آيات من القرآن الكريم

قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ

على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ دُونَ نَظَرٍ، وَعَلَى آيَاتِ اللَّهِ بِالْجَحْدِ دُونَ تَدَبُّرٍ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَ الْيَهُودِ فِي ثَلَاثٍ»، أَيْ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: افْتَخَرُوا بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فَكَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْجُمُعَة: ٦]. وَبِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَشَبَّهَهُمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَبِالسَّبْتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرَعَ اللَّهُ لَهُم الْجُمُعَة.
[٦]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٦]
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦)
أَعْقَبَ تَمْثِيلَ حَالِ جَهْلِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ بِذِكْرِ زَعْمٍ مِنْ آثَارِ جَهْلِهِمْ بِهَا إِبْطَالًا لِمَفْخَرَةٍ مَزْعُومَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَبَقِيَّةُ النَّاسِ لَيْسُوا مِثْلَهُمْ. وَذَلِكَ أَصْلٌ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً على أَن شؤونهم أفضل من شؤون غَيْرِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمُ السَّبْتَ أَفْضَلَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّيِّينَ مِثْلُهُ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْجُمُعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ اغْتَاظُوا، وَفِي «الْكَشَّافِ» «افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِالسَّبْتِ وَأَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرْعَ اللَّهُ لَهُمُ الْجُمُعَةَ».
وَافْتُتِحَ بِفِعْلِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ.
والَّذِينَ هادُوا: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَهُودًا، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْيَهُودِ يَهُودًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٢]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هادُوا بِمَعْنَى تَابُوا لِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٥٦]. وَأَشْهَرُ وَصْفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ هُودٌ جَمْعُ هَائِدٍ مِثْلُ قُعُودٍ جَمْعُ قَاعِدٍ. وَأَصِلُ هُودٍ هُوُودٌ وَقَدْ تُنُوسِيَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنُودُوا بِهِ هُنَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ أَوْ هُوَ تَهَكُّمٌ.
وَجِيءَ بِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ هُنَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ إِذْ قَدِ اشْتَهَرُوا بِهَذَا الزَّعْمِ وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ

صفحة رقم 215

وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ زَعْمَهُمْ هَذَا لَمَّا كَانَ بَاطِلًا بِالدَّلَائِلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُفْرَضُ وُقُوعُهُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُسْتَبْعَدُ وَكَأَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَهَذَا إِلْجَاءٌ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَهُمْ ثُبُوتُ شَكِّهِمْ فِيمَا زَعَمُوهُ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ: كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَوَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنَّ الْمَوْتَ رُجُوعُ الْإِنْسَانِ بِرُوحِهِ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ تَظْهَرُ فِيهَا آثَار رضى اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَوْ غَضَبِهِ لِيَجْزِيَهُ عَلَى حَسَبِ فِعْلِهِ.
وَالنَّتِيجَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تُحَصِّلُ أَنَّهُمْ مِثْلُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآثَارِهِمَا، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَفْضَلَ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [الْمَائِدَة: ١٨].
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يَعْرِضُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَمَا
رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ ذَلِكَ»
الْحَدِيثَ. وَمَا
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ» إِلَى قَوْلِهِ: «قَالَ مُوسَى فَالْآنَ»
. ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْفَوْزَ مَضْمُونٌ لَهُمْ كَمَا تَوَهَّمَ الْيَهُودُ.
فَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَهُمْ عَامَّةٌ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْأَوْقَامُ وَالْغُرُورُ بَعْدَ انْقِرَاضِ عُلَمَائِهِمْ، فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ قَوْمٍ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فَوَصَفٌ لِأَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ وَأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ فَلَا

صفحة رقم 216
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية