فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا. قَالَ تَعَالَى: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٩: ٢٥، ٢٦) وَقَالَ فِي عَادٍ قَوْمِ هُودٍ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنِ اسْتِكْبَارِهِمْ وَجُحُودِهِمْ: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (٤١: ١٦) وَعَذَابُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِذُنُوبِهَا مُطَّرِدٌ، وَلَا يَطَّرِدُ عَذَابُ الْأَفْرَادِ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الْمَاكِرِينَ وَلَكِنَّ أَكَابِرَ مُجْرِمِي مَكَّةَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِإِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَيْدِ لَهُ قَدْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا كَالْخَمْسَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّ السِّيَاقَ السَّابِقَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ - الَّذِي يُعَدُّ هَذَا السِّيَاقُ تَابِعًا لَهُ - نَزَلَ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُجْرِمِينَ [رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ ١٠٩، ١١٢ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ] وَقُتِلَ مِنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي بَدْرٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَإِذْ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ الْمُجْرِمِينَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ حُرِمُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِهِمْ، قَفَّى عَلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ، ثُمَّ بِبَيَانِ ظُهُورِ هِدَايَتِهِ وَاسْتِقَامَةِ مَحَجَّتِهِ، وَبِجَزَاءِ الْمُهْتَدِينَ بِهِ، عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ:
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) هَذَا وَصَفٌ لِحَالِ الْمُسْتَعِدِّ لِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِ وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ مِنَ الْخُلُقَيْنِ الصَّادَّيْنِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَهُمَا الْكِبْرِيَاءُ وَالْحَسَدُ وَبِتَحَلِّيهَا - أَيْ نَفْسُهُ - بِالْهَادِيَيْنِ إِلَى الْحَقِّ وَالرَّشَادِ. وَهُمَا اسْتِقْلَالُ الْفِكْرِ الصَّادِّ عَنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ الصَّارِفَةِ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مُجَارَاةِ الْأَنْدَادِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَهْلًا بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ وَمُهَذِّبُهَا، فَإِذَا أُلْقِيَتْ إِلَيْهِ وَجَدَ لَهَا فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا وَاتِّسَاعًا بِمَا يَشْعُرُ بِهِ قَلْبُهُ مِنَ السُّرُورِ وَدَاعِيَةِ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَانِعًا مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيمَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ فَيَتَأَمَّلُهُ فَتَظْهَرُ لَهُ آيَتُهُ، وَتَتَّضِحُ لَهُ دَلَالَتُهُ فَتَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُهُ، وَيُذْعِنُ لَهُ قَلْبُهُ فَتَتْبَعُهُ جَوَارِحُهُ، وَهَذَا هُوَ النُّورُ الَّذِي يَفِيضُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ بِاتِّبَاعِهِ لَهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلَةٌ لِآيَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمَا الْعَهْدُ بِهَا بِبَعِيدٍ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٣٩: ٢٢). (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " ضَيْقًا " بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، فَهُوَ كَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ وَهَيِّنٍ وَهَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَلَيْنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " حَرِجًا " بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الْوَصْفِ
بِالْمَصْدَرِ، فَهُوَ كَدَنَفٍ وَدَنِفٍ: وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " يَصْعَدُ " بِسُكُونِ الصَّادِ مُضَارِعُ صَعِدَ الثُّلَاثِيِّ (كَفَرِحَ يَفْرَحُ) وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَصَّاعَدُ بِالْأَلْفِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ، أَيْ يُحَاوِلُ الصُّعُودَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَالْبَاقُونَ (يَصَّعَّدُ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ أَيْ يَتَكَلَّفُ الصُّعُودَ وَيُحَاوِلُ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَطِيعُ.
وَهَذَا وَصْفٌ لِلْكَافِرِ غَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ بِمَا أَفْسَدَ مِنْ فِطْرَتِهِ بِالشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَبِمَا تَدَنَّسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ رَذِيلَتَيِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ اللَّذَيْنِ يَصْرِفَانِ الْمُدَنَّسَ بِهِمَا عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا يُدَعَى إِلَيْهِ وَالْحِرْصِ عَلَى اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيهِ، وَيَشْغَلَانِهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الشَّيْءِ، فَيَعِزُّ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِ وَالْحَاسِدِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالْإِمَامَةِ مِنْهَا بِالْقُدْوَةِ، أَوْ بِمَا سَلَبَهُ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ وَصِحَّةَ النَّظَرِ
مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ، أَوْ مَا حَرَمَهُ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ ضَعْفُ الْإِرَادَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ، فَهُوَ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ يَجِدُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا أَوْ ذَا حَرَجٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الضِّيقِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ أَضْيَقُ الضِّيقِ. وَجَعَلَهُ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ الشَّجَرُ الْكَثِيرُ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لِلزِّيَادَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ أَعْرَابِيًّا مِنْ مُدْلِجَ عَنِ الْحَرَجَةِ فَقَالَ: هِيَ الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: الْحَرَجُ فِيمَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمَوْضِعُ الْكَثِيرُ الشَّجَرِ الَّذِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ قَالَ: وَكَذَلِكَ صَدْرُ الْكَافِرِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْحِكْمَةُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ حَرَجَةٍ وَهِيَ الشَّجَرُ الْمَذْكُورُ. وَأُطْلِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكَانِ ذِي الشَّجَرِ الْكَثِيرِ الْمُلْتَفِّ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِدُ صَدْرَهُ شَدِيدَ الضِّيقِ لَا يَتَّسِعُ لِقَبُولِ شَيْءٍ جَدِيدٍ مُنَافٍ لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَى قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ مِنَ التَّقَالِيدِ، أَوْ لِمَا يُزَلْزِلُ كِبْرِيَاءَهُ وَيُصَادِمُ حَسَدَهُ مِنَ الْخُضُوعِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالرِّيَاسَةِ وَالْإِمَامَةِ، فَيَكُونُ اسْتِثْقَالُهُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَشُعُورُهُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا كَشُعُورِهِ بِالْعَجْزِ عَنِ الصُّعُودِ بِجِسْمِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا أَوِ التَّصَاعُدِ فِيهَا بِالتَّدْرِيجِ، أَوِ التَّصَعُّدِ أَيِ التَّكَلُّفُ لَهُ، وَصُعُودُ السَّمَاءِ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ، أَوْ مَا يُشَقُّ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُ الضِّيقِ الْحَرَجِ بِالشَّاكِّ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِلْخَيْرِ مَنْفَذٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَجِدُ فِيهِ مَسْلَكًا وَلَا مَصْعَدًا.
(كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ مَثَّلَ جَعْلَ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا بِالْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فِي سُنَّةِ اللهِ فِيهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْبَابِهِ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَلَا سِيَّمَا مَعَ أَهْلِ الدَّعْوَةِ، فَيَكُونُ مُعْظَمُهَا قَبِيحًا سَيِّئًا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِيمَا بَعَثَ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدٍ وَنِيَّةٍ فَإِنَّ الرِّجْسَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَسُوءُ أَوْ يُسْتَقْذَرُ حِسًّا أَوْ عَقَلًا أَوْ عُرْفًا. وَقَدْ أَطَلْنَا فِي شَرْحِ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْخَمْرِ
مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٩٠) فَهُوَ يُفَسَّرُ فِي كُلِّ كَلَامٍ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالشَّيْطَانِ، وَعَنْ
مُجَاهِدٍ بِكُلِّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) (١٠: ١٠٠) وَكَأَنَّ الْجَعْلَ فِي الْآيَتَيْنِ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فِي أَسْبَابِ جَعْلِ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ يَقَعُ الرِّجْسُ بِتَقْدِيرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهُمْ، وَتُلْقَى تَبِعَتُهُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي اجْتَنَبُوهُ هُوَ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ وَيُطَهِّرُ الْأَنْفُسَ مِنْهُ وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَاعْلَمْ - أَيُّهَا الْقَارِئُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ مُعْتَرَكَ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ - فَالْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنَّ خَلْقَ الْخَلْقِ وَقَعَ بِتَقْدِيرٍ سَابِقٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَنِظَامٍ ثَابِتٍ بِسُنَنٍ حَكِيمَةٍ يَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ هِدَايَةَ امْرِئٍ يَخْلُقُ فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا لِلْإِسْلَامِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ لَهُ بِخَلْقِ اللهِ، وَهَذَا الْخَلْقُ يَحْصُلُ آنِفًا أَيْ جَدِيدًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ عَلَى تَقْدِيرٍ سَابِقٍ. وَالْجَبْرِيُّ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِسْلَامُ الْمَرْءِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا كَسْبِهِ بَلْ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَمِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَنْ يَقُولُ: لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِيمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ فَيَخْلُقُ لَهُ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَالْحَرَجِ مَا يَثْبُتُ بِهِ عَلَى كُفْرِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ تَأْوِيلَاتٌ فِي الْآيَةِ حَاوَلُوا فِيهَا تَطْبِيقَهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي كَوْنِ إِيمَانِ الْمَرْءِ وَكُفْرِهِ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْتَقِلِّ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ خَاصَّةً بِهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَضَلَالِ الْكَافِرِ عَنْهُ. وَبَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِمَنْحِ الْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ الْمُسَهِّلِ لِمَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِفِعْلِهِ وَكَسْبِهِ، وَعَدَمِ مَنْحِ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يُرِيدُ مِنْهُ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قَالُوهُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ حُذَّاقُ النُّظَّارِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْخِلَافِ لِاتِّخَاذِ مَذَاهِبِهِمْ أُصُولًا مُسَلَّمَةً، وَمُحَاوَلَةِ حَمْلِ نُصُوصِ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا لِتَصْحِيحِهَا وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ خُصُومِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لَهَا، فَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ آيَةٍ تَتَعَلَّقُ بِقَوَاعِدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُفْرَدَةً عَلَى حِدَتِهَا وَلَا يَعْرِضُونَهَا عَلَى سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَوْضُوعِهَا لِيَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
وَعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ جَاعِلِيهِ عِضِينَ. وَمَنِ اسْتَعْرَضَ عَقْلَهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ كُلِّ عَقِيدَةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِيهَا يَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢) فَفِي الْكِتَابِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
بِقَدَرٍ لَا آنِفًا جَدِيدًا غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِنِظَامٍ سَابِقٍ. وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِحِكْمَتِهِ الَّتِي اقْتَضَتِ النِّظَامَ وَالتَّقْدِيرَ، وَتَنَزَّهَ بِهَا عَنِ الْأُنُفِ وَالْجُزَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَلَلِ وَفِيهِ أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ يَقَعُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ ; وَبِهَذَا لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَكَسْبُهُ مُنَافِيًا لِخَلْقِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَا جَاعِلًا لَهُ مُسْتَقِلًّا دُونَهُ - تَعَالَى - مُسْتَغْنِيًا عَنْ تَوْفِيقِهِ وَإِمْدَادِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ جُعِلَ خَالِقًا لِعِلْمِهِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الْوَحْيِ، تَظْهَرُ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْخَلْقِ.
وَالتَّوْفِيقُ عِنَايَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِهَا عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ تَوْفِيقَهُ كَمَا هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، فَيَجْمَعُ لِمَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهِ بَيْنَ مَا جَعَلَهُ فِي مَقْدُورِهِ وَتَنَاوُلِ كَسْبِهِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ لَهُ، فَيَتَّفِقُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَالْخُذْلَانِ ضِدُّهُ أَوْ عَدَمُهُ، فَهُوَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ وَلَا يَظْلِمُ اللهُ الْعَبْدَ الْمَخْذُولَ شَيْئًا، وَقَدْ يُفَسَّرُ الشَّيْءُ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ إِيجَابِيَّةً وَتَفْسِيرًا إِيجَابِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ سَلْبِيَّةً. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ مَشْهَدِ التَّوْفِيقِ، وَالْخُذْلَانِ مِنْ كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ) : وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ: هُوَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخُذْلَانَ: هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا تَعْرِيفٌ بِالرَّسْمِ وَاضِحُ الْمَعْنَى فِيمَا قُلْنَاهُ، فَمَعْنَى أَلَّا يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ: هُوَ أَنْ يَمْنَحَكَ فَوْقَ كُلِّ مَا فِي قُدْرَتِكَ وَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُكَ مِمَّا تَعْلَمُ مِنَ الْخَيْرِ لِنَفْسِكَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّجَاحُ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُورِكَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُكَ وَحْدَكَ، وَبَعْضُ ذَلِكَ نَفْسِيٌّ وَبَعْضُهُ خَارِجِيٌّ، فَمَعْنَى التَّوْفِيقِ إِيجَابِيٌّ. وَقَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْخُذْلَانِ " أَنْ يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ " مَعْنَاهُ أَلَّا يَمْنَحَكَ شَيْئًا مِنَ الْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكَ، وَلَا تَسْخِيرَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا تَنَالُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِقَدْرِ قُدْرَتِكَ عَلَى مَا تَعْلَمُ وَتُرِيدُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقُدْرَتُكَ لَا تَصِلُ إِلَى كُلِّ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ لَكَ، وَعِلْمُكَ غَيْرُ مُحِيطٍ بِمَا فِيهِ ذَلِكَ الْخَيْرُ، فَأَنْتَ تَجْهَلُ كَثِيرًا،
وَمَا أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَثِيرًا مَا تَظُنُّ الْجَهْلَ عِلْمًا وَالشَّرَّ خَيْرًا.
وَقَدْ جَاءَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ إِيجَابِيٍّ فَقَالَ: وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ وَيُكَرِّهُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ وَالْعَبْدُ مُحِلٌّ لَهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى. (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٤٩: ٧، ٨) فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، لَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ. إِلَى آخَرِ مَا قَالَ وَأَجَادَ.
(فَصْلٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِسُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ) قَدْ سَبَقَ لَنَا قَوْلٌ قَرِيبٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِإِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (١٠٨) (ص٦٦٩ ج ٧) رَدَدْنَا فِيهِ عَلَى الْفَخْرِ الرَّازِيِّ إِمَامِ هَذِهِ النَّزْعَةِ وَفَارِسِ هَذِهِ الْحَلْبَةِ، ثُمَّ إِنَّنَا رَأَيْنَاهُ قَدْ عَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى بَسْطِ الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَاسْتَحْسَنَّا أَنْ نَنْقُلَ أَقْوَى كَلَامِهِ وَنُقَفِّيَ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَجِيزٍ فِيهِ قَالَ:
" وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقَرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا فِي أَمْرِ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ وَقَدْ جُمِعَ النَّاسُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكُلُّ: أَيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا ; لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ: أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ؟ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ، وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ،
هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ.
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعَرْضِ وَيَقُولُ: لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ. فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ
النِّعَمِ مُدَّةً لَا آخِرَ لَهَا، وَلَا طَرِيقَ لَهُ أَلْبَتَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَهَذَا هُوَ الْخُصُومَةُ، أَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا يَكُونُ خَصْمًا.
(وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ) مَا حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا فَارَقَ مَجْلِسَ أُسْتَاذِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ وَكَثُرَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى أَقَاوِيلِهِ عَظُمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فَاتَّفَقَ أَنَّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَقَدَ الْجُبَّائِيُّ مَجْلِسَ التَّذْكِيرِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ مُخْتَفِيًا عَنِ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مِنَ الْعَجَائِزِ إِنِّي أُعْلِمُكَ مَسْأَلَةً فَاذْكُرِيهَا لِهَذَا الشَّيْخِ، قُولِي لَهُ: كَانَ لِي ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَنِينَ، وَاحِدٌ كَانَ فِي غَايَةِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ، وَالثَّانِي كَانَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَالثَّالِثُ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ فَمَاتُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ عَنْ حَالِهِمْ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَمَّا الزَّاهِدُ فَفِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي
دَرَكَاتِ النَّارِ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَمِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ، قَالَ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا أَخُوهُ الزَّاهِدُ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْهُ؟ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَنْتَ فَلَيْسَ مَعَكَ ذَاكَ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ حِينَئِذٍ يَقُولُ: يَارَبَّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ الذَّنْبُ لِي لِأَنَّكَ أَمَتَّنِي قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ أَمْهَلْتَنِي فَرُبَّمَا زِدْتُ عَلَى أَخِي الزَّاهِدِ فِي الزُّهْدِ وَالدِّينِ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ اللهُ لَهُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ لَوْ عِشْتَ لَطَغَيْتَ وَكَفَرْتَ وَكُنْتَ تَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَقَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعِقَابِ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الْأَخَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ: يَارَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ كَفَرَ عَلِمْتَ مِنِّي ذَلِكَ، فَلِمَ رَاعَيْتَ مَصْلَحَتَهُ وَمَا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي؟ قَالَ الرَّازِيُّ: فَلَمَّا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ انْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ، فَلَمَّا نَظَرَ رَأَى أَبَا الْحَسَنِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْهُ لَا مِنَ الْعَجُوزِ.
" ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ أَوْ أَكْثَرِ مِنْ بَعْدِ الْجُبَّائِيِّ فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرْضَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، بَلْ لَنَا هَاهُنَا جَوَابَانِ آخَرَانِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيهَا، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّكْلِيفُ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، قَالَ: فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ: إِنِّي طَوَّلْتُ عُمْرَ الْأَخِ
الزَّاهِدِ وَكَلَّفْتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِي مُتَفَضِّلًا عَلَى أَخِيكَ الزَّاهِدِ بِهَذَا الْفَضْلِ أَنْ أَكُونَ مُتَفَضِّلًا عَلَيْكَ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِطَالَةَ عُمْرِ أَخِيكَ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ كَانَ إِحْسَانًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا جُرْمَ فَعَلْتُهُ. وَأَمَّا إِطَالَةُ عُمْرِكَ وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَيْكَ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى غَيْرِكَ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. هَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَلْخِيصِ شَيْخِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّ،
بَلْ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ إِلَهِهِ عَنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ.
وَأَقُولُ: قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ، صِحَّةُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّقِيقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللهِ (تَعَالَى) إِنَّمَا لَزِمَتْ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللهُ فَلَا مُنَاظَرَةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لِرَبِّهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا أَوْ مَا فَعَلْتَ كَذَا، فَثَبَتَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي غَرَضَنَا وَيُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ إِطَالَةَ الْعُمْرِ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ تَفَضُّلٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ. فَنَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَوْصَلَ التَّفَضُّلَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الثَّانِي قَبِيحٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى هَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِعْلًا شَاقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ التَّفَضُّلِ، وَمِثْلُ هَذَا الِامْتِنَاعِ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ النَّظَرِ فِي مِرْآتِهِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى الْجِدَارِ لِعَامَّةِ النَّاسِ قُبِّحَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنَ النَّفْعِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاعِ ضَرَرٍ إِلَيْهِ وَلَا وُصُولِ نَفْعٍ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَقْبُولًا فَلْيَكُنْ مَقْبُولًا هَاهُنَا؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَتَبْطُلُ كُلِّيَّةُ مَذْهَبِكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فَاسِدٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا تَكْلِيفُهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ يُوجِبُ لِذَاتِهِ حُصُولَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ أَبَدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَ هَذَا الشَّخْصَ فَإِنَّ إِنْسَانًا آخَرَ يَخْتَارُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِعْلًا قَبِيحًا، فَإِنِ اقْتَضَى هَذَا الْقَدَرُ أَنْ يَتْرُكَ اللهُ تَكْلِيفَهُ، فَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَهُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْرُكَ تَكْلِيفَهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قُبْحَ تَكْلِيفٍ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ هُنَالِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - تَرْكُ التَّكْلِيفِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَخْتَارُ فِعْلًا قَبِيحًا عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرَكُهُ إِذَا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَخْتَارُ الْقَبِيحَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، فَهَذَا مَحْضُ التَّحَكُّمِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِلَطِيفِ فِكْرِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ ضَعِيفٌ، وَظَهَرَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَصْحَابُنَا وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ.
(الْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمِرَاءِ وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِهِ) أَبْدَأُ مَا أُرِيدُ مِنْ بَيَانِ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِاسْتِغْفَارِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نَقْلِهِ وَلَوْ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ مَعَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَبِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي مِثْلِ هَذَا وَفِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، ثُمَّ أُفَصِّلُ مَا قَصَدْتُ بَيَانَهُ فِي مَسَائِلَ:
(١) إِنَّ نَظَرِيَّاتِ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَظَرِيَّاتِ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى ابْتِدَاعِ الْكَلَامِ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، كَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنِ ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ - فَلَمْ يَكُونُوا جَبْرِيَّةً وَلَا قَدَرِيَّةً وَلَا مُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَقِيدَتَهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا أَوَّلَ لَهَا، وَلَا عَلَى إِنْكَارِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ إِنْكَارِ امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا حُسْنَ فِيهِ لِذَاتِهِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمَا كَانُوا يَتَنَابَزُونَ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يَتَمَارَوْنَ وَيَتَجَادَلُونَ لِإِثْبَاتِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَلَا يُضَلِّلُونَ الْمُخَالِفَ لَهُمْ بِلَوَازِمَ يَسْتَنْبِطُونَهَا مِنَ الْمَقَالِ وَلَا يُشَوِّهُونَ رَأْيَهُ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ تُنَافِي الْآدَابَ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِنَقْلِ الْمُخَالِفِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي نَقْلِ الْمُخَاصِمِ الْمُمَارِي، بَلِ الَّذِي يَجْعَلُ مُخَالِفَهُ خَصْمًا لِلْخَالِقِ! تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ.
(٢) مَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَبَرُّؤُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْهَا وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا، مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوُجُوبَ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتُهَا، فَكَمَا وَجَبَ لَهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْعَقْلِ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ مُتَعَلِّقَاتِهَا كَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦: ٥٤) وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ فَيُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ مَسْئُولًا وَلَا مِثْلَهُ، بَلْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ سَاجِدٌ لَهُ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهِ (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (٥٥: ٣٣) وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ كَذَا وَكَذَا، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (٢١: ٢٣) فَيَدُلُّ نَقْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى إِيجَابَ مَنْ يَكُونُ مُكَلَّفًا مَسْئُولًا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ - بِهَذِهِ الْآيَةِ - عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ حَتَّى
الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَأَنْ يُنَعِّمَ الشَّيَاطِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ سُلْطَانٌ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِبُهُ بِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَثَبَتَ لَهُ وَحْدَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَسَائِرِ خَلْقِهِ، فَهُوَ بِهِ يُحَاسِبُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَعَمَّا كَلَّفَهُمْ إِيَّاهُ وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَالْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ، بَلْ هَذَا مُحَالٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الَّذِي وَهَبَهُ، وَالْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٦٨: ٣٥، ٣٦) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨: ٢٨) وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عِبَارَةً لِعَالِمٍ مُسْتَقِلٍّ فِي هَذَا الْوُجُوبِ لِيُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْعَلَمُ الشَّامِخُ فِي إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمَشَايِخِ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَقَالَتِ الْبَصْرِيَّةُ: مَعْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى: فَإِنْ قُلْتَ فَمِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ وَالْقُبْحِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى. قُلْتُ: هُمَا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ، وَالتَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ طَلَبُ الْبَارِئِ تَعَالَى الْفِعْلَ الْمُتَّصِفَ بِالْحُكْمِ مِنَ الْمُكَلَّفِ مَعَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ وَمَعَ إِرَادَةِ الْمُكَلِّفِ تَعَالَى، وَقَوْلُنَا طَلَبٌ، لَيْسَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ إِعْلَامُ الْبَارِئِ الْمُكَلَّفَ شَأْنَ الْفِعْلِ الْمَوْصُوفِ إِلَخْ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَالتَّكْلِيفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَصْلَحَةٌ خَالِصَةٌ أَيْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مُضَرَّةٍ وَلَوَازِمُهُ عِنْدَهُمُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَالْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَالْعَالِمُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ وَكُلِّ مَفْسَدَةٍ
وَالْقَادِرُ عَلَى الْوَفَاءِ كَمَا يُرِيدُ هُوَ الْبَارِئُ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي كُتُبِهِمْ شَهِيرٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّجَاسُرُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ هُوَ الَّذِي كَثَّرَ الشِّقَاقَ وَسَلَّى عَنِ الْوِفَاقِ، وَلَا يَخْلُو مَذْهَبٌ مِنْ عَدَمِ إِنْصَافِ الْخَصْمِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا قِلَّةً وَكَثْرَةً إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي أَخْذِ الْمَذَاهِبِ مِنْ كُتُبِهَا لَا مِنْ أَقْوَالِ الْخُصُومِ لِأَهْلِهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مِنْ تَوَابِعِ التَّكْلِيفِ، وَالْبَصْرِيَّةُ يُوجِبُونَ الثَّوَابَ وَيُحَسِّنُونَ الْعِقَابَ فَقَطْ، وَلِلْبَارِئِ تَعَالَى أَنْ يُسْقِطَهُ عَقْلًا وَلُزُومُ الثَّوَابِ وَحُسْنُ الْعِقَابِ هُمَا الْمُحَسِّنَانِ لِلتَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ كَمَا مَضَى، وَمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَحْسُنُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ. وَالْبَغْدَادِيَّةُ يَقُولُونَ: يَجِبُ الثَّوَابُ وُجُوبَ جُودٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ تَقْتَضِي تَوَفُّرَ دَوَاعِي الْحَكِيمِ إِلَى فِعْلِهِ وَمَا خَلُصَ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكِيمُ، وَمَعَ هَذَا يُطْلِقُونَ أَنَّ الثَّوَابَ تُفَضُّلٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةُ وُجُوبٍ فِي نَفْسِهِ
فَاعْرِفْ مَذْهَبَهُمْ فَكَمْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ إِخْوَانُهُمُ الْبَصْرِيُّونَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ سَابِقَةُ الْإِنْعَامِ وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْعِقَابِ وَيُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ لُطْفٌ لِلْمُكَلَّفِينَ وَاللُّطْفُ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ، فَمَذْهَبُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مُتَعَاكِسٌ " اهـ.
وَقَدْ أَطَالَ الْمُقْبِلِيُّ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَبْحَثِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَرْجَعَ كَلَامَ الْبَغْدَادِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى كَلَامِ الْبَصْرِيَّةِ. وَأَيْضًا فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّازِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ وَفُرُوعِهِ وَلَا سِيَّمَا زَعْمُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ إِلَّا بِالْقَوْلِ بِالْجَبْرِ أَوِ بِالْتِزَامِ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ وَهُوَ مَا يُكَرِّرُهُ فِي تَفْسِيرِهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَبْحَثِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَرَدَّ فِيهِ عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَنَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مُطْلَقًا، أَيْ حَتَّى الشَّرْعِيِّينَ ; لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ لَيْسَ فِيهِ حُسْنٌ ذَاتِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا حُسْنُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَكَانَ قَبِيحًا، وَفِي الْجَبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(٣) الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَشَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّرَاجِمِ لِلْأَشَاعِرَةِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ مُشَافَهَةً وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرَ الرَّازِيُّ مِنْ تَوَسُّطِ الْعَجُوزِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْمُقْبِلِيُّ بِالِاخْتِصَارِ ثُمَّ قَالَ:
فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ هَوَسٌ، وَأَدْنَى الْمُعْتَزِلَةِ - فَضْلًا عَنْ شَيْخِهِمْ - يَقُولُ مِنْ جَوَابِ اللهِ
عَلَى الصَّغِيرِ: فَضْلِي أَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ أَشَاءُ كَمَا كَانَ جَوَابُ اللهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تُفَضُّلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ - وَهُمُ الْبَغْدَادِيَّةُ - إِنَّ التَّكْلِيفَ وَاجِبٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ جُودٍ لَا نَعْتَرِضُ عَلَى تَارِكِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ خَلُّوُّهَا عَنِ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ سَاقِطٌ إِجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ مُطْلَقًا إِنَّمَا يَكُونُ لِمُخَالَفَةِ مَا يَنْبَغِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ؛ إِنَّمَا مَعْنَاهُ فِينَا أَنَّا خَالَفْنَا الْقَادِرَ الَّذِي جَعَلَ مُخَالَفَتَهُ عَلَّامَةَ عُقُوبَتِهِ، لَا لِأَنَّهُ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُمْتَثَلَ أَمْرُهُ فَإِنَّ هَذَا مَعْنَى التَّحْسِينِ الَّذِي نَفَوْهُ، وَلَكِنْ لِخَوْفِ ضَرَرِهِ الَّذِي نَصَبَ الْوَعِيدَ عَلَامَةً لَهُ فَكُلُّنَا عَبْدُ الْعَصَا. وَأَمَّا عِنْدُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ فَكُلُّ جُزْئِيٍّ نَرَاهُ نُدْخِلُهُ فِي الْكُلِّيَّةِ، إِنْ عَرَفْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا فَفَضْلٌ مِنَ اللهِ، وَإِلَّا فَنَحْنُ فِي سَعَةٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَعِلْمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَكَيْفَ يَتَمَشَّى الِاعْتِرَاضُ؟ أَمَّا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ فَلِأَنَّهُ كَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ النَّطْعِ وَالسَّيْفِ، وَأَمَّا
عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْجَاهِلِينَ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ وَيَتْلُوهُ التَّشْنِيعُ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي سِيَاقِ رَدٍّ طَوِيلٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَالتَّعَجُّبُ مِنْ نَقْلِ كِبَارِ عُلَمَائِهِمْ لِهَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الَّتِي سَمَّاهَا خُرَافَةً.
وَغَرَضُنَا مِنْ نَقْلِ كَلَامِهِ إِقْنَاعُ الْقَارِئِ بِأَلَّا يَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْخَالِصِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ; لِأَنَّنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ بِالدِّينِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَأَلَّفَتْ لَهُ عَصَبِيَّةٌ تَنْصُرُهُ وَتَعُدُّ كَلَامَهُ أَصْلًا فِي الدِّينِ تَقْبَلُ مَا وَافَقَهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَرُدُّ مَا خَالَفَهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ بِاحْتِمَالِ وُجُودِ تَأْوِيلٍ.
(٤) لَمَّا ظَهَرَ الْجَدَلُ الَّذِي سُمِّيَ عِلْمَ الْكَلَامِ عَدَّهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِدْعَةً سَيِّئَةً وَنَهَوْا عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْأَشَاعِرَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُخْلِصِينَ مِنْهُمْ كَانُوا (يَرْجِعُونَ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي أَوَاخِرِ أَعْمَارِهِمْ) كَمَا صَرَّحْنَا بِهِ مِرَارًا، وَأَكْبَرُ أَنْصَارِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَأَقْوَاهُمْ حُجَّةً شَيْخَا الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَشَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَمِنْ أَوْسَعِ كُتُبِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الَّذِي تَخُوضُ فِي أَعْضَلِ مَسَائِلِهِ كِتَابُ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) وَكِتَابُ (شِفَاءُ الْعَلِيلِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ).
(٥) كَلِمَةُ الِاعْتِدَالِ الْوُسْطَى فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ: " اعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ فَاعِلٌ غَيْرُ مُنْفَعِلٍ، وَالْعَبْدَ فَاعِلٌ مُنْفَعِلٌ. وَهُوَ فِي فَاعِلِيَّتِهِ مُنْفَعِلٌ لِلْفَاعِلِ الَّذِي لَا يَنْفَعِلُ بِوَجْهٍ. فَالْجَبْرِيَّةُ شَهِدَتْ كَوْنَهُ مُنْفَعِلًا يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ وَالْمَحَلِّ، وَجَعَلُوا حَرَكَتَهُ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ فَاعِلًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَقَامَ وَقَعَدَ وَأَكَلَ وَصَلَّى وَصَامَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ: مَرِضَ وَأَلِمَ وَمَاتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مُنْفَعِلٌ مَحْضٌ. وَالْقَدَرِيَّةُ شَهِدَتْ كَوْنَهُ فَاعِلًا مَحْضًا غَيْرَ مُنْفَعِلٍ فِي فِعْلِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَظَرَ بِعَيْنٍ عَوْرَاءَ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالِاعْتِدَالِ أَعْطَوْا كُلَّ الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُ وَلَمْ يُبْطِلُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَاسْتَقَامَ نَظَرُهُمْ وَمُنَاظَرَتُهُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُمُ الشَّرْعُ وَالْقَدَرُ فِي نِصَابٍ وَشَهِدُوا وُقُوعَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ " وَأَفَاضَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ.
وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَوْطِ خَطَأِ الْغُلَاةِ بِنَظَرِ بَعْضِهِمْ إِلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الشَّيْءِ أَوْ جُزْئِهِ وَنَظَرِ
الْآخَرِينَ إِلَى الْآخَرِ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْأَخْذِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ. غَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْحِكْمَةِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَغَلَتِ الْجَبْرِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ جَوَّزُوا أَنْ تَخْلُوَ الْمَشِيئَةُ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَأُولَئِكَ قَيَّدُوا مَشِيئَةَ الرَّبِّ بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُؤْمِنُ بِالصِّفَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَنِزَاعُهُمُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْغُلَاةُ فِي إِثْبَاتِهَا قَالُوا: إِنَّ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا حَسَنًا أَوْ قُبْحًا ذَاتِيًّا يُعْرَفُ
بِالْعَقْلِ وَيَأْتِي الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ كَاشِفًا لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِالنَّهْيِ كَاشِفًا لِقُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ حَسَنًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَلَا قَبِيحًا بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ وَالْغُلَاةُ فِي نَفْيِهَا قَالُوا: لَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ ذَاتِيًّا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ وَسَبَبَهُ وَسَبَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالشَّرْعِ وَحْدَهُ، فَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ لَا حُسْنَ فِيهَا لِذَاتِهَا بَلِ الْأَمْرُ بِهَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ وَالسُّكْرُ لَا قُبْحَ فِيهَا لِذَاتِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلْ عُرِفَ قُبْحُهَا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّبُّ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَيَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوْرُ وَالْكَذِبُ حَسَنًا وَالْعَدْلُ وَالصِّدْقُ قَبِيحًا، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ فِي الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ فَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْتَدِلُونَ الْجَامِعُ بَيْنَ النُّصُوصِ: أَنَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا فَلَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى بِمَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ وَحِكْمَتَهُ لَا تَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَشِيئَتِهِ بِمَا نَفْهَمُهُ وَنَعْقِلُهُ نَحْنُ مِنْهَا بِحَيْثُ نُوجِبُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَوَامِرِ وَالْأَفْعَالِ، وَنَحْظُرُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا وَإِنَّمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَسَنٌ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا هُوَ قَبِيحٌ، كَمَا قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (١٦: ٩٠) وَقَالَ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٧: ٢٨) وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ فِيهِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْفَاحِشَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَلِأَجْلِهِ نَهَى عَنْهُ وَحُسْنُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِي نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً لِلْعَبْدِ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِهِ لِمَحْضِ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ حَسَنَةٌ، لَكِنَّ حُسْنَهَا لَيْسَ فِي ذَاتِهَا بَلْ فِي شَيْءِ خَارِجٍ عَنْهَا، وَمِنْهُ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ. وَجَمِيعُ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ تَعَبُّدِيَّةً، فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَتِهَا، فَحُسْنُهَا ذَاتِيٌّ لَهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذِكْرٌ وَمُرَاقَبَةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا لَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ حُسْنَهُ فِي ذَاتِهِ كَعَدَدِ
الرَّكَعَاتِ وَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ فِيهَا، وَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ مُجَرَّدِ تَعَبُّدِنَا بِهِ. وَقَدْ شَبَّهَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِحِكْمَةِ الطَّبِيبِ فِي تَفَاوُتِ مَقَادِيرِ أَجْزَاءِ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَمَا يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنَ التَّسْلِيمِ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَأَكْبَرُهُ أَنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ لِلشَّيْطَانِ إِيقَاعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ السُّكَارَى وَالْمُقَامِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَمَعَ غَيْرِهِمْ، وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ قَبَائِحُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ وَحِكْمَةٍ وَسُنَنٍ لَا أُنُفًا وَلَا جُزَافًا وَلَا عَبَثًا، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَمْ يُشَرِّعْ لِعِبَادِهِ شَيْئًا عَبَثًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ قَادِرًا مُرِيدًا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، يُرَجِّحُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ النَّظَرِيِّ وَشُعُورِهِ الْوِجْدَانِيِّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْدِرُ عَلَى تَكَلُّفِ مَا يُؤْلِمُهُ وَلَا يُلَائِمُ هَوَاهُ وَلَذَّتَهُ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تُسْنَدُ إِلَيْهِ وَيُوَصَفُ بِهَا لِأَنَّهَا تَقُومُ بِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَا لِأَنَّهُ مَحِلُّهَا، وَتُنْسَبُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالْمُعْطِي لَهُ هَذَا التَّصَرُّفَ وَالِاخْتِيَارَ، وَالْهَادِي لَهُ إِلَى السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ، وَالْخَالِقُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ، بِحَيْثُ يُشْتَقُّ لَهُ الْوَصْفُ مِنْهُ فَيُقَالُ: أَكَلَ زِيدٌ فَهُوَ آكِلٌ، وَصَلَّى عَمْرٌو فَهُوَ مُصَلٍّ، وَسَرَقَ بَكْرٌ فَهُوَ سَارِقٌ، وَلَا يُقَالُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَارِئِ تَعَالَى.
وَلَا يَخْلُقُ اللهُ - تَعَالَى - شَيْئًا قَبِيحًا وَلَا شَرًّا بَلْ هُوَ: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) فَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ كَمَا وَرَدَ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الشَّرُّ وَالْقَبِيحُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ، وَيُوصَفُ بِهِمَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ أَوْ تَسُوءُهُمْ، فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَلَمٌ أَوْ ضَرَرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ يُسَمُّونَهُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَنْ هَدَمَ الْمَطَرُ أَوْ فَيَضَانُ النِّيلِ دَارَهُ يُعَدُّ شَرًّا لَهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِمَنْ لَا يُحْصَى مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا يَعُدُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ شَرًّا لَهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَبْدَئِهِ، وَيَكُونُ خَيْرًا فِي الْوَاقِعِ أَوْ فِي الْغَايَةِ. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢٤: ١١) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٢: ٢١٦) وَقَالَ فِيمَنْ يَكْرَهُونَ نِسَاءَهُمْ: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (٤: ١٩) وَأَعْظَمُ هَذَا الْخَيْرِ وِلَادَةُ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ، وَلَكِنْ جَمِيعُ مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ شَرًّا مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ يَقَعُ بِقَدَرِ اللهِ وَوِفَاقِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَرَبْطِ أَسْبَابِهِ
بِمُسَبَّبَاتِهِ، وَقَدْ رَدَّ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ نُفَاةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْأَشْيَاءِ فِي كِتَابِهِ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) مِنْ ٦٣ وَجْهًا فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ.
(٦) مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَدْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَهُ يَسْأَلُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْجَزَاءِ وَحِكْمَتِهِ فَيُجِيبُهُمْ، كَمَا سَأَلُوا الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ فَأُجِيبُوا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَحْتَجُّونَ فِي الْآخِرَةِ فَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ. وَمِمَّا حَكَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) (٤: ٧٧) إِلَى قَوْلِهِ: (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (٤: ١٦٥) وَقَالَ فِي كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (٢٠: ١٣٤) أَيْ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (٢٠: ١٢٤ ١٢٧) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلًّا مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَأَهْلِ الْإِنْجِيلِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَأَعْطَى أَهْلَ الْقُرْآنِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَضَرَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ مَثَلَ مَنِ اسْتَأْجَرَ عُمَّالًا بِأُجْرَةٍ مُعِينَةٍ عَلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَعُمَّالًا بِأُجْرَةٍ عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْجُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: " فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبِّ أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ،
وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْهُمْ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) (٥٧: ٢٨) إِلَى قَوْلِهِ: (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ٢٩) وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَطْلَعَ رَسُولَهُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْغَيْبِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُؤَالِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِهِمْ عَنْ سَبَبِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِجَابَتِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ، وَجَوَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّصَافِهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَتَنَزُّهِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَمِنَ الْعَدْلِ إِعْطَاءُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَحَقُّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَنْ يُثِيبَهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ عَذَابَ مَنْ أَشْرَكَ فِي النَّارِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: يَا " مُعَاذُ "، قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: " يَا مُعَاذُ " قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: " يَا مُعَاذُ " قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: " يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ " قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ " رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي بِضْعَةِ كُتُبٍ مِنَ الصَّحِيحِ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابٍ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ حُجَّةٌ عَلَى الرَّازِيِّ وَمَنْ قَالَ بُقَوْلِهِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ إِطْلَاقِ عَدَمِ سُؤَالِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ عَنْ شَيْءٍ، وَعَدَمِ ثُبُوتِ أَيِّ حَقٍّ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَحُجَّةٌ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ حَقًّا مِنْ إِثْبَاتِ كُلِّ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(٧) يُمْكِنُ رَدُّ نَظَرِيَّاتِ الشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَنَظَرِيَّاتِ شَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَعًا مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَمُعَلَّلَةٌ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَكَوْنِ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ، وَكَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ نَقْلًا عَنْ كُتُبِهِمْ، فَنَذْكُرُ بَعْضَ مَا يَخْطُرُ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَالِ، لِيَكُونَ نَمُوذَجًا لِمَنْ يَبْنِي عَقِيدَتَهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَعْرِفُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ، فَنَقُولُ:
ذَكَرَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ لِلْجُبَّائِيِّ: (مَا قَوْلُكَ فِي ثَلَاثَةٍ: مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَصَبِيٍّ؟ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ، وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْهَلِكَاتِ، وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ. فَقَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ أَرَادَ الصَّبِيُّ أَنْ يَرْقَى إِلَى أَهْلِ الدَّرَجَاتِ هَلْ يُمْكِنُ؟ قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا، يُقَالُ لَهُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِالطَّاعَةِ وَلَيْسَ لَكَ مِثْلُهَا. قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ قَالَ: التَّقْصِيرُ لَيْسَ مِنِّي فَلَوْ أَحْيَيْتَنِي كُنْتُ عَمِلْتُ مِنَ الطَّاعَاتِ كَعَمَلِ الْمُؤْمِنِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ لَهُ اللهُ: كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَوْ بَقِيتَ لَعَصَيْتَ وَلَعُوقِبْتَ، فَرَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ. قَالَ الشَّيْخُ: فَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ يَارَبِّ عَلِمْتَ حَالَهُ كَمَا عَلِمْتَ حَالِي فَهَلَّا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي مِثْلَهُ؟ فَانْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ).
فَأَمَّا جَوَابُ الْجُبَّائِيِّ الْأَوَّلُ فِي الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ وَالْكَافِرِ الْفَاسِقِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٨: ٤)
وَقَوْلُهُ فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بِالْإِجْمَالِ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (٦: ١٣٢) وَسَتَأْتِي قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) (٢٠: ٧٤، ٧٥) فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ النُّصُوصِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْوَصْفِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لَهُ، كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالنُّصُوصُ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَعَ الْأَعْمَالِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ الْأَوَّلُ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الدَّرَجَاتِ الَّتِي نَالَهَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَاتِ بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ الْحَقِّ وَجَزَائِهِ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ
تَلْحَقُ بِالْأَصْلِ. وَأَمَّا جَوَابُهُ الثَّانِي فَهُوَ خَطَأٌ نَشَأَ عَنْ غَفْلَتِهِ عَنْ فَسَادِ السُّؤَالِ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ حَيَاةِ الصَّبِيِّ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ وَيَعْمَلَ مَا يَعْمَلُ مَسْأَلَةٌ عَدَمِيَّةٌ لَا وَجْهَ لِسُؤَالِ الْخَالِقِ عَنْهَا، وَلَا يَأْتِي فِيهَا مَسْأَلَةُ الْأَصْلَحِ فِي مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ تَعَالَى يَجِبُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَلَّا تَخْلُوَ عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَادِرَةٌ عَنْهُ تَعَالَى حَسَنَةً وَخَيْرًا. وَلَا تَقْتَضِي قَوَاعِدُهُمْ هَذَا فِي الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّمَا لَمْ يَخْلُقْ مِنْ صُلْبِ فُلَانٍ مِائَةَ رَجُلٍ لِكَذَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَلَمْ يَجْعَلْ عُمْرَ فُلَانٍ أَلْفَ سَنَةٍ لِكَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ وَالسُّنَنِ فَيُقَالُ فِيهِ بِالِاخْتِصَارِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَلَّتْ حِكْمَتُهُ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ أُمُورِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ لِطُولِ الْعُمْرِ أَسْبَابٌ، مَنْ رُوعِيَتْ فِيهِ صَغِيرًا مِمَّنْ يَقُومُ بِأَمْرِ تَرْبِيَتِهِ وَرَاعَاهَا فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ طَالَ عُمْرُهُ بِتَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ لِاخْتِيَارِ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَضِدِّهِ وَاخْتِيَارِ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَضِدِّهِ أَسْبَابًا بِحَسَبِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْأَقْدَارِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ بَصَائِرُ غُلَاةِ الْقَدَرِيَّةِ) مِنَ الْجُودِ وَالْفَضْلِ، فَلَوْ سَأَلَ صَبِيٌّ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَ لَمْ يَطُلْ عُمْرُهُ عَسَاهُ يَعْمَلُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى؟ فَالْمَعْقُولُ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ لَهُ تَعَالَى مَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْ سُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَكَوْنِ سُنَنِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ إِطَالَتَهُ لِعُمْرِ فُلَانٍ دُونَ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا أُنُفًا جَدِيدًا كَمَا تَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ السُّؤَالُ: لِمَ خَصَّ فَلَانًا بِكَذَا وَحَرَمَ مِنْهُ فَلَانًا وَهُوَ مِثْلُهُ؟.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَسْأَلَةَ إِطَالَةِ أَعْمَارِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْجُودِ الْخَاصِّ الَّذِي يَخْتَصُّ اللهُ بِهِ تَعَالَى بَعْضَ الْعِبَادِ تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَعِنَايَةً بِهِ كَمَا فَضَّلَ بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَمَا فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ عَلَى الْأُمَمِ بِإِيتَائِهَا كِفْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ، وَلَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلَامِ فِي التَّوْفِيقِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْرُومُ مِنْهَا مَخْذُولًا، وَإِنَّمَا طُولُ الْأَعْمَارِ وَقِصَرُهَا
وَالْأَمْرَاضُ جَارِيَةٌ عَلَى وِفْقِ الْمَقَادِيرِ الْمُطَّرِدَةِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَهِيَ كَمَسْأَلَةِ الرِّزْقِ فِي سَعَتِهِ وَضِيقِهِ، قَالَ تَعَالَى فِيهَا: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (١٧: ٢٠، ٢١) أَمَّا كَوْنُ الْآخِرَةِ أَكْبَرَ دَرَجَاتٍ فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَرْقَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا كَوْنُهَا أَكْبَرَ تَفْضِيلًا فَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِيهَا يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا أَعْظَمَ مِمَّا فِي الدُّنْيَا بِمَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرَهُ ; وَلِأَنَّهُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَجْرٌ عَلَى الْأَعْمَالِ يُضَاعَفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ، وَثَانِيهِمَا: فَضْلٌ لَا حَدَّ لَهُ، لَا جَزَاءَ عَلَى عَمَلٍ يُكَافِئُهُ. وَبِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي بَيَّنَاهُ لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِقَوْلِ الْكَافِرِ وَسُؤَالِهِ.
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ أَصْحَابِهِ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَدُّ الرَّازِيِّ عَلَيْهِ تَمَحُّلٌ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ إِيصَالَ التَّفَضُّلِ إِلَى أَحَدِ النَّاسِ يَقْتَضِي إِيصَالَهُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيَقْبُحُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَاقًّا عَلَى اللهِ وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ. وَأَنَّهُ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا فِي الْغَائِبِ، وَضَرَبَ لَهُ فِي الشَّاهِدِ مَثَلَ الْمِرْآةِ، وَلَوْلَا تَعَصُّبُ الْمَذْهَبِ لَمَا كَانَ هَذَا الْعَالِمُ الْكَبِيرُ وَالذَّكِيُّ النِّحْرِيرُ يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَوْمُ يَقُولُونَ بِأَنَّ التَّفَضُّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِذِ الْوَاجِبُ لَا يُسَمَّى تَفَضُّلًا. وَيَقُولُونَ: إِنَّ وُجُوبَ التَّكْلِيفِ وُجُوبُ جُودٍ ; لِأَنَّهُ كَمَالٌ لَا وُجُوبُ إِلْزَامٍ وَإِجْبَارٍ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ عَلَيْهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَاقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي مُلْكِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الْخَصْمِ، وَمَثَلُ الْمِرْآةِ غَيْرُ مُنْطَبِقٍ، وَهُوَ مِنْ قِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَيَا لَهُ مِنْ قِيَاسٍ مَعَ الْفَارِقِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ فَارِقٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يُعَدُّ هَيِّنًا فِي جَنْبِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ وُجُوهِ جَعْلِ الْمُعْتَزِلَةِ خُصُومًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ صَوَّرَ فِيهِمَا مَسْأَلَةَ إِثْبَاتِ وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ بِصُورَةٍ مُشَوَّهَةٍ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا وَيُكَفِّرُ قَائِلَهَا كُلُّ مُعْتَزِلِيٍّ، وَهِيَ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا الْوُجُوبِ يَقُولُ لِرَبِّهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا مِنَ الْبَاطِلِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ أَنَّ مِنْ لَوَازِمَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَلَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ أَحَدًا يَنْطِقُ بِمُؤَاخَذَةِ رَبِّهِ وَتَهْدِيدِهِ وَعَزْلِهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَشَتْمِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا وُجُوبُ جُودٍ وَتَفَضُّلٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ مُقْتَضَى صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ إِثْبَاتِ
الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا إِلَّا بِحُصُولِ مُتَعَلِّقَاتِهَا مِثْلُ هَذَا التَّنْقِيصِ الْفَظِيعِ، وَالْكُفْرِ الْمُشَوَّهِ الشَّنِيعِ؟ !
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَدَ تَنْزِيهَ اللهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَوَصْفَهُ بِالْكَمَالِ