
تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِلْهَامِ النَّاسِ إِلَى اخْتِرَاعِ الشِّرَاعِ لِإِسْرَاعِ سَيْرِ السُّفُنِ وَهِيَ مِمَّا اخْتُرِعَ بَعْدَ صُنْعِ سَفِينَةِ نُوحٍ.
وَوُصِفَتِ الْجَوَارِي بِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ، أَيِ الْجِبَالِ وَصْفًا يُفِيدُ تَعْظِيمَ شَأْنِهَا فِي صُنْعِهَا الْمُقْتَضِي بَدَاعَةَ إِلْهَامِ عُقُولِ الْبَشَرِ لِصُنْعِهَا، وَالْمُقْتَضِي عِظَمَ الْمِنَّةِ بِهَا لِأَن السفن الْعَظِيمَة أَمْكَنُ لِحَمْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاس وَالْمَتَاع.
[٢٥]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٥]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥)
تَكْرِيرٌ لنظيره السَّابِق.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)
لَمَّا كَانَ قَوْله: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرَّحْمَن: ٢٤] مُؤْذِنًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْهَلَاكِ وَأَسْبَابِ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِ مَا بِهِ إِقَامَةَ الْعَيْشِ إِذْ يَسَرَّ لِلنَّاسِ السُّفُنَ عَوْنًا لِلنَّاسِ عَلَى الْأَسْفَارِ وَقَضَاءَ الْأَوْطَارِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ طُغْيَانِ مَاءِ الْبِحَارِ، وَكَانَ وَصْفُ السُّفُنِ بِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ تَوْسِعَةً فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ أَتْبَعُهُ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَنَّ هَذَا لَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْفَنَاءِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الْفُرَصِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ كَقَوْلِهِ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النِّسَاء: ٧٨]. وَفَائِدَةُ هَذَا أَنْ لَا يَنْسَوُا الْاِسْتِعْدَادَ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ بِفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُوا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ.
وَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَقِبَ مَا عَدَّدَ مِنَ النِّعَمِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَصِيرَ نِعَمِ الدُّنْيَا إِلَى الْفَنَاءِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَضَمِيرُ عَلَيْها مُرَادٌ بِهِ الْأَرْضَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص:
٣٢]، أَيِ الشَّمْسِ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكثير وَفِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ.

وَمَعْنَى فانٍ: أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْفَنَاءِ، فَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِزَمَانِ الْاِسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ مِثْلِ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠].
وَالْمُرَادُ بِ مَنْ عَلَيْها: النَّاس لأَنهم الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعِبَرِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَصِيرَ جَمِيعِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى الفناء، وَهَذَا تذكير بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ.
ووَجْهُ رَبِّكَ: ذَاتُهُ، فَذِكْرُ الْوَجْهِ هُنَا جَارٍ عَلَى عُرْفِ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَالذَّاتِ اه.
وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى لَفْظُ الْوَجْهِ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا مَا هُنَا وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١١٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٩].
وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي فِي الرَّأْسِ.
وَاصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْعَقَائِدِ عَلَى تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا بِالْمُتَشَابِهِ وَكَانَ السّلف يحجمون عَن الْخَوْض فِي ذَلِكَ مَعَ الْيَقِينِ بِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَنَاوَلَهُ عُلَمَاء التَّابِعين وَمن بعدهمْ بالتأويل تدريجا إِلَى أَنِ اتَّضَحَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ بِالْجَرْيِ عَلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْمَعَانِي فَزَالَ الْخَفَاءُ، واندفع الْجفَاء، وكلا الْفَرِيقَيْنِ خِيرَةُ الْحُنَفَاءِ.
وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: وَجْهُ رَبِّكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْمَقْصُودُ تَبْلِيغُهُ إِلَى الَّذِينَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لِيَذَّكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ.
وَلَمَّا كَانَ الْوَجْهُ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ وُصِفَ بِ ذُو الْجَلالِ، أَيِ الْعَظَمَةِ والْإِكْرامِ، أَيِ الْمُنْعِمِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْوَجْهَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَافُ لِلْإِكْرَامِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ لِلْإِكْرَامِ الْيَدُ، أَيْ فَهُوَ لَا يُفْقِدُ عَبِيدُهُ جَلَالَهُ