أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإِبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم ﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا ﴾ فقاتلهم النبي ﷺ حتى صالحهم على الجلاء وأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب ذلك عليهم، ولولا ذلك لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله :﴿ لأول الحشر ﴾ فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عن عروة مرسلاً قال البيهقي : وهو المحفوظ.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال :« لم أجلى رسول الله ﷺ بني النضير قال :» هذا أوّل الحشر وأنا على الأثر « ».
وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث « عن ابن عباس قال : من شك أن المحشر بالشام فليقرا هذه الآية ﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ قال لهم رسول الله ﷺ يومئذ : اخرجوا، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر ».
وأخرج أحمد في الزهد عن قيس قال : قال جرير لقومه فيما يعظهم : والله إني لوددت أني لم أكن بنيت فيها لبنة ما أنتم إلا كالنعامة استترت، وإن أرضكم هذه خراب يسراها ثم يتبعها يمناها، وإن المحشر ههنا، وأشار إلى الشام.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله :﴿ لأول الحشر ﴾ قال : فتح الله على نبيه في أول حشر حشر عليهم في أول ما قاتلهم، وفي قوله :﴿ ما ظننتم ﴾ النبي ﷺ وأصحابه أن يخرجوا من حصونهم أبداً.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال :« أمر الله رسوله بإجلاء بني النضير، وإخراجهم من ديارهم، وقد كان النفاق كثيراً بالمدينة فقالوا : أين تخرجنا؟ قال : أخرجكم إلى المحشر، فلما سمع المنافقون ما يراد بإخوانهم وأوليائهم من أهل الكتاب أرسلوا إليهم فقالوا : إنا معكم محيانا ومماتنا، إن قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لا نتخلف عنكم، ومناهم الشيطان الظهور فنادوا النبي ﷺ : إنا والله لا نخرج، ولئن قاتلتنا لنقاتلنك، فمضى النبي ﷺ فيهم لأمر الله وأمر أصحابه، فأخذوا السلاح ثم مضى إليهم، وتحصنت اليهود في دورهم وحصونهم، فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى أزقتهم أمر بالأدنى من دورهم أن يهدم، وبالنخل أن يحرق ويقطع، وكفّ الله أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصروهم وألقى الله في قلوب الفريقين الرعب، ثم جعلت اليهود كلما خلص رسول الله ﷺ من هدم ما يلي مدينتهم ألقى الله في قلوبهم الرعب فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها ولم يستطيعوا أن يخرجوا على النبي ﷺ، فلما كادوا أن يبلغوا آخر دورهم وهم ينتظرون المنافقين وما كانوا منوهم، فلما يئسوا مما عندهم سألوا رسول الله ﷺ الذي كان عرض عليهم قبل ذلك، فقاضاهم على أن يجليهم ولهم أن يتحملوا بما استقلت به الإِبل، من الذي كان لهم إلا ما كان من حلقة السلاح، فذهبوا كل مذهب، وكانوا قد عيروا المسلمين حين هدموا الدور وقطعوا النخل، فقالوا : ما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون، فأنزل الله ﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ ثم جعلها نفلاً لرسول الله ﷺ، ولم يجعل منها سهماً لأحد غيره، فقال :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم ﴾ إلى قوله :﴿ قدير ﴾ فقسمها رسول الله ﷺ فيمن أراه الله من المهاجرين الأوّلين ».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق العوفي عن ابن عباس قال : كان النبي ﷺ قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء.
وأخرج البغوي في معجمه عن محمد بن مسلمة أن النبي ﷺ بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثاً.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ حرق نخل بني النضير، والجلاء، إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة ولها يقول حسان بن ثابت :
فهان على سراة بني لؤيّ | حريق بالبويرة مستطير |
وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قول الله :﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها ﴾ قال : اللينة النخلة ﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ قال : استنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم فقال المسلمون : قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً فلنسألن رسول الله ﷺ هل لنا فيما قطعنا من أجر وهل علينا فيما تركنا من وزر، فأنزل الله ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ الآية. صفحة رقم 446
وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن جابر قال : رخص لهم في قطع النخل، ثم شدد عليهم فقالوا : يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو فيما تركنا من وزر، فأنزل الله ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ الآية.
وأخرج ابن إسحق عن يزيد بن رومان قال : لما نزل رسول الله ﷺ ببني النضير تحصنوا منه في الحصون فأمر بقطع النخل والتحريق فيها فنادوه يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت ﴿ ما قطعتم من لينة.... ﴾.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقالوا : إنما هي من مغانم المسلمين، وقال الذين قطعوا : بل هي غيظ للعدوّ فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإِثم، فقال : إنما قطعه وتركه بإذن الله.
وأخرج ابن إسحق وابن مردويه عن ابن عباس أن سورة الحشر نزلت في النضير، وذكر الله فيها الذي أصابهم من النعمة وتسليط رسول الله ﷺ عليهم حتى عمل بهم الذي عمل بإذنه، وذكر المنافقين الذين كانوا يراسلونهم ويعدونهم النصر فقال :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ﴾ إلى قوله :﴿ وأيدي المؤمنين ﴾ من هدمهم بيوتهم من تحت الأبواب ثم ذكر قطع رسول الله ﷺ النخل وقول اليهود له يا محمد قد كنت تنهىعن الفساد فما بال قطع النخل؟ فقال :﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾ يخبرهم أنها نعمة منه، ثم ذكر مغانم بني النضير فقال :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم ﴾ إلى قوله :﴿ قدير ﴾ أعلمهم أنها لرسول الله ﷺ يضعها حيث يشاء، ثم ذكر مغانم المسلمين مما يوجف عليه الخيل والركاب ويفتح بالحرب فقال :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله واللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ فذا مما يوجف عليه الخيل والركاب، ثم ذكر المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول ومالكاً وداعساً ومن كان على مثل رأيهم فقال :﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخْرِجْتُمْ لنخرجن معكم ﴾ إلى ﴿ كمثل الذين من قبلهم قريباً ﴾ يعني بني قينقاع الذين أجلاهم رسول الله ﷺ.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ قبل الشام وهم بنو النضير حي من اليهود أجلاهم نبي الله ﷺ من المدينة إلى خيبر مرجعه من أحد.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ﴾ قال : النضير إلى قوله :﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ قال : ذلك ما بين ذلك كله.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : من شك أن المحشر إلى بيت القدس فليقرأ هذه الآية ﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ فقد حشر الناس مرة وذلك حين ظهر النبي ﷺ على المدينة أجلى اليهود.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن كفار قريش كتبوا إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن كان يعبد الأوثان معه من الأوس والخزرج، ورسول الله ﷺ يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر يقولون : إنكم قد آويتم صاحبنا وإنكم أكثر أهل المدينة عدداً، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنه ولنستعدين عليكم العرب، ثم لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم وأبناءكم. ، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبيّ ومن معه من عبدة الأوثان تراسلوا واجتمعوا وأجمعوا لقتال النبي ﷺ وأصحابه. فلما بلغ ذلك النبي ﷺ لقيهم في جماعة من أصحابه، فقال : لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت لتكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، فأنتم هؤلاء تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم. فلما سمعوا ذلك من النبي ﷺ تفرقوا فبلغ ذلك كفار قريش، وكانت وقعة بدر بعد ذلك فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهي الخلاخيل. فلما بلغ كتابهم اليهود اجتمعت بنو النضير بالغد وأرسلوا إلى النبي ﷺ أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك وليخرج إليك منا ثلاثون حبراً حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك، ويسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. فخرج النبي ﷺ في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا برزوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا : كيف نفهم ونحن ستون رجلاً؟ أخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك فخرج النبي ﷺ في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله ﷺ، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته خبر ما أراد بنو النضر من الغدر برسول الله ﷺ، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي ﷺ فسارّه بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي ﷺ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله ﷺ بالكتائب فحصرهم فقال لهم : إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومه ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه فانصرف عنهم إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإِبل إلا الحلقة، والحلقة السلاح، فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإِبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها فيحتملون ما وافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام، وكان بنو النضير من سبط من أسباط بني إسرائيل لم يصبهم جلاء منذ كتب الله الجلاء على بني إسرائيل، فلذلك أجلاهم رسول الله ﷺ فلولا ما كتب الله عليهم من الجلاء لعذبهم في الدنيا كما عذبت بنو قريظة، فأنزل الله ﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ حتى بلغ ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فكان نخيل بني النضير لرسول الله ﷺ خاصة، فأعطاه الله إياها وخصّه بها، فقال :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ يقول : بغير قتال فأعطى النبي ﷺ أكثرها المهاجرين، وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة لم يقسم لأحد من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله ﷺ التي في أيدي بني فاطمة.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي مالك أن قريظة والنضير قبيلتين من اليهود كانوا حلفاء لقبيلتين من الأنصار، الأوس والخزرج في الجاهلية، « فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة وأسلمت الأنصار وأبت اليهود أن يسلموا سار المسلمون إلى بني النضير وهم في حصونهم، فجعل المسلمون يهدمون ما يليهم من حصونهم ويهدم الآخرون ما يليهم سقط أن يقع عليهم حتى أفضوا إليهم فنزلت ﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ﴾ إلى قوله :﴿ شديد العقاب ﴾ فلما أفضوا إليهم نزلوا على عهد بينهم وبين نبي الله ﷺ على أن يجلوهم وأهليهم ويأخذوا أموالهم وأرضهم، فأجلوا ونزلوا خيبر، وكان المسلمون يقطعون النخل، فحدثني رجال من أهل المدينة أنها نخل أصفر كهيئة الدقل تدعى اللينة. ، فاستنكر ذلك المشركون، فأنزل الله عذر المسلمين ﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾ فأما قول الله ﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ قال : لم يسيروا إليهم على خيل ولا ركاب إنما كانوا في ناحية المدينة، وبقيت قريظة بعدهم عاماً أو عامين على عهد بينهم وبين نبي الله ﷺ، فلما جاء المشركون يوم الأحزاب أرسل المشركون إليهم أن اخرجوا معنا على رسول الله ﷺ، فأرسلت إليهم اليهود أن ارسلوا إلينا بخمسين من رهنكم، فجاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المسلمين فحدثهم، وكان نعيم يأمن في المسلمين والمشركين، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ أنهم قد أرسلوا إلى المشكرين يسألونهم خمسين من رهنهم ليخرجوا معهم فأبوا أن يبعثوا إليهم بالرهن فصاروا حرباً للمسلمين والمشركين فبعث إليهم النبي ﷺ سعد بن معاذ وخوات بن جبير، فلما أتياهم قال عظيمهم كعب بن الأشرف : إنه قد كان لي جناحان فقطعتم أحدهما فإما أن تردوا عليّ جناحي، وإما أن أتخذ عليكم جناحاً، فقال خوات بن جبير : إني لأهم أن أطعنه بحربتي. فقال له سعد : إذن يسبق القوم ويأخذون، فمنعه فرجعا إلى النبي ﷺ فحدثاه بالذي كان من أمرهما وأذن الله فيهم، ورجع الأحزاب ووضع النبي ﷺ سلاحه فأتاه جبريل، فقال : والذي أنزل عليك الكتاب ما نزلت عن ظهرها منذ نزل بك المشركون حتى هزمهم الله، فسر فإن الله قد أذن لك في قريظة فأتاهم النبي ﷺ هو وأصحابه فقال لهم : يا إخوة القردة والخنازير، فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت فحاشاً فنزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان من القبيلة الذين هم حلفاؤهم فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتقسم غنائمهم وأموالهم ويذكرون أن النبي ﷺ قال : حكم بحكم الله فضرب أعناقهم وقسم غنائمهم وأموالهم ».
صفحة رقم 449وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن سعيد قال : أتى رسول الله ﷺ بني النضير في حاجة فهموا به فأطلعه الله على ذلك فندب الناس إليهم فصالحهم على أن لهم الصفراء والبيضاء وما أقلت الإِبل، ولرسول الله ﷺ النخل والأرض والحلقة قسمها رسول الله ﷺ بين المهاجرين، ولم يعط أحداً من الأنصار منها شيئاً إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة.
صفحة رقم 450وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة « أن رسول الله ﷺ غدا يوماً إلى النضير ليسألهم كيف الدية فيهم، فلما لم يروا مع رسول الله كثير أحد أبرموا بينهم على أن يقتلوه ويأخذوا أصحابه أسارى ليذهبوا بهم إلى مكة ويبيعوهم من قريش. فبينما هم على ذلك إذ جاء من اليهود من المدينة فلما رأى أصحابه يأتمرون بأمر النبي ﷺ قال لهم : ما تريدون؟ قالوا : نريد أن نقتل محمداً ونأخذ أصحابه، فقال لهم : وأين محمد؟ قالوا : هذا محمد قريب. فقال لهم صاحبهم : والله لقد تركت محمداً داخل المدينة فأسقط بأيديهم وقالوا : قد أخبر أنه انقطع ما بيننا وبينه من العهد، فانطلق منهم ستون حبراً ومنهم حيي بن أخطب والعاصي بن وائل حتى دخلوا على كعب، وقالوا : يا كعب أنت سيد قومك ومدحهم احكم بيننا وبين محمد، فقال لهم كعب : أخبروني ما عندكم قالوا : نعتق الرقاب ونذبح الكوماء، وإن محمداً انبتر من الأهل والمال فشرفهم كعب على رسول الله ﷺ فانقلبوا فأنزل الله ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ [ النساء : ٥١ ] إلى ﴿ فلن تجد له نصيراً ﴾ [ المائدة : ١١ ] ونزل عليه لما أرادوا أن يقتلوه ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾ الآية فقال رسول الله ﷺ :» من يكفيني كعباً؟ « فقال ناس من أصحابه فيهم محمد بن مسلمة : نحن نكفيك يا رسول الله ونستحل منك شيئاً فجاؤوه فقالوا : يا كعب إن محمداً كلفنا الصدقة فبعنا شيئاً. قال عكرمة : فهذا الذين استحلوه من رسول الله ﷺ، فقال لهم كعب : أرهنوني أولادكم فقالوا : إن ذاك عار فينا غداً تبيح أن يقولوا عبد وسق ووسقين وثلاثة، قال كعب : فاللامة. قال عكرمة : وهي السلاح، فأصلحوا أمرهم على ذلك فقالوا : موعد ما بيننا وبينك القابلة، حتى إذا كانت القابلة راحوا إليه ورسول الله ﷺ في المصلى يدعو لهم بالظفر، فلما جاؤوا نادوه يا كعب، وكان عروساً فأجابهم، فقالت امرأته : وهي بنت عمير أين تنزل قد أشم الساعة ريح الدم، فهبط وعليه ملحفة مورسة، وله ناصية، فلما نزل إليهم قال القوم : ما أطيب ريحك ففرح بذلك فقام إليه محمد بن مسلمة فقال قائل المسلمين : أشمونا من ريحه، فوضع يده على ثوب كعب وقال : شموا فشموا، وهو يظن أنهم يعجبون بريحه، ففرح بذلك، فقال محمد بن مسلمة : بقيت أنا أيضاً، فمضى إليه فأخذ بناصيته ثم قال : اجلدوا عنقه، فجلدوا عنقه، ثم إن رسول الله غدا إلى النضير، فقالوا : ذرنا نبك سيدنا، قال : لا، قالوا فحزة على حزة. قال : نعم حزة على حزة. فلما رأوا ذلك جعلوا يأخذون من بطون بيوتهم الشيء لينجوا به والمؤمنون يخربون بيوتهم من خارج ليدخلوا عليهم، فلولا أن كتب الله عليهم الجلاء، قال عكرمة : والجلاء يجلون منهم ليقتلهم بأيديهم. وقال عكرمة : إن ناساً من المسلمين لما دخلوا على بني النضير أخذوا يقطعون النخل، فقال بعضهم لبعض : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، وقال قائل من المسلمين : لا يقطعون وادياً ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح فأنزل الله ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ وهي النخلة ﴿ أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ﴾ قال : ما قطعتم فبإذني وما تركتم فبإذني ».
صفحة رقم 451
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله :﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ قال : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ليدخلوا عليهم، ويخربها اليهود من داخلها.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن مقاتل بن حيان في قول الله تعالى :﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ قال : كان رسول الله ﷺ يقاتلهم، فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال، وكانت اليهود إذا غلبوا على درب أو دار نقبوها من أدبارها ثم حصنوها ودربوها فيقول الله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ وقوله :﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ إلى قوله :﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ يعني باللينة النخل، وهي أعجب إلى اليهود من الوصف، يقال لثمرها اللون، فقالت اليهود عند قطع النبي ﷺ نخلهم وعقر شجرهم : يا محمد زعمت أنك تريد الإِصلاح، أفمن الإِصلاح عقر الشجر وقطع النخل والفساد؟ فشق ذلك على النبي ﷺ ووجد المسلمون من قولهم في أنفسهم من قطعهم النخل خشية أن يكون فساداً، فقال بعضهم لبعض : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، فقال الذين يقطعونها : نغيظهم بقطعها، فأنزل الله ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ يعني النخل فبإذن الله وما تركتم قائمة على أصولها فبإذن الله فطابت نفس النبي ﷺ وأنفس المؤمنين ﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ يعني يهود أهل النضير. وكان قطع النخل وعقر الشجر خزياً لهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري في قوله :﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم ﴾ قال : ما صالحوا النبي ﷺ كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها فكان ذلك تخريبها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله :﴿ يخربون بيوتهم ﴾ من داخل الدار لا يقدرون على قليل ولا كثير ينفعهم إلا خربوه وأفسدوه لئلا يدعوا شيئاً ينفعهم إذا رحلوا، وفي قوله :﴿ وأيدي المؤمنين ﴾ ويخرب المؤمنون ديارهم من خارجها كيما يخلصوا إليهم، وفي قوله :﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ﴾ قال : لسلط عليهم فضربت أعناقهم وسبيت ذراريهم، ولكن سبق في كتابه الجلاء لهم ثم أجلوا إلى أذرعات وأريحا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله :﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ قال : كانت بيوتهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها، وكانوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال : الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد.
وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ قال : هي النخلة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله.
وأخرج عبد بن حميد عن عطية وعكرمة ومجاهد وعمرو ابن ميمون مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ من لينة ﴾ قال : نوع من النخل.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : اللينة ما دون العجوة من النخل.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الزهري قال : اللينة ألوان النخل كلها إلا العجوة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ قال : نخلة أو شجرة
وأخرج عبد بن حميد عن الأعمش أنه قرأ « ما قطعتم من لينة أو تركتموها قواماً على أصولها ».
وأخرج عبد بن حميد عن ابن شهاب قال : يلغني أن رسول الله ﷺ أحرق بعض أموال بني النضير فقال قائل :
فهان على سراة بني لؤيّ | حريق بالبويرة مستطير |
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قسم بين قريش والمهاجرين، النضير فأنزل الله ﴿ ما قطعتم من لينة ﴾ قال : ما هي العجوة والفنيق والنخيل، وكانا مع نوح في السفينة، وهما أصل التمر، ولم يعط رسول الله ﷺ من الأنصار أحداً إلا رجلين أبا دجانة وسهل بن حنيف.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الأوزاعي قال :« أتى النبي ﷺ يهودي فسأله عن المشيئة قال : المشيئة لله، قال : فإني أشاء أن أقوم، قال : قد شاء الله أن تقوم، قال : فإني أشاء أن أقعد، قال : فقد شاء الله أن تقعد، قال : فإني أشاء أن أقطع هذه النخلة، قال : فقد شاء الله أن تقطعها، قال : فإني أشاء أن أتركها، قال : فقد شاء الله أن تتركها، قال : فأتاه جبريل عليه السلام فقال : قد لقنت حجتك كما لقنها إبراهيم عليه السلام، قال : ونزل القرآن ﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ﴾ ». صفحة رقم 453
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي وابن المنذر عن الزهري في قوله :﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ قال : صالح النبي ﷺ أهل فدك وقرى سماها وهو محاصر قوماً آخرين، فأرسلوا بالصلح فأفاءها الله عليهم من غير قتال، ولم يوجفوا عليه خيلاً ولا ركاباً فقال الله :﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ يقول : بغير قتال. وقد كانت أموال بني النضير للنبي ﷺ خالصاً لم يفتتحوها عنوة إنما فتحوها على صلح، فقسمها النبي ﷺ بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا رجلين كانت بهما حاجة أبو دجانة وسهل بن حنيف.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله ﷺ خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنتهم، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد ﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ قال : يذكرهم ربهم أنه نصرهم وكفاهم بغير كراع ولا عدة في قريظة وخيبر.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ قال : أمر الله رسوله بالسير إلى قريظة والنضير، وليس للمؤمنين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، فجعل رسول الله ﷺ يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال : والايجاف أن يوضعوا السير وهي لرسول الله ﷺ، فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عربية، وأمر الله رسوله أن يعد لينبع، فأتاها رسول الله ﷺ فاحتواها كلها، فقال أناس : هلا قسمها فأنزل الله عذره فقال :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ﴾ إلى قوله :﴿ شديد العقاب ﴾.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ قال : من قريظة جعله الله لمهاجرة قريش خصوا به.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري في قوله :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ قال : بلغني أنها الجزية والخراج.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكتيبة والوطيخ وسلالة ووجدة، وكان الذي للمسلمين الشق والشق ثلاثة عشر سهماً ونطاه خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله ﷺ من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن رسول الله ﷺ لأحد تخلف عنه عند مخرجه الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبدالله بن عمرو بن حزام الأنصاري.
وأخرج أبو داود وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كان لرسول الله ﷺ صفايا بني النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت لابن السبيل، وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء فقسم منها جزأين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله رده على فقراء المهاجرين.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش قال : ليس بين مصحف عبدالله وزيد بن ثابت خلاف في حلال وحرام إلا في حرفين في سورة الأنفال ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] وفي سورة الحشر ﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله ﴾.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ قال : كان الفيء بين هؤلاء، فنسختها الآية التي : في الأنفال فقال ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] فنسخت هذه الآية ما كان قبلها في سورة الحشر فجعل الخمس لمن كان له الفيء وصار ما بقي من الغنيمة لسائر الناس لمن قاتل عليها.
وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن مردويه عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : بعث إليّ عمر بن الخطاب في الهاجرة، فجئته فدخلت عليه فإذا هو جالس على سرير ليس بينه وبين رمل السرير فراش، متكىء على وسادة من آدم، فقال : يا مالك إنه قدم علينا أهل أبيات من قومك، وإني قد أمرت فيهم برضخ فخذه فأقسمه بينهم، فقلت : يا أمير المؤمنين إنهم قومي وأنا أكره أن أدخل بهذا عليهم فمر به غيري فإني لأراجعه في ذلك إذ جاءه يرفا غلامه فقال : هذا عثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفا فقال : هذا علي وعباس قال : ائذن لهما في الدخول فدخلا، فقال عباس : ألا تعديني على هذا فقال القوم : يا أمير المؤمنين اقض بين هذين وأرح كل واحد منهما من صاحبه، فإن في ذلك راحة لك ولهما.
فجلس عمر ثم قال : اتئدوا. وحسر عن ذراعيه ثم قال : أنشدكم بالله أيها الرهط هل سمعتم رسول الله ﷺ قال :« انا لا نورث ما تركنا صدقة إن الأنبياء لا تورث » فقال القوم : نعم قد سمعنا ذاك. ثم أقبل على علي وعباس فقال : أنشدكما بالله هل سمعتما رسول الله ﷺ قال ذاك؟ قالا : نعم، فقال عمر : ألا أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله خص نبيه من هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره يريد أموال بني النضير كانت نقلاً لرسول الله ﷺ ليس لأحد فيها حق معه، فوالله ما احتواها دونكم ولا استأثر بها عليكم، لقد قسمها فيكم حتى كان منها هذا المال، فكان رسول الله ﷺ يدخر منه قوت أهله لسنتهم، ويجعل ما بقي في سبيل المال حتى توفى الله نبيه ﷺ، فقام أبو بكر، فقال : أنا وليّ رسول الله ﷺ أعمل بما كان يعمل وأسير بسيرته في حياته، فكان يدخر من هذا المال قنية أهل رسول الله ﷺ لسنتهم، ويجعل ما بقي في سبل المال كما كان يصنع رسول الله ﷺ، فوليها أبو بكر حياته حتى توفي أبو بكر، قلت : أنا ولي رسول الله ﷺ وولي أبي بكر أعمل بما كانا يعملان به في هذا المال فقبضتها، فلما أقبلتما عليّ وأدبرتما وبدا لي أن أدفعها إليكما أخذت عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما كان رسول الله ﷺ يعمل به فيها وأبو بكر وأنا، حتى دفعتها إليكما أنشدكم الله أيها الرهط هل دفعتها إليهما بذلك؟ قالوا : اللهم نعم، ثم أقبل عليهما فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا : نعم، قال : فقضاء غير ذلك تلتمسان مني، فلا والله لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن كنتما عجزتما عنها فأدياها إليّ ثم قال عمر : إن الله قال :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ فكانت لرسول الله ﷺ، ثم قال :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ﴾ إلى آخر الآية ﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾ ثم قال : والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ﴾ ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال :﴿ والذين تبوَّءو الدار والإِيمان ﴾ إلى ﴿ المفلحون ﴾ ثم والله ما أعطاها لهؤلاء وحدهم حتى قال :﴿ والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ﴾ إلى قوله :﴿ رحيم ﴾ فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر.
صفحة رقم 456
قال عمر : لئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه.
وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيدة وابن زنجويه معاً في الأموال وعبد بن حميد وأبو داود وفي ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ حتى بلغ ﴿ عليم حكيم ﴾ ثم قال : هذه لهؤلاء ثم قرأ ﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ حتى بلغ ﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ إلى آخر الآية فقال : هذه للمهاجرين، ثم تلا ﴿ والذين تبوّءو الدار والإِيمان من قبلهم ﴾ إلى آخر الآية فقال : هذه للأنصار، ثم قرأ ﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ إلى آخر الآية ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له في هذا المال حق، ألا ما تملكون من وصيتكم ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير حمره نصيه منها لم يعرق فيه جبينه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : اجتمعوا لهذا المال فأنظروا لمن ترونه، ثم قال لهم : إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قرأت آيات من كتاب الله فكفتني، سمعت الله يقول :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ﴾ إلى قوله :﴿ أولئك هم الصادقون ﴾ والله ما هو لهؤلاء وحدهم ﴿ والذين تبوّءُو الدار والإِيمان ﴾ إلى قوله :﴿ المفلحون ﴾ والله ما هو لهؤلاء وحدهم ﴿ والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ﴾ إلى قوله :﴿ رحيم ﴾ والله ما أحد من المسلمين إلا له حق في هذا المال أعطي منه أو منع عنه حتى راع بعدن.
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وابن زنجويه في الأموال وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم.
وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في سننه عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال : قسم عمر ذات يوم قسماً من المال، فجعلوا يثنون عليه، فقال : ما أحمقكم لو كان لي ما أعطيتكم منه درهماً.
وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن أبي نجيح رضي الله عنه قال : المال ثلاثة : مغنم، أو فيء، أو صدقة. فليس منه درهم إلا بيّن الله موضعه.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« يوشك أن يملأ الله أيديكم من العجم ثم يجعلهم أسداً لا يفرون فيقتلون مقاتلتكم ويأكلون فيئكم ».
وأخرج ابن سعد عن السائب بن يزيد سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : والذي لا إله إلا هو ثلاثاً ما من الناس أحد إلا له حق في هذا المال أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد إلى عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله ﷺ، فالرجل وبلاؤه في الإِسلام، والرجل وقدمه في الإِسلام، والرجل وغناه في الإِسلام، والرجل وحاجته في الإِسلام، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه.
وأخرج ابن سعد عن الحسن رضي الله عنه قال : كتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه إنا قد فعلنا وبقي شيء كثير، فكتب إليه عمر : إن فيأهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا لآل عمر اقسمه بينهم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : وجدت المال قسم بين هذه الثلاثة الأصناف : المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن رضي الله عنه مثل ذلك.
قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾ الآية.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قال : كان يؤتيهم الغنائم وينهاهم عن الغلول.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه في قوله :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾ قال : من الفيء ﴿ وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قال : من الفيء
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي اله عنه ﴿ وما آتاكم الرسول ﴾ من طاعتي وأمري ﴿ فخذوه وما نهاكم عنه ﴾ من معصيتي فانتهوا.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ألم يقل الله ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قالوا : بلى، قال : ألم يقل الله :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ [ الأحزاب : ٣٦ ] الآية قال : فإني أشهد أن رسول الله ﷺ نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه سمع ابن عمر وابن عباس يشهدان على رسول الله ﷺ أنه نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن المنذر وابن مردويه عن علقمة رضي الله عنه قال : قال عبدالله بن مسعود : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت إليه فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ، وهو في كتاب الله. قالت : لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئاً من هذا قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قالت : بلى، قال : فإنه قد نهى عنه والله أعلم.
صفحة رقم 459