
الخلق من بعدها سلائل ذريتها إلى يوم القيامة «وَخَلَقَ الْجَانَّ» أي أصله أيضا وهو إبليس عليه اللّعنة أبو الجان فما بعده أيضا، وجاء ذكره بمقابلة ذكر آدم عليه السّلام أبي البشر كما مر مثل هذا في الآيتين ٢٧ و ٢٨ من سورة الحجر في ج ٢ «مِنْ مارِجٍ» لهب صاف من الدّخان «مِنْ نارٍ» (١٥) وهو لهيبها الأحمر فالأخضر فالأصفر فالأزرق الصّافي من الدّخان الذي يكون بين جمرها بعد استوائه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (١٦) لا بشيء من نعمك ربنا نكذب بل نصدق بها ونثني عليك بالحمد والشّكر ما حيينا «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (١٧) لم تأت هاتان اللّفظتان في الكتب السّماوية كلها غير القرآن.
واعلم أنه قبل اكتشاف أمريكا لم يكن أحد يعلم أن الأرض مشرقين ومغربين، فاعتبروا أيها النّاس، واعلموا أن القرآن جمع فأوعى، وفيه علوم الأولين والآخرين منها ما كشف ومنها ما لم، فمشرق الصّيف غابة ارتفاع الشّمس وانحيازها لجهة الشّمال ومشرق الشّتاء نهاية انحطاطها وجنوحها لجهة القبلة أي الجنوب ويقابلها المغربان وانحيازهما على العكس من جنوح المشرقين نحو القبلة والشّمال، وهذا بالنسبة لما نرى نحن أهل القطر، ولكل قطر ما يراه أهله من هذا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ١٨ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» (١٩) الملح والعذب في مصب واحد كالأنهر الحلوة حينما تنصب في الأبحر، أي أنه تعالى أجراهما وأرسلهما في المرج حتى جعلهما يجتمعان «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (٢٠) بعضهما على بعض فيختلطان ويكونان كالشيء الواحد، فتنعدم من الحلو المنفعة. وقيل إن المراد بحر الرّوم وبحر الهند والحاجز بينهما نحن. وقيل بحر فارس والرّوم والبرزخ الذي بينهما هو الجزائر، وإنهما يلتقيان في المحيط إلّا أنهما خليجان يتشعبان فيكونان شيئا واحدا وقبله كانا متباينين
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» (٢٢) أي من كلّ منهما لا من المالح فقط كما هو ظاهر الآية، خلافا لما قاله بعض المفسرين باختصاص المالح فقط، لأن العذب يخرج منه الصّدف، وقد يوجد فيه اللّؤلؤ أيضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ» السفن الكبار الجاريات فيهما أيضا «الْمُنْشَآتُ» المحدثات بإحداث البشر وأصلها

سفينة نوح عليه السّلام والفضل للبادي، وهذه المراكب الفخمة وليدتها وفرع عنها حيث تدرج البشر في صنعها حتى بلغ منها الغاية القصوى مما يحمل بعضها ما لا يتصوره العقل من الأثقال، فصارت الواحدة منها كالجبال مصداقا لقوله تعالى فتراها «فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ» (٢٤) الجبال الشّامخات فكل ما بالغوا في عظم صنعها لا تبلغ قدر بعض الجبال، ويطلق لفظ الأعلام على الأشياخ، قال ابن الفارض:
نصبت في موكب العشاق أعلامي | وكان قبلي بلي بالعشق اعلامي |
قال تعالى وهو ابتداء كلام آخر، لأن الأوّل ختم بفناء الكون وبقاء الكون جل جلاله «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» سؤال استعطاء من إنس وجن وملك يطلبون رحماه بلسان المقال، وبقية خلقه من نبات وجماد بلسان الحال يرجون لطفه، ولا غنى لشيء ما عن عطفه، وقد أسهبنا البحث فيما يتعلق في هذا في الآية ١٤ من سورة الإسراء ج ١ فراجعها. وهو جل شأنه «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (٢٩) ولا يشغله شأن عن شأن، وهذه الآية فيها رد على اليهود القائلين إن الله تعالى لا يقضي بشيء يوم السّبت، وهو يقول عزّ قوله كل صفحة رقم 59