آيات من القرآن الكريم

وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ

اللغَة: ﴿الحشر﴾ الجمع، وسمي يوم القيامة يوم الحشر لأنه يوم اجتماع الناس للحساب والجزاء ومنه ﴿وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ﴾ [النمل: ١٧] أي جمع له الجنود ﴿قَذَفَ﴾ ألقى وأنزل بشدة ﴿الجلاء﴾

صفحة رقم 328

الخروج من الوطن مع الأهل والولد ﴿شَآقُّواْ﴾ عادوا وخالفوا ﴿لِّينَةٍ﴾ بكسر اللام النخلة القريبة من الأرض، الكريمة الطيبة، سميت لينة لجودة ثمرها وأنشد الأخفش:

قد شجاني الحمامُ حين تغنَّى بفراق الأحباب من فوقِ لينة
﴿أَوْجَفْتُمْ﴾ الوجيف: سرعة السير يقال: أوجف البعير إِذا حثَّه وحمله على السير السريع ﴿دُولَةً﴾ بضم الدال الشيء الذي يتداول من الأموال، وينتقل من يد إلى يد ﴿خَصَاصَةٌ﴾ فقر واحتياج ﴿غِلاًّ﴾ حِقداً وضغينة.
سَبَبُ النّزول: لما نقض اليهود «بنو النضير» العهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاصرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بقطع نخيلهم وإِحراقه إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا يا محمد: ألست تزعم أنك نبيٌ؟ وأنك تنهى عن الفساد؟ فما بالك تأمر بقطع الأشجار وتحريقها؟ فأنزل الله تعالى ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي نزَّه الله تعالى ومجَّده وقدَّسه جميع ما في السموات والأرض من ملك، وإِنسان، وجماد، وشجر كقوله تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإِسراء: ٤٤] قال ابن كثير: يخبر تعالى أن جميع ما في السموات والأرض يبسح له ويُمجده ويقدِّسه ويُوحِّده ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي وهو العزيز في ملكه، الحكيمُ في صنعه ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ﴾ بيانٌ لبعض أثار قدرته تعالى الباهرة وعزته الظاهرة أي هو جلَّ وعلا الذي أخرج يهود بني النضير من مساكنهم بالمدينة المنورة ﴿لأَوَّلِ الحشر﴾ أي في أول مرة حُشروا وأخرجوا فيها من جزيرة العرب، إِذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك قال البيضاوي: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة صالح «بني النضير» على ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوتُ في التوراة بالنصرة لا تُردُّ له راية، فلما هُزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا، وخرج «كعب بن الأشرف» في أربعين راكباً إِلى مكة وحالفوا «أبا سفيان» فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «محمد بن مسلمة» أخا كعبٍ من الرضاعة فقتله غيلةً، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر، فذلك قوله ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾ قال الألوسي: ومعنى ﴿لأَوَّلِ الحشر﴾ أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي اول ما حُشروا وأُخرجوا، ونبَّه بلفظ ﴿أول﴾ على أنهم لم يصبهم جلاءٌ قبله ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ﴾ أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرجوا من أوطانهم وديارهم بهذا الذل والهوان، لعزتهم ومنعتهم، وشدة بأسهم، حيث كانوا أصحاب حصون وعقار، ونخيلٍ وثمار ﴿وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله﴾ أي وظنوا أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه وانتقامه قال البيضاوي: والأصل أن يُقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم

صفحة رقم 329

من بأس الله، وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإٍسناد الجملة إِلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بكونها حصينة، بحيث ظنوا أنه لا يخرجهم منها أحد لأنهم في عزة ومنعة ﴿فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ﴾ أي فجاءهم بأسُ الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم، ولم يخطر ببالهم ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ أي وألقى في قلوب بني النظير الخوف الشديد، مما أضعف قوتهم، وسلبهم الأمن والطمأنينة، حتى نزلوا على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث
«نُصرت بالرعب من مسيرة شهر» ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين﴾ أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من الداخل، وأيدي المؤمنين من الخارج قال المفسرون: كانوا بنو النضير قبل إِجلائهم عن ديارهم يخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب من ظاهرها ليقتحموا حصونهم ﴿فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾ أي فاتعظوا بما جرى عليهم يا ذوي العقول والألباب ﴿وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء﴾ أي ولولا أن الله تعالى قضى عليهم بالخروج من أوطانهم مع الأهل والأولاد ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا﴾ أي لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإِخوانهم بني قريظة ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار﴾ أي ولهم مع عذاب الدنيا عذاب جهنم المؤبد ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ذلك الجلاء والعذاب بسبب أنهم خالفوا الله وعادوه وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقضٍ للعهود في حق رسوله ﴿وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي ومن يخالف أمر الله، ويعادِ دينه فاللهُ ينتقم منه لأن عذابه شديد، وعقابه أليم ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢].. ثم أخبر تعالى أن كل ما جرى من المؤمنين من قطع النخيل، وإِحراق بعض الأشجار المثمرة، فإنما كان بأمر الله وإِرادته فقال ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله﴾ أي ما قطعتم أيها المؤمنون من شجرة نخيل، أو تركتموها كما كانت قائمة على سوقها فبأمر الله وإِرادته ورضاه ﴿وَلِيُخْزِيَ الفاسقين﴾ أي وليغيظ اليهود ويذلهم، بقطع أشجارهم ونخيلهم قال الرازي: المعنى إِنما أذن تعالى في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم، بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزَّ أموالهم قال المفسرون: لما حصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نخيلهم، إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا: ما هذا الإِفساد يا محمد؟ إِنك كنت تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ أي وما أعاد الله وردَّه غنيمة على رسوله من أموال يهود بني النضير ﴿فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ﴾ أي لم تسيِّروا إِليه خيلكم ولا ركابكم، ولا تعبتم في تحصيله قال القرطبي: يقال: وجف البعير وجيفاً إِذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إِذا حمله على السير السريع، والركاب، ما يُركبُ من الإِبل، والمعنى: لم تقطعوا إِليها شُقةً، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإِنما كانت من المدينة على ميلين، فافتتحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلحاً، وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم، فجعلها الله

صفحة رقم 330

لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة يضعها حيث شاء ﴿ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ﴾ أي ولكنه تعالى من سنته أن ينصر رسله بقذف الرعب في قلوب أعدائه، من غير أن يقاسوا شدائد الحروب ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي هو تعالى قادر على كل شيءٍ، لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزه شيء.
. ثم بيَّن تعالى حكم الفيء عامةً وهو ما يغنمه المسلمون بدون حرب فقال ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى﴾ أي ما جعله الله غنيمةً لرسوله بدون قتال من أموال الكفار قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ أي فحكمها أنها لله تعالى بضعها حيث يشاء، ولرسوله يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين ﴿وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين﴾ أي ولأقرباء الرسول من بني هاشم وعبد المطلب، ولليتامى الذين مات آباؤهم، وللمساكين ذوي الحاجة والفقر ﴿وابن السبيل﴾ أي وللغريب المنقطع في سفره قال في التسهيل: لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإِن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإِيجاف الخيل والركاب، فتلك يؤخذ منها الخمس ويقسم الباقي على الغانمين، وأما هذه ففي «حكم الفيء» وهو ما يؤخذ من الكفار من غير قتال فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وقد قرر الفقهاء الفرق بين الغنيمة والفيء، وأنَّ حكمهما مختلف، فالغنيمة ما أُخذت بالقتال، والفيءُ ما أُخذ صلحاً، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ وذكر في الأنفال لفظ الغنيمة ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنفال: ٤١] ! ﴿ {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ﴾ أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال قال القرطبي: أي فعلنا ذلك كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إِذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرياعُ ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإِنهمه كانوا حنيئذٍ فقراء، ولم يُعط الأنصار منها شيئاً فإِنهم كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ أي ما أمركم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإِنه إِنما يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شرٍّ وفساد قال المفسرون: والآية وإِن نزلت في أموال الفيء، إِلا أنها عامة في كل ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو نهى عنه من واجبٍ، أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: «لعن اللهُ الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله» فبلغ ذل امرأةً من بني أسد يُقال لها «أم يعقوب» وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا} ﴿وذكرته له، فقال ابن مسعود: وما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في كتاب الله تعالى؟ فقالت المرأةُ: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته﴾ فقال: إن كنتِ قرأتيه

صفحة رقم 331

لقد وجدتيه، أما قرأتِ قول الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ ؟ ﴿واتقوا الله﴾ أي خافوا ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾ أي فإِن عقابه أليم وعذابه شديد، لمن عصاه وخالف ما أمره به ﴿إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ هذا متعلقٌ بما سبق من حكم الفيء كأنه يقول: الفيءُ والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إِلى الهجرة من أوطانهم، فتركوا الديار والأموال، ابتغاء مرضاة الله ورضوانه ﴿وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي قاصدين بالهجرة إِعلاء كلمة الله ونصرة دينه ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ أي هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إِيمانهم قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال، والأهلين والأوطان، حباً لله ورسوله، حتى إِن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليُقيم به صُلبه من الجوع.
. ثم مدح تعال الأنصار وبيَّن فضلهم وشرفهم فقال ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثيرٍ من المهاجرين وهم الأنصار قال القرطبي: أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإِيمان وأخلصوه، والتبوء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ أي يحبون إِخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الخازن: وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ﴾ أي ولا يجد الأنصار حزازةً وغظياً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسم أماول بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إِلا ثلاثة منهم، فطبت أنفس الأنصار بتلك القسمة ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أي يفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة الفاقة إِليه، فإِيثارهم ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وفقر، وذلك غاية الإِيثار ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح، والشُحُّ هو البخل الشديد مع الجشع والطمع، وهو غريزة في النفس ولذلك أضيف إِليها، قال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إِنما الشحُّ أن تطمع عنيه فيما ليس له وفي الحديث
«واتقوا الشُحَّ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم علىأن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» ﴿والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين المستحقين للإِحسان والفضل، وهم التابعون لهم بإِحسان إلى يوم القيامة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا

صفحة رقم 332

بالإيمان} أي يدعون لهم قائلين: يا ربنا اغفر لنا ولإِخواننا المؤمنين الذين سبقونا بالإِيمان قال أبو السعود: وصفهم بالسبق بالإِيمان اعترافاً بفضلهم، لأن أخوة الدين عندهم أعزُّ وأشرف من النسب ﴿وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي ولا تجعل في قلوبنا بغضاً وحسداً لأحدٍ من المؤمنين ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغٌ في الرأفة والرحمة فاستجب دعاءنا، قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الغنيمة شيء لعدم اتصافه بأوصاف المؤمنين، وقال شيخ زادة: بيَّن تعالى أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين بالرحمة والدعاء، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء فقد كان خارجاً عن جملة أقسام المؤمنين بمقتضى هذه الآيات، وقد روي عن الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى فقالوا: أصحاب عيسى، وسئلت الرافضة من شرُّ أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إِلى يوم القيامة.. اللهم ارزقنا محبة أصاحب نبيك الكريم.

صفحة رقم 333
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية