آيات من القرآن الكريم

وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ

يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال، وقيل:
إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز وجل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر: ٦] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق، والمراد- بالذين كفروا- بنو النضير- بوزن الأمير- وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة، ويقال للحيين: الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر، ويقال: إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلّى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى.
وقيل: إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق، وقال لهم: لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة الله تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب، والثاني متعلق- باخرج- وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا، وضمير هُوَ راجع إليه تعالى بعنوان العزة

صفحة رقم 233

والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام: ٤٦] أي بذلك فكأنه قيل: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة، وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق- بأخرج- واللام لام التوقيت كالتي في قولهم: كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى- في- الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا: إنها بمعنى- في- إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات، وقيل: إنها للتعليل وليس بذاك، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.
وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل، وهو يوم القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا: المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام،
وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر»
ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا، وقيل: آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل: المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى، ولذا قيل: إنه الظاهر، وتعقب بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل: لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى- فحصونهم- مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم، والجملة خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء- بمانعتهم. وحصونهم- مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجيء بضمير- هم- وصير اسما- لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث، ومنع

صفحة رقم 234

بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا- لمانعتهم- لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون مانِعَتُهُمْ مبتدأ خبره حُصُونُهُمْ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل، وكانت حُصُونُهُمْ على ما قيل أربعة: الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة (١) وبعضهم شقا، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة، وقيل: ضمير فَأَتاهُمُ ولَمْ يَحْتَسِبُوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرىء فآتاهم الله، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار عطفت أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على- أيديهم- وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم- فيخربون- على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قُلُوبِهِمُ أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل: هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى- الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين- إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور

(١) قوله: الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين، وقيل: بفتحها. ويقال فيه:
السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه.

صفحة رقم 235

والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر- وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب- ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: ١٣، النور: ٤٤] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [النحل: ٦٦] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال:
إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار- لم يصح هذا السلب- سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة- فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي- سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم: إنه إذا قال لوكيله: أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم: اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال- وهو القياس. والآيتان على ذلك- ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال: قالوا: إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا، ويقال أيضا: جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضي، وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف غير متعلق بجواب لَوْلا أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما

صفحة رقم 236

أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.
ذلِكَ أي ما نزل بهم وما سينزل بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفعلوا ما فعلوا من القبائح وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصار على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو عبيدة وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان: شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة
، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس:
وسالفة كسوق الليا... ن أضرم فيه القويّ السعر
وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة:
كأن قنودي فوقها عش طائر... على لينة سوقاء تهفو جنوبها
ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، وما شرطية منصوبة- بقطعتم- ومِنْ لِينَةٍ بيان لها، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى:
أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما، وجواب الشرط قوله سبحانه: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلّى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي- قوما- على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرىء- قائما- اسم فاعل مذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على التأنيث، وقرىء- أصلها- بضمتين، وأصله أُصُولِها فحذفت الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفا على قوله تعالى: بإذن اللَّهِ وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد- بالفاسقين- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على

صفحة رقم 237

صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلّى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أول نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت الآية ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة، وقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة- وهم بنو النضير- وما موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلّى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: ٨٨، إبراهيم: ١٣] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلّى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، وأَفاءَ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ما شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت بيانا لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الإخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ إلخ فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك: كانت له صلّى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر

صفحة رقم 238
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية