آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ

وقال جل قولهَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
الآية ١١٣ من سورة الصافات الآتية وغيرها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها قال صلّى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين مادمتم متبعين سنتي، فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم. وسنأتي على هذا البحث عند تفسير الآيتين المذكورتين بصورة مفصلة إن شاء الله، فيا سيد الرسل «قُلْ» لقومك إني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» على تبليغكم وحي ربي وإرشادكم بقوله ونصحي لكم بما هو خير لكم في دنياكم وآخرتكم «أَجْراً» جعلا أو مالا أو شيئا آخر إنما أجري على ربي «إِنْ هُوَ» ما هو الذي أبلغكم إياه «إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ٩٠» ومن حق التذكير بالله والهداية إليه أن تكون مجانا لئلا يتهم الداعي إليها بأن قصده عرض الدنيا وليتمحض عند السامع إخلاصه.
مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم والآية المدنية وبحث في النسخ:
وتدل هذه الآية على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، لأن لفظ العالمين يشملها كما في الآية ١٥٨ من سورة الأعراف في ج ١، وتدل على فضله على سائر الأنبياء، لأنه اتصف بجميع خصالهم من احتمال الأذى ومجاهدة النفس والصبر على البلاء والمحن وقتال البغاة وإظهار المعجزات والاتصاف بالزهد والوفاء بالعهد والوعد والصدق والإخبات والنبوة والرسالة والملك، ولهذا أمره الله أن يقتدي بهم جميعا إذ لم يترك خلة من خلالهم ولا خصلة من خصالهم ولا شيئا من أخلاقهم إلا اتصف بها وتأدب بتأديب ربه وزاد عليهم بالشّرف برؤية ربه وباخمس المذكورة بالحديث الصحيح الذي أثبتناه في الآية ١٥٩ من سورة الأعراف ج ١، وقد أسهبنا فيها البحث عن هذا فراجعها، وهذه الآية المدنية الثالثة،
قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» وما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه «إِذْ قالُوا» أي اليهود «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» وحي ولا كتاب إلى أحد من خلقه، قال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم فقالوا والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله تكذيبا لهم وألزمهم الحجة بقوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» إليهم «وجعله نورا وهُدىً لِلنَّاسِ» من بني إسرائيل

صفحة رقم 373

فمن بعدهم حتى بعثتك، فما هذا الإنكار والمكابرة والعناد وقل لهم يا محمد «تَجْعَلُونَهُ» أي ذلك الكتاب العظيم «قَراطِيسَ» متقطعة وأوراقا متفرقة تثبتون فيها ما يوافقكم منها فتظهرونه وهو معنى قوله تعالى «تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» منه مما لا يوافقكم إظهاره مما فيه نعت محمد وما جاء به من الأحكام في القرآن المنزل عليه وما قصصناه فيه من القصص الموجودة في التوراة «وَعُلِّمْتُمْ» بسببه من أمور الدين والدنيا «ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» الأقدمون، وقد أنزلناه على نبيكم جملة واحدة حاويا على ذلك كله «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المتعنتين الذين فرقوا كتابهم بحسب أهوائهم إن القرآن الذي جئتكم به أنزله «اللَّهَ» الذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من بعده وقد كذبتم به أيضا وجحدتم نبوته «ثُمَّ ذَرْهُمْ» بعد أن تذكر لهم هذا «فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ٩١» بالباطل ويستهزئون بالحق لأن الله طبع على قلوبهم فلا فائدة من إتعاب نفسك معهم، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا مبرر له لأنها عبارة عن تهديد ووعيد، وكل آية مقرونه بشيء من هذا لا يتصور نسخها، فرحم الله علماء الناسخ والمنسوخ كم تغالوا في النسخ حتى على ما هو في الحقيقة محكم، على أنه لا نسخ في كتاب الله هذا بالمعنى المراد من قبلهم وهو ناسخ لغيره من الكتب والصحف المتقدمة عليه، وباق حكمه ما بقي الملوان، وما يعبرون عنه بالنسخ عبارة عما فيه من آيات عامة ومطلقة قيدت وخصصت بآيات أخر، وما فيه من التدريج في الأحكام مما يوافق مصلحة الخلق في الحال والمستقبل، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ، وللبحث صلة في الآية ١٠٦ من سورة البقرة في ج ٣، كما أننا ألمعنا إلى أن كل آية قيل إنها منسوخة بما يرد ذلك القيل عند تفسيرها والله ولي التوفيق، قال تعالى «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ» عليك يا محمد «مُبارَكٌ» ميمون لمن نمسك به وهو «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من التوراة والإنجيل والكتب والصحف الإلهية المشتملة على توحيده وتنزيهه والتبشير والإنذار «وَلِتُنْذِرَ به أُمَّ الْقُرى» أهل مكة من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بدليل قوله «وَمَنْ حَوْلَها» من أطرافها الأربع فتشمل جميع المدن والقرى التي على وجه الأرض

صفحة رقم 374

لأنها لا بد وأن تكون بجبهة من أطرافها بعدت أو قربت، لذلك فلا دليل فيها لمن زعم أن رسالة محمد ﷺ خاصة بالعرب الذين في مكة وجوارها، وإنما سميت أما لأنها قبلة أهل الأرض أجمع فعلا لأمة الإجابة وبالقوة لغيرهم لأن الكل أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهذا تأييد للرد على اليهود بأنه إذا كان الله تعالى أنزل التوراة على موسى ولا سبيل لإنكارها، فلم لا يجوز إنزال القرآن على محمد وكلاهما مرسل من الله؟ وفي إنكارهم إنزال القرآن إنكار الإنجيل أيضا لأنهم ينفون نزول شيء بعد التوراة من قبل الله على أحد من رسله وقد كفروا بعيسى عليه السلام فضلا عن إنكار كتابه، قاتلهم الله وغضب عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» البعث بعد الموت والحساب والجزاء والثواب والعقاب «يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي القرآن لأن أصل الدين الخوف من العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن بالله «وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ٩٤» خص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان، فمن حافظ عليها فهو على غيرها أحفظ، وهذه الآية المدنية الرابعة قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» كهؤلاء اليهود المنكرين نزول القرآن والإنجيل على محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ومن هؤلاء الظالمين مالك بن الصيف وأضرابه من اليهود «أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ» من الله بشرع وحاشا الله القائل
«وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ» كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي الذين ادعيا النبوة في زمنه صلّى الله عليه وسلم وعموم الآية يشمل كل من تجرأ على ادعاء النبوة بعده أيضا إلى يوم القيامة لأن الله تعالى ختم النّبيين به فكل ادعاء وقع أو يقع في هذا الشأن فهو زور وبهتان وإفك «وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» أي أنه قادر على مثل ذلك، وهؤلاء كالذين قالوا كذبا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية ٣١ من الأنفال في ج ٣، ومثله الطاعن في نبوته صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن أبي سرح الذي أملى عليه صلّى الله عليه وسلم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إلى قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) الآية ١٤ من سورة المؤمنين الآتية، فعجب من ذلك وقال إنه وقع في قلبه لزيادة تفكره فيها (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأجراها على لسانه فقال له صلّى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت، فشك وقال إن كان محمد صادقا

صفحة رقم 375

فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا فقد قلت كما قال، فارتد ولحق بمكة.
وهذه الحادثة وقعت في المدينة بدليل قوله املى وقوله صلّى الله عليه وسلم هكذا نزلت، أي قبل لا ان نزولها بمكة، بل كان نزولها بالمدينة قبل إملائها عليه، وإلا لتلاها حضرة الرسول أولا، ثم أملاها عليه دفعة واحدة، ويؤكد هذا قوله ولحق بمكة، فيكون هذا سببا لنزول هذه الآية، وذلك أن مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة الملقب بالكذاب ادعى النبوة باليمامة وزعم أن الله أوحى إليه، وكان صاحب نيرجات وكهانة، والأسود العنسي عبهلة بن كعب ذو الخمار ادعى النبوة باليمن وتبعه جماعة من قومه، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل إليهما وأمر بقتلهما فقتل الأسود فيروز الديلمي قبل وفات النبي صلّى الله عليه وسلم بيومين، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه بقتله قبل ورود خبره، وقال لهم فاز فيروز، وأما مسيلمة فقتله وحسني قاتل حمزة بن عبد المطلب في خلافة أبي بكر رضي الله عنهم، وكان يقول قتلت خير الناس وأنا كافر يعني حمرة، وقتلت شرّ الناس وأنا مؤمن يعني مسيلمة، وكل هذا يؤيد أن هذه الآية مدنية كما ذكرنا أول السورة وهو الصحيح، لأن هذه الحوادث أي قول مالك ابن الصيفي وادعاء مسيلمة والأسود كلها وقعت في المدينة، ومن قال إن هذه الآية نزلت بمكة لم يحقق عن تاريخ هذه الحوادث ومحلها، ولم يقف على أن هذه الآية مستثناة من هذه السورة فقال إنها مكية، ولما لم ير بدا من نفي أسباب نزولها قال إنها من الإخبار بالغيب، وليس بشيء، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سوارين من ذهب، فكبرا علي وأهمّاني، فأوحى الله إلي ان انفخهما فنفختهما فطارا، (وفي رواية انفحهما بالحاء لا بالخاء من النفخ وهو الرمي والدفع والرمح تقول نفحت الدابة برجلها أي رمحت ورفست، والمعنى قريب من الأول) فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة، والمعنى لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم خطأ ولا أجهل فعلا ولا أقل عقلا ممن اختلق شيئا من الأشياء الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهي عامة في كل من يزعم هذا الزعم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال تعالى «وَلَوْ تَرى» يا سيد الرسل «إِذِ الظَّالِمُونَ»

صفحة رقم 376

أمثال هؤلاء وغيرهم «فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» سكراته وشدائده حين نزع أرواحهم «وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ» إليهم يقولون لهم توبيخا وتقريعا هلموا «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» من أجسادكم قسرا، وهذا القول عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وإلا فلا حاجة لهذا القول ولو كان بأيديهم منه شيء ما فعلوه، لأن روح الكافر ثمينة عنده فلو قدر على تأخيرها أو عدم إخراجها من جسده لحظة واحدة بما يملك في الدنيا لفعل، ثم قال تعالى «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» المهانة والمذلة وقت الإماتة «بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» من أمثال الأقوال المتقدمة من الإنكار والتكذيب والجحود والإشراك «وَ» بما «كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ٩٣» عن قبولها وتأنفون من سماعها بدلا من أن تصدقوها وتؤمنوا بها، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، انتهت الآية المدنية الرابعة. قال تعالى مخاطبا جميع خلقه في موقف الحشر يذكرهم أن حالتهم هذه أول يوم ورودهم الآخرة تشبه حالتهم أول يوم قدومهم إلى الدنيا بقوله عز قوله «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى» وحدانا لا مال معكم ولا ولد ولا لباس ولا نشب «كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» في الدنيا إذ جئتم إليها كذلك، لأن هذا الخطاب بعد البعث وهو خلق ثان «وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» أعطيناكم في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم والسلطة والجاه وملكناكم العقارات ومكناكم من استغلال ما في الدنيا «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» أبقيتم كل ذلك في الدنيا الكائنة الآن وراءكم، لأن ما الدنيا لا يكون للآخرة «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» من الملائكة والإنس والكواكب والأصنام «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» وأنتم في الدنيا «أَنَّهُمْ فِيكُمْ» في استبعادكم «شُرَكاءُ» معنا وكنا أخبرناكم على لسان رسلنا أنهم ليسوا بشيء وأنهم من خلقنا ومن صنع أيديكم الذي هو أيضا من خلقنا «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» بالنصب أي تقطع الوصل بينكم على إضمار الفاعل،
وقرىء بضم النون على أنه فاعل بمعنى وصلكم، لأن البين من أسماء الأضداد فيكون بمعنى الهجر وبمعنى الوصل قال:

صفحة رقم 377

فقد جاء بمعنى الوصل وبمعنى الهجر فيه «وَضَلَّ عَنْكُمْ» غاب وضاع وبطل «ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٩٤» فيهم في الدنيا من الشفاعة والنفع وزعم هنا نعى في الباطل وقد تستعمل في الحق، قال فيه:

فو الله لولا البين لم يكن هوى ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف
تقول هلكنا إن هلكت وإنما على الله أرزاق العباد كما زعم
وقد مر في الآيتين ٨٠/ ٩٥ من سورة مريم في ج ٢ ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية ٥٧ من سورة الكهف الآتية فراجعها، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة عزلا (خلقا) قال تعالى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الآية ١٠٤ من سورة الأنبياء الآتية. ورويا عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
تحشر الناس حفاة عراة عزلا، قالت عائشة فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك. وفي رواية الطبري عنها قالت واسوءتاه إن النساء والرجال يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال صلّى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.
مطلب الدلائل على قدرة الله ومنافع الخلق فيها ومعنى المستقر والمستودع وأصل الخلقة:
ثم شرع جل شأنه يعدد دلائل وجوده وكمال عظمته وقدرته وجليل حكمته بقوله عز قوله «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ» شاقه عن النبات لأن الحبة حينما تزرع يخرج من شقها الأعلى النبات الصاعد في الهواء الذي يصير فيه السنبل ومن شقها الأسفل العروق التي تغوص في الأرض ولولا ذلك لما ثبت نبات «وَالنَّوى» عن النخل وشبهه هكذا أيضا، وهو جل خلقه «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» كالإنسان من النطفة والفرخ من البيضة «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة عكس الجملة المعطوفة عليها، لأن مخرج معطوف على خالق وهو بيان له، لأن خلق الحب اليابس وإخراج الحنطة والشعير والذرة والعدس وغيرها منه، وفلق النوى اليابس وإخراج الرطب والخوخ والمشمش والاجاص وغيرها

صفحة رقم 378

منه من جنس إخراج الفرخ من البيضة والبيضة من الدجاجة، لأن النّامي من النبات في حكم النامي من الحيوان، فسبحان من أخرج من الحب والنوى نباتا وأشجارا صاعدات في الهواء وعروفا وجذورا ضارية هاوية في الأرض، وخلق من نطفة صغيرة حيوانا عظيما، مما يدل على كمال قدرته وعظيم حكمته، وتنبيها للغافل على أن القصد معرفته بصفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها وصانع العجائب وبارئها لا عن مثال سابق، وأنه هو وحده المستحق للعبادة المنزه عن الشريك والمثيل تعالى الله عما يصفه الكفرة «ذلِكُمُ» أيها الناس الفعّال لذلك، الخلاق لكل ما هنالك «اللَّهَ» الذي لا إله غيره «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٩٥» وتصرفون الحق إلى الباطل والصدق إلى الكذب، فتعبدون الأوثان وتتركون الملك الديان، وفي هذه الآية دليل على البعث بعد الموت باعتبار ما يشاهدونه من خلقه ليعلمهم فيه أن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة من تلك الأشياء التافهة قادر على بعثهم بعد موتهم، وإنما جاء بهذا الدليل والأدلة الآتية تنبيها على أن المقصود والأصل من كل بحث عقلي أو نقلي هو معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله، وهذا الدليل الثاني المبين بقوله «فالِقُ الْإِصْباحِ» بكسر الهمزة جمع صبح بضم الصاد، أي مظهر نورها من سواد الليل وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح بفتح الصاد قال امرؤ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
بكسر الهمزة على الأول وقال الآخر:
أفنى رباحا وبني رباح تناسخ الأمساء والأصباح
على الثاني والأول أولى لأنه أكثر استعمالا «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» لخلقه وراحة لهم من كدّ المعيشة إلى النوم «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» جعلهما «حُسْباناً» معينا لا ينخرم على مر العصور «ذلِكَ» العلم بالحساب الحاصل من سيرها «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ» الغالب عليهما الذي سخرهما قهرا «الْعَلِيمِ ٩٦» بما يؤول إليه أمرهما وما ينشأ عنه من منافع للعباد والدليل الثالث قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها» إلى الطرق التي تقصدونها «فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» فإذا ضللتم الجهة المطلوبة وتحيرتم ونظرتم إليها عرفتم القبلة من الشمال

صفحة رقم 379

والشرق من الغرب فتستدلون على ما أنتم ذاهبون إليه «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» الدالة على وحدانيتنا ومنافع خلقنا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٩٧» أن ذلك مما يستدل به على كمال القدرة ورأفة الرب بخلقه. والدليل الرابع قوله جل قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» نفس آدم عليه السلام إذ خلق منه حواء زوجته ومنها تناسل البشر كله، فتنبه أيها العاقل واحذر من قول الجاهل الذي زعم أن أصل البشر القرد، وما يزعم هذا الزعم إلا ذوو النفوس الخبيثة الشاكين في القدرة الإلهية، واعلم أن الخلق كله من بعد آدم «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» أي أن كل نفس لها قرار في الأرض وفي الرحم ومستودع في الأرض وفي الصلب لأن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمنا طويلا ويبقى الجنين في بطن أمه مدة طويلة «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ٩٨» خصهم بالفقه لأن الدلالة هنا أدق من الدلالة في الآية التي قبلها المختومة بلفظ (يعلمون) لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريف البشر بين أحوال مختلفة أدق من الاهتداء بالنجوم المتوقف معرفتها على علم الفلك، وما جرينا عليه هنا هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حبرتيما سأله عن المستقر والمستودع فأجابه بما ذكرناه، وهو مؤيد بقوله تعالى (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) الآية ٥ من سورة الحج في ج ٣، وقال جماعة من المفسرين: إن الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض والاستيداع في الأرحام أو في القبر وجعلوا الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فاشبهت الوديعة فكأن الرجل أودعها ما كان عنده وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني ولأن الصلب مقر طبيعي للنطفة ووجه الأرض مقر طبيعي للإنسان والرحم مستودع طبيعي للنطفة والقبر مستودع طبيعي للإنسان وليسا بمقر طبيعي لها والأول أولى وعليه الجمهور، قال الألوسي:
وأنا أقول لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم المشار إليه في الآية ٨٧٢ من سورة الأعراف المارة في ج ١ وأشهدهم على أنفسهم بأخذ الميثاق منهم وكان ما كان.

صفحة رقم 380

ردّهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله ذلك وقد أطلق ابن عباس رضي الله عنهما اسم الوديعة على ما كان في الصلب صريحا فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس أتزوجت؟ قلت لا وما ذاك في نفسي اليوم قال إن كان في صلبك وديعة فستخرج، وروى تفسير المستودع في الدنيا والمستقر في القبر عن الحسن وكان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وأنشد قول لبيد:

وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع
وقال سلمان بن زيد العدوي في هذا
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا فالناس مفجوع به ومفجع
مستودع أو مستقر قد خلا فالمستقر يزوره المستودع
وقال أبو مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر والمستودع الأنثى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٩٠ من سورة مريم المارة في ج ١ والآية ٤ من سورة هود المارة فراجعها تعلم أن كل إنسان مستقر من جهة، مستودع من أخرى لأنه استقر فيه شيء ممن قبله فصار مستودعا عنده لمن بعده وهكذا من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الأرض من عليها بإرثها ولهذا قالوا إن لكل نسمة حظا من نشأة آدم عليه السلام على طريق التسلسل حسا وقد يكون معنى
مطلب نبذة فيما يتعلق بالرابطة لدى السادة الصوفية تابع لما مر في الآية ٥٧ من الإسراء في ج ١:
ومن هنا يعلم أن نظر المريد الصادق إلى شيخه الكامل نظر إلى وجه الصديق رضي الله عنه لأن شيخه كان نظر إلى شيخه فسطع على وجهه من نوره وهكذا شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا فيصير كل منهم آخذا ومعطيا فيكون لكل حظ منه وهو مقتبس من مشكاة النبوة المستفيض من الحصرة الإلهية فنال نصيبه منه أيضا، وعلى هذا اتخذ السادة الصوفية الرابطة فجعلوها من شروط أورادهم التي يلقنونها إلى المريد واقتبسوها من قوله تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) الآية ٣٨ من سورة المائدة في ج ٣ وسنبين فيها إن شاء ما يقتضي لهذا البحث، ومما يؤيد هذا هو قول المصلي

صفحة رقم 381

في التحيات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله بأنه يستلزم تشخيص حضرة الرسول عند ذلك لتصح الإشارة كما سنبينه في تفسير آية المائدة المذكورة إن شاء الله بصورة أوضح وقد مر في الآية ٥٧ من سورة الإسراء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه في ج ١.
والدليل الخامس قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» جاء على الغيبة ثم التفت جل شأنه إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» عمم جل وعلا ثم فصل فقال (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ» أي النبات «خَضِراً» شيئا غضا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبّة «نُخْرِجُ مِنْهُ» من هذا الخضر «حَبًّا مُتَراكِباً» بعضه على بعض كسنبلة الحنطة والأرز وعرنوس الذرة وشبهها «وَمِنَ النَّخْلِ» وأبدل منها قوله «مِنْ طَلْعِها» لأن النخل يخرج منها الطلع ويخرج الثمر من الطلع «قِنْوانٌ» بكسر القاف غدوق جمع قنو كصنو وصنوان ويجوز فتح القاف وضمه، ولا يوجد في اللغة مثنى مفرد ويستوي فيه مثناه وجمعه إلا خمس أسماء: قنو وصنو ورئد بمعنى مثل وشقو وحش بمعنى الثعبان، ولا يفرق بين جمعه ومثناه إلا الإعراب، وقال الرازي في تفسيره إن المثنى منه بكسر النون، وبهذا يكون الفرق بين جمعه وتثنيته بالحركة «دانِيَةٌ» لمن يجتنيها ويقطفها لأنها تثقل بالثمر فتنحني وتتدلى إلى الأسفل، وتأتي قنوان بمعنى نائية بعيدة فتكون من الأضداد، واكتفى بذكر الدانية عن النائية لمعلوميتها على حد قولة تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد كما سيأتي في الآية ٨١ من سورة النحل، ولأن الدانية أيسر تناولا وأسهل للقطف من النائية العالية البعيدة التناول، وهذا الفرق إنما يكون في أشجار الدنيا وثمارها، أما الآخرة فالقريب والبعيد بالتناول سواء، لأنك متى نظرت إلى ثمرة وأردتها صارت بين يديك، والطلع هو الإغريضي الخارج من قلب النخلة الذي ينبثق عنه العثوق، والعثق الذي فيه التمر بمنزلة العنقود من العنب، والمتشعّب منه يسمى عرجون، ويسميه أهل (عانه) شرموخ، وهو الذي ينبت فيه التمر «وَجَنَّاتٍ» عطف على نبات «مِنْ أَعْنابٍ» متنوعة عرائش وكروم «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» أخرجناه أيضا «مُشْتَبِهاً» بعضه مع بعض «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» أنواع كثيرة منها ما يشابه بعضه ويوافقه باللون

صفحة رقم 382

والطعم والشكل والحجم والرائحة والورق والأغصان وغير ذلك، ومنه ما هو مباين في بعض الصفات موافق في الأخرى، ومنها ما هو مخالف بالكلية فسبحان من أخرج من الماء الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والأشجار والثمار قال تعالى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) الآية ٥ من سورة الرعد الآتية في ج ٣، وقيل في وصف المطر:

يمد إلى الآفاق بيض خيوطه فينسج منها للثرى حلة خضرا
وقد أجاد في هذا الوصف، هذا، وان الله جل جلاله قدم الزرع لأنه غذاء وهو مقدم على الفواكه ثم النخل على الفواكه، لأن ثمره يجري مجرى الغذاء مع كونه فاكهة وفيه من المنافع ما ليس في غيره وعقبه بالعنب لأنه من أشرف الفواكه، ثم الزيتون لبركته وزيادة الحاجة إليه أكلا وأدما، ثم الرمان لأنه فاكهة ودواء، وقد ذكر الله تعالى في القرآن العظيم أمهات الفواكه كهذه والتين والموز وأشار إلى البقية بلفظ الفاكهة، كما أشار إلى بقية النبات بلفظ الأب فلم يخرج عن هاتين اللفظتين شيء مما ينبت بالأرض، فسبحان من أودع في كتابه كل شيء وأكده بقوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ المارة فراجعها والآية ٣١ من سورة عبس في ج ١، واحمد الله أن جعلك من أهل هذا الكتاب «انْظُرُوا» أيها الناس «إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» إدراكه ونضجه واعتبروا بها أيها الناس كيف أنبته حبة وأخرج منها ذلك راجع الآية ١٤١ الآتية في هذا البحث «إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير الحكيم وهي عظة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٩٩» بأن الله الذي أخرج النبات الأخضر من الحب اليابس والأشجار من النوى والفواكه الرطبة منها قادر على إحياء الموتى بعد البلى، هذا وقد ذكر الله خمسة براهين مجملة وعلى التفصيل فهي أكثر وكل منها حجج ظاهرات قاطعات على دلائل العالم السفلي والعلوي على ثبوت الإلهية وكمال القدرة، وذكر أن هؤلاء الكفرة فضلا عن أنهم لم يلتفتوا إليها ولم يتعظوا بها قد كفروا بها «وَجَعَلُوا» مع هذا كله «لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» في ألوهيته وعبادته بالنصب على أنه بدل من شركاء وجمع الشركاء باعتبارهم أعوانا لإبليس، وبالرفع على الحذف،

صفحة رقم 383

فكأنه قيل من هم الشركاء فقيل الجن وبالجر على الإضافة لشركاء، وإنما قالوا الجن من حيث لم يشاهدوهم، لأن الكفرة أصاخوا لتسويلاتهم وانصاعوا لوساوسهم، فكأنهم أطاعوهم طاعة المشاهد فعبدوا الأوثان انقيادا لهم، فصاروا كأنهم جعلوهم شركاء لله، تعالى الله عن ذلك، وعلى هذا فتكون هذه الآية نازلة في كفار العرب كما روي عن الحسن بن صالح واختاره الزجاج، وقال الكلبي نزلت في الزنادقة ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الإمام الرازي عن ابن عباس، وادعى أنه أحسن الوجوه المنقولة في سبب نزولها.
مطلب معتقد الزنادقة والمجوس وتحقيق رؤية الله تعالى:
وذلك أنهم يقولون إن كل ما في الكون من خير فهو من يزدان يعني النور، وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس وهذا مذهب المجوس، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من السماء سماه (زاندا) والمنسوب إليه زندى، ثم عرب إلى زنديق ويجمع على زنادقة، ومنهم من يقول إن إبليس قديم، ومنهم من يقول إنه محدث، وكلهم متفقون على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم (تنزه عن ذلك) فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس.
هذا، وان اليزيدية الموجودين الآن في جبل سنجار على تخوم العراق يدينون بما يشابه هذا الدين ويعتقدون بالشيطان اعتقاد المجوسي بإبليس، وقال بعض المفسرين إن المراد بالجنّ هم الملائكة، لأن العرب عبدتهم وسمتهم بنات الله، كما مرّ في كثير من الآيات الدالة على ذلك وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم أي استتارهم واختفائهم عن الأعين، وعبر بالجن عن الملائكة للحط بشأنهم بالنسبة لمقام الإلهية، ونقل هذا القول عن قتادة والسدي، والقول الأول أولى لموافقته ظاهر القرآن وهو الحقيقة وخلافها مجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، ولا يوجد هنا صارف لمعناها كي يلجأ إليه في اعتبار المجاز، قال تعالى «وَخَلَقَهُمْ» أي أنهم يقولون هذا القول والحال أن الله خلقهم، فكيف يجعلونهم شركاء له، تعالى عن ذلك وتعاظم «وَخَرَقُوا» اختلقوا وافتعلوا وافتروا «لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ» فاليهود تقولت بأن عزيرا ابنه والنصارى بهتت بأن عيسى ابنه، وكفار العرب

صفحة رقم 384
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية