
(وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
الفطرة الإنسانية توجب الإيمان، لو استقامت على طريقتها من غير وسوسة الشياطين؛ ولذا قال - ﷺ - كما في صحيح البخاري ومسلم: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه، وينصرانه ويمجسانه " (١).
وروى مسلم بسنده أن رسول الله - ﷺ - قال: يقول الله تعالى: " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " (٢).
_________
(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.

وإن الله تعالى عهد إلى بني آدم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا بالله، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢).
هذا عهد الله على بني آدم، وهم في ضلال آياتهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن الإيمان الذعن هو استجابة للفطر، ومن يكفر بالحق إذ جاءه إنما يحيد بالإنسان عن طريق الفطرة المستقيمة.
وقوله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) الذين فسقوا عن أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها النبيون وكذبوا ليس لهم من عهد، يوفون به، حتى عهد الفطرة التي فطرهم الله تعالى، فهم خالفوا العهد الأول، وخالفوا كل عهد عاهدوه، حتى انحلت نفوسهم انحلالا، و " مِنْ " هنا لاستغراق النفي، أي ما وجدنا لأكثرهم أي عهد يحترمونه، وينفذونه، وأولها وأقواها عهد الفطرة الذي أخذه الله تعالى في الأصلاب.
وإذا كانوا لَا عهد لهم، وخالفوا فطرة الله التي فطرهم، فهو فاسقون خارجون عن قضايا العقل البديهية؛ ولذا قال تعالى: (وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) إن هنا هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها، وقوله تعالى: (وَجَدْنَا أَكثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)، والمعنى إنه أي الحال والشأن وجدنا.
واللام في قوله (لَفَاسِقِينَ) لام التوكيد، واقعة في خبر إن.
ونجد هنا حكم الله تعالى العادل، يحكم بالكثرة الغالبة، لَا بالكلية الشاملة، فمنهم صالحون ومنهم فاسقون وإن الأمم لَا توصف كلها بالفسوق؛ لأنها تفسق كلها، إنما توصف بالفسق، لأن كثرتها الغالبة المسيطرة، الفاسقة فهي الظاهرة البارزة، وهي المسيطرة على الجماعة، وهي التي توجد رأيا عاما فاسدا، يسوده الشر، ويختفي فيه الخير والله رءوف بالعباد.
* * *

موسى وفرعون وبنو اسرائيل
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)
* * *

ذكر الله تعالى أخبار الأنبياء الذين أشرك أقوامهم، ودعوة الأنبياء لهم فذكر نوحا وقومه، وما نزل بهم، وذكر عادا، ونبيهم هود، وثمود ونبيهم صالحا، وذكر لوطا وقومه وما كانوا عليه من مفاسد لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
وقد بين - سبحانه وتعالى - سنته في هداية الأقوام، وكيف يضلون.
ومن بعد ذلك ذكر موسى - عليه السلام - وأنه لقي أكبر طاغية في عصره، وإن وجد من حاول محاكاته من بعده ومع موسى وفرعون ذكر لأحوال بني إسرائيل، بعد أن أنقذهم موسى - عليه السلام - من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
وإن هؤلاء في الزمن بعد من سبق ذكرهم في القرآن من نوح إلى شعيب، وأكثر أولئك كانوا في البلاد العربية. وموسى - عليه السلام - نشأ في مصر، وبعث في أرض مصر، وتقدم هو وأخوه هارون لدعوة فرعون.
قال تعالى: