آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ

أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ كَاللَّقَبِ لَهُمْ، وَهُوَ مُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ أَنْكَرُوا الْآخِرَةَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْصُولِ إِيذَانٌ بِالتَّعْلِيلِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ.
وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْبِشَارَةُ.
وَزَادَهُمْ ثَنَاءً بِقَوْلِهِ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ إِيذَانًا بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِهِ، إِذْ كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَجَّ كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَة:
٢، ٣] وَلَمْ يَكُنِ الْحَجُّ مَشْرُوعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
[٩٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
لَمَّا تَقَضَّى إِبْطَالُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْزَالِ وَالْوَحْيِ، النَّاشِئِ عَنْ مَقَالِهِمُ الْبَاطِلِ، إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا لِأَجْلِهِ جَحَدُوا إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى بَشَرٍ، وَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ مِنَ
اللَّهِ، عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّرَائِعِ الضَّالَّةِ فِي أَحْوَالِهِمُ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَهُمْ يَنْفُونَ الرِّسَالَةَ تَارَةً فِي حِينِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ فَكَيْفَ بَلَغَهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]. فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا طَرِيقَ وُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ طَرِيقُ الرِّسَالَةِ فَجَاءُوا بِأَعْجَبَ مَقَالَةٍ.

صفحة رقم 373

وَذَكَرَ مَنِ اسْتَخَفُّوا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أُوحِيَ إِلَيَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تَسْفِيهَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ مِنْهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاضْطِرَابِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعَ ذَلِكَ تَنْزِيه النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ حِينَ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] لِأَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَادِّعَاءِ الْوَحْيِ بَاطِلًا لَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ نَاحِيَةِ قَوْلِ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ «وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذْرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ».
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَمَسَاقُهُ هُنَا مَسَاقُ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ إِنْزَالَ الْكِتَابِ، وَهُوَ تَكْذِيبٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: ٩٢] لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِخِصَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٦٠] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ عَقِبَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: ٥٧] الْآيَةَ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١١٤].
وافتراء: الِاخْتِلَاقُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ
فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣].
وَمَنْ مَوْصُولَةٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ كُلُّ مَنِ افْتَرَى أَوْ قَالَ، وَلَيْسَ

صفحة رقم 374

الْمُرَادُ فَرْدًا مُعَيَّنًا، فَالَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا بِهَوَاهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ كَذِبًا.
وأَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، أَيْ كُلُّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ كَذِبًا، وَلَمْ يَزَلِ الرُّسُلُ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوءَةَ كَذِبًا كَمَا قَدَّمْتُهُ. رُوِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا مُسَيْلمَة متنبّىء أَهْلِ الْيَمَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُسَيْلِمَةُ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَ هِجْرَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوءَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَفَدَ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ طَامِعًا فِي أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَجَعَ خَائِبًا ادَّعَى النُّبُوءَةَ فِي قَوْمِهِ.
وَفِي «تَفْسِيرِ» ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْأسود الْعَنسِي المتنبّئ بِصَنْعَاءَ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ الْأَسْوَدَ تَنْظِيرًا مَعَ مُسَيْلِمَةَ فَإِنَّ الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ مَا ادَّعَى النُّبُوءَةَ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعُمُومُ وَلَا يَضُرُّهُ انْحِصَارُ ذَلِكَ فِي فَرْدٍ أَوْ فَرْدَيْنِ فِي وَقْتٍ مَا وَانْطِبَاقُ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْي للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَالَ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، اسْتِهْزَاءً، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ ارْتَدَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ وَالْمَهْدَوِيِّ أَنَّهَا: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ يَقُولُ: أَنَا أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. وَحَفِظُوا لَهُ أَقْوَالًا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَدْ رَوَوْا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ وَإِنِّي سَأُنْزِلُ مِثْلَهُ وَكَانَ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَالْوَجْهُ

صفحة رقم 375

أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْعُمُومَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَوْلُهُمْ: مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ سُخْرِيَةً كَمَا قَالُوا:
يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦]، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى، أَيْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَعَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٥٧].
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ.
عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِأَنَّ هَذِهِ وَعِيدٌ بِعِقَابٍ لِأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ وَالْقَائِلِينَ «أُوحِيَ إِلَيْنَا» وَالْقَائِلِينَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
فَ الظَّالِمُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يَشْمَلُ أُولَئِكَ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْخِطَابُ فِي تَرى للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كلّ من تتأتّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مُخَاطَبٌ. ثُمَّ الرُّؤْيَةُ الْمَفْرُوضَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ إِذَا كَانَ الْحَالُ الْمَحْكِيُّ

صفحة رقم 376

مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ الْمَحْكِيَّةُ مِنْ أَحْوَالِ النَّزْعِ وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَمَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ الْمُضَافُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى الظَّالِمِينَ إِذْ هُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، أَيْ وَقْتَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ (إِذِ) اسْمًا مُجَرَّدًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَيَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: ٨٦] فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَلَوْ تَرَى زَمَنَ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً لِأَنَّ الزَّمَنَ لَا يُرَى.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تَهْوِيلُ هَذَا الْحَالِ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ جَوَابَ (لَوْ) كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا.
وَالْغَمْرَةُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ- مَا يَغْمُرُ، أَيْ يَغُمُّ مِنَ الْمَاءِ فَلَا يَتْرُكُ لِلْمَغْمُورِ مَخْلَصًا.
وَشَاعَتِ اسْتِعَارَتُهَا لِلشِّدَّةِ تَشْبِيهًا بِالشِّدَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلْغَرِيقِ حِينَ يَغْمُرُهُ الْوَادِي أَوِ السَّيْلُ حَتَّى صَارَت الغمرة حَقِيقَة عُرْفِيَّةً فِي الشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ.
وَجَمْعُ الْغَمَرَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعَدُّدِ الْغَمَرَاتِ بِعَدَدِ الظَّالِمِينَ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي تَهْوِيلِ مَا يُصِيبُهُمْ بِأَنَّهُ أَصْنَافٌ مِنَ الشَّدَائِدِ هِيَ لِتَعَدُّدِ أَشْكَالِهَا وَأَحْوَالِهَا لَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بَاسِمٍ مُفْرَدٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِعَذَابٍ يَلْقَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا فِي وَقْتِ النَّزْعِ. وَلَمَّا كَانَ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٌ جُعِلَتْ غَمْرَةُ الْمَوْتِ
غَمَرَاتٍ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ مُلَابَسَةِ الْغَمَرَاتِ لَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا ظَرْفٌ يَحْوِيهِمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ. فَالْمَوْتُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَغَمَرَاتُهُ هِيَ آلَامُ النَّزْعِ.

صفحة رقم 377

وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حِكَايَةَ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ.
فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْغَمَرَاتِ مَجَازًا مُفْرَدًا وَيَكُونُ الْمَوْتُ حَقِيقَةً. وَمَعْنَى بَسْطِ الْيَدِ تَمْثِيلًا لِلشِّدَّةِ فِي انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا بَسْطَ وَلَا أَيْدِيَ. وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الْأَرْوَاحِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَرْوَاحَكُمْ مِنْ أَجْسَادِكُمْ، أَيْ هَاتُوا أَرْوَاحَكُمْ، وَالْأَمْرُ لِلْإِهَانَةِ وَالْإِرْهَاقِ إِغْلَاظًا فِي قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً وَلَا يُعَامِلُونَهُمْ بِلِينٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْزَعُونَ فَلَا يَلْفِظُونَ أَرْوَاحَهُمْ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَعِيدٌ بِالْآلَامِ عِنْد النّزع جزاءا فِي الدُّنْيَا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ فَتَوَعَّدُوا بِمَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ حَالُ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ بِأَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةً تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ وَتُذِيقُهُمْ عَذَابًا فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ الْوَعيد يَقع فِي نُفُوسِهِمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ شَدَائِدَ النَّزْعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الْأَنْفَال: ٥٠] الْآيَة، وَقَول أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ عَلَى هَذَا صَادِرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِمَا يُلَاقِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الْأَنْعَام: ٩٤] فَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي مُنَازَعَةِ الشَّدَائِدِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ بِحَالٍ مِنْهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِ النَّزْعِ فَالْمَوْتُ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ تَقْرِيبُ الْحَالَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْوَالَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِي الْمُتَعَارَفِ مَا هُوَ أَقْصَى مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ دَلَالَةً عَلَى هَوْلِ الْأَلَمِ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: وَجَدْتُ أَلَمَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ:
«فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ»، وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ:

وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ
وَجُمْلَةُ: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ حَالٌ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ مَادُّونَ أَيْدِيَهُمْ

صفحة رقم 378

إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْفَعُوهُمْ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ لِيَقْبِضُوا أَرْوَاحَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ بَسْطُ الْأَيْدِي حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَشَكَّلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ فِي أَشْكَالٍ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَسْطُ الْأَيْدِي كِنَايَةً عَنِ الْمَسِّ وَالْإِيلَامِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي
[الْمَائِدَة: ٢٨].
وَجُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الذَّوَاتِ. وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي الْإِنْقَاذِ وَالْإِنْجَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْحَالَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ. وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ الْإِخْرَاجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِنْ كَانَ هَذَا الْحَالُ وَاقِعًا فِي حِينِ دُخُولِهِمُ النَّارَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، فَإِنْ حَمَلَ الْغَمَرَاتِ عَلَى النَّزْعِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْيَوْمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَقْتِ، أَيْ وَقْتَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ إِلَخْ اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ، فُصِلَتْ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالِاهْتِمَامِ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وتُجْزَوْنَ تُعْطَوْنَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ هُوَ عِوَضُ الْعَمَلِ وَمَا يُقَابِلُ بِهِ مِنْ أَجْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ. قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦]، وَفِي الْمَثَلِ: الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا صَنَعَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. يُقَالُ: جَزَاهُ يَجْزِيهِ فَهُوَ جَازٍ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى جَزَاءً، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُكَافَأِ عَنْهُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٧] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها متؤوّلا عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ البيانيّة. أَي جَزَاء هُوَ سَيِّئَةٌ، وَأَنَّ مَجْرُورَ الْبَاءِ هُوَ السَّيِّئَةُ الْمُجْزَى عَنْهَا، كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]. وَيُقَالُ: جَازَى بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الرّاغب: وَلم يَجِيء فِي الْقُرْآنِ: جَازَى.

صفحة رقم 379

وَالْهُونُ: الْهَوَانُ، وَهُوَ الذُّلُّ. وَفَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ بِالْهَوَانِ الشَّدِيدِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ. وَكَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْهُونَ مُرَادِفُ الْهَوَانِ، وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَوْمَ تَجْزُونَ عَذَابَ الْهَوَانِ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْهُونِ لِإِفَادَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْإِضَافَةُ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالْمِلْكِ، أَيِ الْعَذَابَ الْمُتَمَكِّنَ فِي الْهُونِ الْمُلَازِمِ لَهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ بَاءُ الْعِوَضِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُجْزَوْنَ إِلَى الْمَجْزِيِّ عَنْهُ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِسَبَبِ قَوْلِكُمْ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ صَادِرًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَذِكْرُ اسْمِ
الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَالْأَصْلُ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَيَّ.
وَضَمَّنَ تَقُولُونَ مَعْنَى تَكْذِبُونَ، فَعَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ: عَلَى اللَّهِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: ٤٤] الْآيَةَ، وَبِذَلِكَ يَصِحُّ تَنْزِيلُ فِعْلِ تَقُولُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ، وَيَصِحُّ جَعْلُ غَيْرِ الْحَقِّ مَفْعُولًا لِ تَقُولُونَ، وَغَيْرِ الْحَقِّ هُوَ الْبَاطِلُ، وَلَا تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا كَذِبًا.
وَشَمِلَ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً- إِلَى قَوْلِهِ- مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَغَيْرَهَا.
وغَيْرَ الْحَقِّ حَالٌ مِنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ لِ تَقُولُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ عَطْفٌ عَلَى كُنْتُمْ تَقُولُونَ، أَيْ وَبِاسْتِكْبَارِكُمْ عَنْ آيَاتِهِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: الْإِعْرَاضُ فِي قِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْآيَاتِ، أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْآيَاتِ التَّأَمُّلُ فِيهَا فَيَكُونُ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ وَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أَعْظَمَ مِنْ صَاحِبِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

صفحة رقم 380
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية