكانت الأرض التي وقعت فيها المباراة ميلا بميل، فلما امتلأت بذلك ضاقت بالناس وتباعدوا فزعا مما رأوا، إذ غلب على ظنهم حقيقة ما رأوا من حركات العصي والأخشاب والأحبال وتعاظمها، وذلك قوله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) الآية ٩٤، وقوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الآية ٦٥ من سورة طه الآتية، وإنما خاف عليه السلام أن يصدق الناس ما رأوه حقيقة ولهذا خاف ليس إلا لأنه بتعليم الله إياه علم أن ذلك سحر وهو موقن أنه يغلبهم لعلمه بحقيقة عملهم فخاف لفزع الناس واضطرابهم، وخوفهم أن يتفرقوا قبل أن يشاهدوا معجزته، وهو إنما أمر السحرة بالتقدم عليه ليرى الناس عظمة ما جاءوا به، ويكبروها، حتى إذا ألقى عصاه وأبطلت ما جاءوا به لأن الله جعل فيها قوة تلقف الزئبق من حبالهم وعصيهم وأخشابهم، قال تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)
صفحة رقم 398