إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير مرة، وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل إلى العالمين لتأكيد وجوب الإيمان بها، وذكر الاسم الجليل الجامع في بيان كونه جديرا بقول الحق عليه سبحانه تهويلا لأمر الافتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس وراءه غاية فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي تحقيق ذلك. والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب، إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الاعجاز، ولم يكن لذكر مبين معنى مبين، وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل لذلك أيضا أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له، والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا رصاص مموه، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي المحققين، أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: ١٢] أو من تحت أبطه لقوله سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: ٢٢] والجمع بينهما ممكن في زمان واحد، وكانت اليد اليمنى كما صرح به في بعض الآثار فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظار.
فقد روي أنه أضار له ما بين السماء والأرض،
وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده، وقال عليه السلام: ما هذه؟ فقال: يدك. ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس،
وقيل: المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة،
فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط»
وعنى عليه الصلاة والسلام بالزط جنسا من السودان والهنود، ونص البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها حقيقة.
وفي القاموس اليد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف، وأصلها يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة إلى الضمير لما تقرر في محله، وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته.
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس، فهو من الأمر بمعنى المشاورة، يقال: آمرته فآمرني أي شاورته فأشار علي، وقيل من الأمر المعهود، وماذا في محل نصب على أنه مفعول لتأمرون بحذف الجار، أي بأي شيء تأمرون، وقيل: فَما خبر مقدم وذا اسم موصول مبتدأ مؤخر، أي ما الذي تأمرون به قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما، وقيل: احبسهما، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس.
وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه، وقيل عليه أيضا: إنه لم يكن قادرا على الحبس بعد أن رأى ما رأى، وقوله: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ في الشعراء [٢٩] كان قبل هذا، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه، وقال أبو منصور: الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهم الهم بقتله، فقالوا: أخره ليتبين حاله للناس، وليس بلازم كما لا يخفى وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة دون واو ثم حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل، وجعل أرجه كإبل في إسكان وسطه، وبذلك قرأ أبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب على أنه من أرجات، وكذلك قراءة ابن كثير وهشام وابن عامر «أرجئهو» بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الإشباع.
وقرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي «أرجهي» بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت، وفي رواية قالون «أن أرجه» بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان، وهل هما مادتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان، فقال الحوفي: إنها ليست بجيدة، وقال الفارسي: إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين: أحدهما أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت، والثاني أن الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليت ياء ساكنة فلذا كسرت. وأورد على ذلك أبو شامة أن الهمزة تعد حاجزا وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا: إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء فإن فيها قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ وهو صريح في أن إِنَّ هذا لَساحِرٌ إلى فَماذا تَأْمُرُونَ كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملأ والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين. الأول أن هذا الكلام قال فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم، والثاني أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملأ نقلا عنه.
واختار الزمخشري أن ما هنا هو قال الملأ نقلا عن فرعون بطريق التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم: أرجه إلخ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بأرجئوا، ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا، فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب. بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وهاهنا كلام سائر القوم. لكن
لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ الإسلام: إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم: ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهده ثم أنهم اختلفوا في قوله تعالى: فَماذا تَأْمُرُونَ فقيل: إنه من تتمة كلام الملأ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم، وقال الفراء. والجبائي: إن كلام الملأ قد تم عند قوله سبحانه: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ثم قال فرعون: فماذا تأمرون قالوا: أرجه، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه. ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال: وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله: فَماذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون وقوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ كلام فرعون للملأ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون، ولعلهم يحملون على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى. ويمكن أن يقال: إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ما قالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا: أرجه وأخاه، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم، وحكى في الشعراء كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى، ويكون هاهنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي البلاد جمع مدينة، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع، وأريد بها مطلق المدائن، وقيل: مدائن صعيد مصر حاشِرِينَ أي رجالا يجمعون السحرة، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة، وحكى في القاموس فتحها أيضا، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع، ونصب الوصف على أنه صفة المحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه، وقد نص على ذلك الاجهوري يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب.
وقرأ حمزة والكسائي «سحار» وجاء فيه الإمالة وعدمها وهو صيغة مبالغة، وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت، وقيل: الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر والسحار هو المنتهي الذي يتعلم منه ذلك وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للايذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال.
واختلف في عدتهم. فعن كعب أنهم اثنا عشر ألفا، وعن ابن إسحاق خمسة عشر ألفا، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا، وفي رواية تسعة عشر ألفا وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفا، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال: السحرة ثلاثمائة من قومه وثلاثمائة من العريش ويشكون في ثلاثمائة من الاسكندرية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام، وروي نحو ذلك عن الكلبي، والظاهر عدم صحته لأن المجوسية ظهرت زمن زرادشت على المشهور، وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام، واسم رئيسهم كما قال مقاتل: شمعون وقال ابن جريج:
هو يوحنا، وقال ابن الجوزي نقلا عن علماء السير: إن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى قالُوا استئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل: فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه؟ فقيل: قالوا إلخ، وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاؤوا أي جاؤوا قائلين إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عوضا وجزاء عظيما.
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ والمقصود من الإخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا: بشرط أن تجعل لنا أجرا إن غلبنا، ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره «أئن» بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال، وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة، وقيل: له، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر، أي كنا نحن الغالبين لا موسى عليه السلام قالَ نَعَمْ إن لكم لأجرا.
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب، ويسمى مثل هذا عطف التلقين، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا، والمعنى إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين، أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وإن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئا إنما يتهنأ به، ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى، وروي عن الكلبي أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه قالُوا استئناف كنظيره السابق يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقي أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما نلقي أولا أو الفاعلين للإلقاء أو لا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل منّ الله تعالى عليهم بما منّ، أو إظهارا للجلادة وأنه لا يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير، ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر، والظاهر أنه وقع في المحكي كذلك بما يرادفه، وقول الجلال السيوطي: إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلا أو تأكيدا ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا يخفى. وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلا وبين كونه توكيدا بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي نحن نلقي البتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد، وتحقيق ذلك يطلب من محله قالَ أي موسى عليه السلام وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم وعدم مبالاة بهم أَلْقُوا أنتم ما تلقون أولا، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال: إن القاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى: أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: ٦٥] فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة، وقد يقال أيضا: إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول:
بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما
الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا فالآية على حد قوله جل شأنه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: ٦٦] وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في بابه،
يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصيّ زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بواسطة الملك كما هو الظاهر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي علمت من أمرها ما علمت وأَنْ تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيحاء، والفاء في قوله سبحانه:
فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي إلخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع، والافك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فيه حتى صار حقيقة، وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور «تلّقف» بالتشديد وحذف إحدى التاءين فَوَقَعَ أي ظهر وتبين كما قال الحسن ومجاهد والفراء الْحَقُّ وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل، وفائدة الاستعارة كما قيل: الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام، وقيل: المراد من وقع الحق صيرورة العصا حية في الحقيقة وليس بشيء وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في ذلك المجمع العظيم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله سبحانه:
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا، وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضا، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه، والمراد من أُلْقِيَ السَّحَرَةُ إلخ أنهم خروا ساجدين، وعبر بذلك دونه تنبيها على أن الحق بهرهم
واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقي هو الله تعالى بإلهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه، ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش، وجوز أن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم، يروى أن اجتماع القوم كان بالاسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ما صنعوا واحدا بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته، وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام سجدا شكرا الله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه قالُوا استئناف.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء، وقيل: هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربّى موسى عليه السلام في صغره، ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر، وروي أنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين قال فرعون: أنا رب العالمين فقالوا ردا عليه: رب موسى وهارون، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين، وقيل: إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أي الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهارون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة، ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول.
وقال الخازن في ذلك: إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجدا لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم، وقيل: إنهم بادروا إلى السجود تعظيما لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم، وأول من بادر بالإيمان كما روي عن ابن إسحاق الرؤساء الأربعة الذين ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعا قالَ فِرْعَوْنُ منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى: آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء: ٤٩] فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ
[الشعراء: ٤٩] إلخ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلك والاستفهام للإنكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك، ويؤيد ذلك قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم: وروح عن يعقوب «أآمنتم» بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضا.
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن آمركم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ
رَبِّي
[الكهف: ١٠٩] لا أن الإذن منه ممكن في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم، والثانية من صلب الكلمة قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة إِنَّ هذا الصنيع لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ لحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم، قيل: وكذا قوله: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فو الله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم
وهو الذي نشأ عنه هذا القول لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل جانب عضوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل من آخر، والجار في موضع الحال أي مختلفة، والقول بأن مِنْ تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك، وهو كقطع الأيدي والأرجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم، ولهذا سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله قالُوا استئناف بياني إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا أنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره | تعددت الأسباب والموت واحد |
إلى ديان يوم الدين نمضي | وعند الله تجتمع الخصوم |
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع المفعول به، والكلام على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم | تعاب بنسيان الأحبة والوطن |
والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا، وعلى الثاني يكون صَبْراً استعارة أصلية مكنية وأَفْرِغْ تخييلية، وقيل:
الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وهاهنا التطهير، وليس بذاك وإن جل قائله وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد. عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به، وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: ٣٥].
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مخاطبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا أَتَذَرُ مُوسى أي أتتركه وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر.
والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي، ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا المنصوب بأن، أو منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء، وعلى ذلك قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني | وبينكم المودة والإخاء |
وأخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول: إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، ألا ترى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] ومن هنا قال بعضهم: الأقرب أنه كان دهريا منكرا للصانع، وقيل: الإلهة اسم للشمس وكان يعبدها وأنشد أبو علي:
وأعجلنا الإلهة أن تؤبا قالَ مجيبا لهم سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن صفحة رقم 29
كثير. ونافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل.
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضا، والظاهر على ما قيل: إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه، وذكر الطيبي أنه من الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق، وأن الجملة الاسمية كالتذييل لما قبلها فافهم.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب حكيم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من الأقاويل الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ أي أرض مصر أو الأرض مطلقا وهي داخلة فيها دخولا أوليا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الذين أنتم منهم، وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون: إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم الله تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم، وقوله: «والعاقبة» إلخ تقرير لما سبق.
وقرأ أبيّ وابن مسعود «والعاقبة» بالنصب عطفا على اسم أن قالُوا أي قوم موسى له عليه السلام أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار أولادهم قبل مولده وبعده إذ قيل له: يولد لبني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أي رسولا يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب، وقيل: إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء، وقيل: جعل إيعاده بمنزلة فعله لكونه جبارا.
وقيل: أرادوا الإيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام وبعد مولده، وقيل: المراد ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن، وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام، والظاهر أنه لا فرق بين الإتيان والمجيء وأن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات، ولذلك جيء بأن المصدرية أولا وبما أختها ثانيا.
وذكر الجلال السيوطي في الفرق بينهما أن الإتيان يستعمل في المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر هنا إلا أن يتكلف، ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الإتيان هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضا، وهذا منهم جار مجرى التحزن لعدم الاكتفاء بما كنى لهم عليه السلام لفرط ما عراهم وفظاعة ما اعتراهم، والمقام يقتضي الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفىء بذلك بعض الأوام، وقيل: هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام من النجاة والظفر والأول أولى فقوله تعالى: قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بما توعد.
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ أي يجعلكم خلفاء فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر تصريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على أبلغ وجه، وفيه ادماج معنى من عادى أولياء الله تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له الدمار والخسار. وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب، ونص غير واحد على أن التعبير به للجري على سنن الكرماء.
وقيل: تأدبا مع الله تعالى وإن كان الأمر مجزوما به بوحي وإعلام منه سبحانه وتعالى، وقيل: إن ذلك لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم، فقد روي أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام.
وتعقب بأنه لا يساعده قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف: ١٣٧] فإن المتبادر استخلاف المستضعفين أنفسهم لا استخلاف أولادهم، والمجاز خلاف الأصل. نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته، وفي قوله سبحانه:
فَيَنْظُرَ أي يرى أو يعلم كَيْفَ تَعْمَلُونَ أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم إلى الشكر وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر، وقيل: فيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك.
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ شروع في تفصيل مبادئ الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها، والمراد بآل فرعون أتباعه من القبط، وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الأشراف لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيسا، وعن الخطيب أن المراد فرعون وآله، والسنين جمع سنة والمراد بها عام القحط وقد غلبت في ذلك حتى صارت كالعلم له لكثرة ما يذكر ويؤرخ به ولا كذلك العام الخصب، ولامها واو أو هاء، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم إذا قحطوا، وقلبوا اللام تاء ليفرقوا بين ذلك وقولهم أسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة، قال المازني: وهو شاذ لا يقاس عليه، وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء الاعراب على النون لكن مع الياء خاصة فيسلك فيه مسلك حين في الاعراب بالحركات الثلاث مع التنوين عند بني عامر وبنو تميم لا ينونون تخفيفا وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر:
دعاني من نجد فإن سنينه | لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا |
قوله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف عليه السلام» وجاء في رواية أخرى «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف عليه السلام»
وهو على اللغة المشهورة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة عاهات الثمار وخروج اليسير منها حتى لا تحمل النخلة كما روي عن رجاء بن حيوة إلا بسرة واحدة وكان القحط على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة في باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم وقراهم، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء فقال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت؟ أنا لا أقدر على ذلك فغدا يكذبونني، فلما كان جوف الليل قام واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى النيل فقام في بطنه فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل مترعا بالماء لما أراد الله تعالى بهم من الهلكة، وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهريا نافيا للصانع كما قال البعض لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لكي يتعظوا فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا الله تعالى فيتضرعوا له ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده، وقيل: لكي يتذكروا أن فرعون لو كان إلها لدفع ذلك الضر.
وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى ألا ترى قوله تعالى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ إلخ بيان لعدم تذكرهم صفحة رقم 31
وتماديهم في الغي، والمراد بالحسنة كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء، وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم ما يستحسنونه قالُوا لَنا هذِهِ أي إنا مستحقوها بيمن الذات وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي ضيقة وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي يتشاءموا بهم ويقولوا: ما أصابنا ذلك إلا بشؤمهم، وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على ما قال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وتتيمن بالسانح. وفي المثل من لي بالسانح بعد البارح، قال أبو عبيدة: سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال: السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره، وقيل: البارح ما يأتي من جهة الشمال والسانح ما يأتي من جهة اليمين وانشدوا:
زجرت لها طير الشمال فإن يكن | هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها |
والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ما ذكر: لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها. وقال صاحب الكشف: ذلك إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في مقابلة قوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وقوله:
لأن الجنس إلخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي أنه لكثرة الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع، ولهذا لا يزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس. وقوله: وأما السيئة إلخ في مقابلة ذلك دليل بين على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب الإيضاح انتهى.
وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال ما قال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه، وقوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ استئناف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند الله أي من قبله وحكمه كما قال ابن عباس، وقال الزجاج: المعنى ليس الشؤم الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ما ينالهم في الدنيا، وقال الحسن: المعنى الا أن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة، وفسر بعضهم الطائر هنا بالحظ أي إنما حظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله، وقرأ الحسن «إنما طيرهم» وهو اسم جمع طائر على الصحيح لأنه على أوزان المفردات، وقال الأخفش هو جمع له، وروي عن قطرب أن الطير يكون واحدا وجمعا وكذا الطائر، وأنشد ابن الأعرابي:
كأنه تهتان يوم ماطر | على رؤوس كرؤوس الطائر |
أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من العصا والسنين ونقص الثمرات مَهْما تَأْتِنا بِهِ كلمة مهما مما اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم. وقيل: هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه وما الشرطية. وقال الخليل: أصلها ما ما على أن الأولى شرطية والثانية إبهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما الأولى هاء فرارا من بشاعة التكرار، وأسلم الأقوال كما قال غير واحد القول بالبساطة. وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ما ما أن يكتبها بالألف، وفي الشرح وكذا إذا قيل أصلها مه ما. وتعقب ذلك الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأول ينبغي على القول الثاني، وفيه نظر.
وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح، ومحلها الرفع هنا على الابتداء وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على أنها مفعول به لفعل يفسره ما بعد أي أي شيء تحضره لدينا تأتنا به، ومن الناس من جوز مجيئها في محل نصب على الظرفية، وشدد الزمخشري الإنكار عليه في الكشاف، وذكر ابن المنير أنه غر القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما، وخالف ابن مالك في ذلك وقال: إنه مسموع عن العرب كقوله:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله | وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا |
مِنْ آيَةٍ عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان، وتسميتهم إياها آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والاستهزاء بها مع الاشعار بأن هذا العنوان لا يؤثر فيهم وإلا فهم ينكرون كونها آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء قولهم لِتَسْحَرَنا بِها والضميران المجروران راجعان إلى مهما، وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لإبهامه، وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعد ما بين بآية، وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية، ولعله راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن آيَةٍ مسوقة للبيان فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل واحدا أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا الطُّوفانَ أي ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسم جنس من الطواف، وقيل: إنه في الأصل مصدر كنقصان، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف، وقد اشتهر في طوفان الماء وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس، وجاء عن عطاء ومجاهد تفسيره بالموت، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن وعن أبي قلابة أنه الجدري، وهم أول من عذبوا به، وهذان القولان ينجران إلى الخبر المرفوع وَالْجَرادَ هو المعروف واحده جرادة سمي به لجرده ما على الأرض، وهو جند من جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده، وأخرج أبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معللا بما ذكر، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد به الإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك،
وأخرج أبو داود ومن معه عن سلمان قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجراد فقال:
أكثر جنود الله تعالى لا آكله ولا أحرمه»
وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول وَالْقُمَّلَ بضم القاف وتشديد صفحة رقم 33
الميم قيل: هو الدبى وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وقيل: هو القردان جمع القراد المعروف، وقيل: صغار الذر، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان، وعن ابن زيد قال: زعم بعض الناس أنها البراغيث، وعن سعيد بن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها، ويسمى قملا بفتح فسكون وبذلك قرأ الحسن وَالضَّفادِعَ جمع ضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة وَالدَّمَ معروف وتشديد (١) داله لغة.
وروي أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال: يا رب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا. فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا له كما قالوا أولا فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها،
وقيل: جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا، فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلدهم فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا، وقال ابن المسيب: ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاثة أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إناء إلا وجدها فيه، وكان الرجل يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم، وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف الله تعالى عنهم ذلك فنقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها اسقيني ماء فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتفعل ذلك فيصير دما.
وقال ابن أسلم: إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف آياتٍ حال من الأشياء المتقدمة.
مُفَصَّلاتٍ مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما يزعمون، أو مميزا بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهرا كما أخرج ذلك ابن المنذر
عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال: مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل إلخ... فأبوا أن يسلموا.
وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها.
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب المذكور على التفصيل كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد ولَمَّا لا تنافي التفصيل والتكرير كما لا يخفى.
وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل فهلك منهم كثير،
وعن ابن جبير أنه الطاعون، وقد ورد إطلاقه عليه في حديث أسامة بن زيد المرفوع «وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ليذبح كل منكم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على بابه ففعلوا، فقال القبط لهم: لم تجعلون هذا الدم على أبوابكم؟ قالوا: إن الله تعالى يريد أن يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون، قال القبط: فما يعرفكم الله تعالى إلا بهذه العلامة؟ قالوا: هكذا أمرنا نبينا، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون، والمعنى على الأول أنهم كلما وقع عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة.
قالُوا يا مُوسَى في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير ما تقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم «فما» مصدرية، وسميت النبوة عهدا كما قال العلامة الثاني: لأن الله تعالى عهد إكرام الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، «فما» موصولة والجار والمجرور صلة- لادع- أو حال من الضمير فيه، يعني ادع الله تعالى متوسلا بما عهد عندك، ويحتمل أن تكون الباء للقسم الاستعطافي كما يقال: بحياتك افعل كذا، فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو، وأن تكون للقسم الحقيقي وجوابه لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ الذي وقع علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لَئِنْ كَشَفْتَ إلخ، وخلاصة ما ذكروه في الباء هنا أنها إما للالصاق أو للسببية أو للقسم بقسميه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي إلى حد من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو الموت كما روي عن الحسن، والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت، ومن هنا صح تعلق الغاية بالكشف، ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الرجز خلافا لزاعمه.
وقيل: المراد بالأجل ما عينوه لإيمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون العهد، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه، وجواب فَلَمَّا فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها، وإن قيل به فتساهل، أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجؤوا بالنكث من غير توقف وتأمل كذا قيل، وعليه فكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول لذلك الفعل على أن الأول ظرفه، والثاني مفعوله قاله العلامة، والداعي لذلك
المحافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضيا لفظا أو معنى، إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذا وإذا المفاجأة في موقع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجؤوا زمان النكث أو مكانه.
وقد يقال أيضا: تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن لما تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الجملة الاسمية، نعم هم يذكرون ما يوهم التقدير وليس به بل هو بيان حاصل المعنى وتفسير له فتدبر.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فأردنا الانتقام منهم، وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه: فَأَغْرَقْناهُمْ وإلا فالاغراق عين الانتقام فلا يصح تفريعه عليه.
وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود: ٤٥] إلخ وحينئذ لا حاجة إلى التأويل فِي الْيَمِّ أي البحر كما روي عن ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم، ويقع على ما كان ملحا زعافا وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة، وقال الليث: هو البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر وهو عربي في المشهور. وقال ابن قتيبة: إنه سرياني وأصله كما قيل يما فعرب إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقا تنجيزيا وهذا لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه، وقال شيخ الإسلام: الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وفيه مناقشة لا تخفى.
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ الضمير المجرور للآيات، والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلا عنه للتنافي بين الأمرين، وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله، وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد، ولا مجاز في الغفلة حينئذ والأول أولى كما لا يخفى.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل فيه إشارة إلى أن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة. ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه:
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا أي جميع جهاتها ونواحيها، والمراد بها على ما روي عن الحسن وقتادة وزيد ابن أسلم أرض الشام، وذكر محيي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام
إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه. على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها. فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أسري به إليها،
وأخرج أحمد عن عبد الله بن حوالة الأزدي أنه قال: «يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده»،
وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده»،
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام»
وجاء من حديث أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والحاكم أيضا وصححه عن زيد بن ثابت. أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: طوبى للشام فقيل له: ولم؟
قال: «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها»
والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالا وسبب الوضع كان قويا، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية، وفي القاموس أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمي بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال: أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على شرح مختصر السمرقندية لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحا وذما فقال بعضهم:
تجنب دمشق ولا تأتها... وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق... وفجر الفجور بها طالع
وقال آخر:
دمشق غدت جنة للورى... زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي... ولا عيب فيها سوى أهلها
وقال آخر في الشام ولعله عنى متعارف الناس:
قيل لي ما يقول في الشام حبر | شام من بارق الهنا ما شامه |
قلت ماذا أقول في وصف أرض | هي في وجنة المحاسن شامه |
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي مضت عليهم واستمرت من قولهم: مضى على الأمر إذا استمر، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ إلخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: ٥]، وقيل: المراد بها علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرا من إهلاك عدوهم وتوريثهم الأرض، والْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السباق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه: رَبِّكَ على ما قال الطيبي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلّى الله عليه وسلّم. وأما كونه جل شأنه منجزا لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام، وذكر في الكشف أنه ادمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضا. وقرأ عاصم في رواية «كلمات» بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه: مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلا هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال: ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير، وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئا ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيلة، ووادي خدبات، وأم حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الاثافي، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر. وما أحسن قول الحسن:
عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله سبحانه: وتلا الآية، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا وَدَمَّرْنا أي خربنا وأهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون على أن ما موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول صفحة رقم 38
والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضا. وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك: قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل: ما مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون إلخ، وقيل: كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون إلخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرضونه من البنيان كصرح هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي [النحل: ٦٨] «يعرشون» بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر على ما ذكر اليزيدي وأبو عبيدة أفصح، وقرىء في الشواذ «يغرسون» من غرس الأشجار. وفي الكشاف أنها تصحيف وليس به. «وهذا ومن باب الإشارة في الآيات» ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها منقادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم. وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق. وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمّارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس. وأوّل النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى.
وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالبا في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالبا في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب والفصاحة كانت غالبا في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم والتفاخر بها أشهر من «قفا نبك» فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك ادعى إلى إجابة دعواه.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ شروع بعد انتهاء قصة فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه بعد أن منّ الله تعالى عليهم بما منّ وأراهم من الآيات ما أراهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما رآه من اليهود بالمدينة فانهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظا للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا لغفلتهم عما منّ الله تعالى به عليهم، وجاوز بمعنى جاز وقرىء «جوزنا» بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم، والمراد بالبحر بحر القلزم.
وفي مجمع البيان أنه نيل مصر وهو كما في البحر خطأ، وعن الكلبي أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا لله تعالى فَأَتَوْا أي مروا بعد المجاوزة.
عَلى قَوْمٍ قال قتادة: كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما صححه ابن عبد البر إلى لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، وقيل: كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم.
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها، وكانت كما أخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن جريج تماثيل بقر من نحاس، وهو أول شأن العجل، وقيل: كانت من حجارة، وقيل: كانت بقرا حقيقة وقرأ حمزة
والكسائي يَعْكُفُونَ بكسر الكاف قالُوا عند ما شاهدوا ذلك يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولَهُمْ صلتها وآلِهَةٌ بدل من الضمير المستتر فيه، والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر هو لهم.
وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف، ولذا وقع بعدها الجملة الاسمية وأن تكون مصدرية، ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب عليه السلام من قولهم هذا بعد ما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقا ومفعولا لتنزيله منزلة اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فيدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى، وأكد ذلك بأن، وتوسيط قوم وجعل ما هو المقصود بالأخبار وصفا له ليكون كما قال العلامة كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر الموطئ لادعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مُتَبَّرٌ أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس ما هُمْ فِيهِ من الدين يعني يدمر الله تعالى دينهم الذي هم عليه على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتا وَباطِلٌ أي مضمحل بالكلية، وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما استمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك التقرب إلى الله تعالى وأن المراد أن ذلك لا ينفعهم أصلا، وحمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على الأصنام لأنها معمولة لهم خلاف الظاهر جدا، والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم، وفي إيقاع اسم الإشارة كما في الكشاف اسما لأن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا، ووجه ذلك على ما في الكشف أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ما تقدم من العكوف، والتقديم يؤذن بأن حال ما هم فيه ليست غير التبار وحال عملهم ليست إلا البطلان فهم لا يعدونهما فهما لهم ضربة لازب.
وجوز أبو البقاء أن يكون ما هُمْ فِيهِ فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه وهو في نفسه مساو لاحتمال أن يكون ما هم فيه مبتدأ ومتبر خبر له أو أرجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره اقتضى ذلك فليفهم.
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً قيل: هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له، ولعله لذلك أعيد لفظ قال:
وقال شيخ الإسلام: هو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا أصلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام، وقال الشهاب: أعيد لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى، وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض بخلقهن الله خفاء، والظاهر إقامته على التنويه كما لا يخفى، والاستفهام للإنكار وانتصاب (غير) على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال، والأصل أبغي لكم، وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز، وجوز أن البقاء أن يكون مفعولا به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالا، وأيا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانكم أو جميع العالمين، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأما
الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار، أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته وهذا الاختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك، وتقديم الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصا آخر على ما قيل، أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم، وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بإهلاكهم وتخليصكم منهم، وإذا إما مفعول به لاذكروا محذوفا بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت، وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة وقرىء «نجيناكم» من التنجية، وقرأ ابن عامر «أنجاكم» فيكون من مقول موسى عليه السلام، وقال بعضهم: إنه على قراءة الجمهور أيضا كذلك على أن ضمير أنجينا لموسى وأخيه عليهما السلام أو لهما ولمن معهما أوله وحده عليه السلام مشيرا بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه من كلام الله تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً [طه: ٥٣] بعد قوله سبحانه: هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه: ٥٣] وهو كالتفسير لقوله سبحانه: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ.
وقوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه إما استئناف بياني، كأنه قيل: ما فعل بهم أو مم أنجوا؟ فأجيب بما ذكر، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميرهما. وقوله عزّ اسمه: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل من يسومونكم مبين له، ويحتمل الاستئناف أيضا وَفِي ذلِكُمْ الإنجاء أو سوء العذاب بَلاءٌ نعمة أو محنة، وقيل: المراد به ما يشملهما مِنْ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم عَظِيمٌ لا يقادر قدره. وفي الآية التفات على بعض ما تقدم، ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات، وقيل: إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم، وأيا ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نجو ذلك
فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبحان الله» وفي رواية «الله أكبر» هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم»
وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده «قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنها السنن قلتم- والذي نفس محمد بيده- كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»
وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا يكون به كافرا وإلا لأمره صلّى الله عليه وسلّم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لا يحيط به نطاق الحصر، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر لله الواحد
القهار وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة.
وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه عزّ وجلّ وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان، قال: أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيّب الريح، قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرة أيام ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه
وذلك قوله سبحانه: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ والتعبير عنها بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور.
وقيل: إنه عليه السلام أمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة وكلم فيها، وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا، وَواعَدْنا بمعنى وعدنا، وبذلك قرأ أبو عمرو ويعقوب، ويجوز أن تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد، وقد تقدم تحقيقه.
وثَلاثِينَ كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف أي إتمام ثلاثين ليلة أو إتيانها فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً من قبيل الفذلكة لما تقدم، وكأن النكتة في ذلك أن إتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين، ويحتمل أنها كانت عشرين فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدر همين على معنى أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الاحتمال الثاني جيء بذلك، وقيل: إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين الله تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر ليفيد أن المراد الأول، وقيل: جيء به رمزا إلى أنه لم يقع في تلك العشر ما يوجب الجبر، والميقات بمعنى الوقت، وفرق جمع بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ومنه مواقيت الحج، ونصب أَرْبَعِينَ قيل: على الحالية أي بالغا أربعين، ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولا للحال المحذوف لا حالا، وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر مع أن الخبر إنما هو متعلقه. وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدودا، وفيه أن دعوى تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لا يخفى على المتتبع، وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه ما يرد عليه، وقيل:
إنه تمييز، وقيل: إنه مفعول به بتضمين تم معنى بلغ، وقيل: إن تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب، وقيل: إنه منصوب على الظرفية. وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفا للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه.
وَقالَ مُوسى حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به لِأَخِيهِ هارُونَ اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الأصالة، ويكتب بدون ألف، وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلا من أخيه أو بيانا له، أو منصوب مفعولا به لمقدر أعني أعني وقرىء شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادى حذف منه حرف النداء أي يا هارون اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، واستخلافه عليه السلام لأخيه مع أنه عليه السلام كان نبيا مرسلا مثله قيل: لأن الرياسة كانت له دونه، واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمر لازما كما يرشد إلى ذلك سير قصص أنبياء بني إسرائيل، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أن