آيات من القرآن الكريم

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
ﯠﯡﯢﯣﯤﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵ

أخرى بعد هذه. مثل سورة الحاقة التي جاء فيها: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وسورة الأحقاف التي جاء فيها:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) والمتبادر أن هذا مما كان متداولا من قصص عاد ونبيهم في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما نبهنا عليه في التعريف الأول. ويقال هذا في صدد ثمود الذين تكررت قصتهم بعد هذه السورة ويقال هذا كذلك في صدد قصة لوط وقومه التي وردت في الإصحاحين الثامن عشر والتاسع عشر من سفر التكوين بما يقارب ما جاء في القرآن على ما نبهنا عليه في التعريف الأول أيضا.
ونؤجل التوسّع في التعليق على قصة رسالة موسى إلى فرعون إلى سور أخرى جاءت هذه القصة فيها مسهبة.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٥]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
. (١) الزبر: جمع زبور وهو الكتاب والزبر الأولى في الآيات تعني كتب الله والثانية تعني علم الله وما يسجل على الناس من أعمالهم على ما تلهمه روح الآيات.

صفحة رقم 285

(٢) نحن جميع: بمعنى نحن جمع عظيم والقصد من الجملة الاعتداد بالكثرة.
(٣) خلقناه بقدر: خلقناه بتدبير وحساب.
(٤) وما أمرنا إلا واحدة: كل ما نريده يحدث في لمح البصر حالما نأمر بذلك كلمح البصر.
(٥) أشياعكم: أمثالكم.
(٦) مستطر: مسطور ومسجّل.
(٧) في مقعد صدق عند مليك مقتدر: كناية عن تكريم الله الذي يناله المتقون.
في الآيات التفات تعقيبي على الفصول القصصية وعود على بدء في إنذار الكفار وتقريعهم. فهي والحال هذه متصلة بالسياق واستمرار له. وهي قوية في إنذارها وتقريعها وأسئلتها الاستنكارية الساخرة وإفحامها. والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته زجر الكفار وحملهم على الارعواء.
والأسئلة الاستنكارية في الآية [٤٣] قوية مفحمة حقا. فهل يظن الكفار أنفسهم خيرا أو أقوى من السابقين الذين يعرفون أن الله قد نكّل بهم، أم هل حصلوا من الكتب المنزلة على براءة تقيهم ذلك النكال حتى يكونوا مطمئنين هذا الاطمئنان مستمرين في ضلالهم وغوايتهم.
وفي الآية [٤٤] إشارة إلى اعتداد الكفار بقوتهم وكثرتهم. وقد ساجلتهم الآية [٤٥] بالتعبير فأنذرتهم بهزيمة جموعهم وتوليتها الأدبار. ثم آذنتهم الآيات التالية بأن أمر الله واقع كلمح البصر حالما تقترن مشيئته بشيء. وذكّرتهم بما كان من إهلاله لأمثالهم وأعلنتهم بأن كل شيء فعلوه محصى مسطور عليهم وتوعدتهم بيوم القيامة كموعد أدهى وأمرّ من غيره حيث يسحبون على وجوههم في النار ويتيقنون من أنهم كانوا في ضلال وجنون ثم انتهت جريا على النظم القرآني إلى تطمين المتقين بالمقابلة بما أعدّه الله لهم عنده من جنات ورضوان.

صفحة رقم 286

ويلحظ أن نعت الكفار بالمجرمين قد تكرر في الآيات ومن المحتمل أنه قصد بذلك الزعماء خاصة الذين لم يكتفوا بالكفر والتكذيب بل ارتكبوا إلى جانبهما جريمة اضطهاد المسلمين وفتنتهم مع جريمة الصدّ والتآمر والتعطيل.
وفي الآية [٤٥] بشارة ربانية حققها الله لنبيه والمؤمنين في بدر وما بعد بدر فكانت معجزة قرآنية. ولقد روى البخاري عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو في قبّة يوم بدر اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك. اللهمّ إن تشأ ألا تعبد بعد اليوم.
فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله ألححت على ربّك وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ
«١»
.
تعليق على الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ والآثار الواردة في موضوع القدر
ويظهر مما أورده المفسرون في سياق جملة إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أن الجملة قد أخذت على معنى قدر الله السابق لخلقه وتقديره الأحداث من الأزل.
وقد أوردوا في سياقها حديثا عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمونه في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «٢» ومقتضى الحديث أن تكون الآيات نزلت لحدة في هذه المناسبة مع أنها منسجمة نظما ووزنا وموضوعا في السياق العام. وأبو هريرة لم

(١) التاج ج ٤ ص ٢٢٣. وقد أورد ابن هشام عن ابن إسحق صيغة أخرى لمناجاة رسول الله وهي: «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد». ج ٢ ص ٢٦٧. وفي الصيغة التي أوردها المفسران ابن كثير والبغوي تعبير: «إن شئت» بدلا من «إن تشأ».
(٢) معظم المفسرين تطرقوا إلى هذا الموضوع في سياق تفسير الآية. وهذا الحديث أورده الطبري والبغوي وابن كثير. وقد ورد في التاج من مرويات مسلم والترمذي أيضا، التاج ج ١ ص ٣٢.

صفحة رقم 287

يذكر أنه سمع هذا من النبي أو أحد أصحابه من السابقين الأولين من المهاجرين من مكة. وهو ليس منهم وإنما أسلم بعد النصف الأول من العهد المدني. وفي القرآن مقاطع كثيرة ورد فيها كلمة (القدر والتقدير وقدرنا) ولكن لم نطلع على حديث نبوي أو صحابي يذكر أنها تعني القدر الذي هو موضوع البحث. على أن هناك أحاديث عديدة أخرى في موضوع القدر. منها ما أورده المفسرون في سياق هذه الآية ومنها ما أورده في سياق آيات أخرى من بابها. ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما ورد في كتب وروايات محدثين آخرين.
فمن ذلك الحديث الطويل الذي أوردناه في بحث الملائكة في سورة المدثر والذي رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب والذي فيه المحاورة التي جرت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عن الإسلام والإيمان ومن جملتها كون الإيمان بالقدر خيره وشرّه من أسس الإيمان «١». وحديث رواه الشيخان عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله عزّ وجلّ قد وكلّ بالرحم ملكا فيقول أي ربّ نطفة. أي ربّ علقة.
أي ربّ مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي ربّ ذكر أو أنثى. شقيّ أو سعيد. فما الرزق. فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه»
«٢». وحديث رواه الأربعة عن علي قال: «كان رسول الله جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم منزلها من الجنة والنار. قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل. قال: اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [الليل: ٥- ٧] الآيتين» «٣».
وحديث رواه الترمذي ومسلم جاء فيه: «قيل يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأننا خلقنا الآن. ففيم العمل اليوم أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل. قال: لا بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل

(١) التاج ج ٥ ص ١٧٣- ١٧٤.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.

صفحة رقم 288

قال كلّ عامل ميسّر لعمله» «١». وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه فقال فيما قد فرغ منه.
يا ابن الخطاب كلّ ميسّر أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة. وأمّا من كان من أهل الشّقاء فإنه يعمل للشقاء»
«٢». وحديث رواه مسلم والترمذي عن عمران بن حصين قال: «إنّ رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه. أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون به؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «٣»
[الشمس: ٧- ٨]. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عزّ وجلّ خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جفّ القلم عن علم الله تعالى» «٤».
وحديث رواه الترمذي عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّه وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» «٥». وحديث رواه الترمذي والحاكم عن عائشة قالت: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ستة لعنتهم لعنهم الله وكلّ نبيّ كان. الزائد في كتاب الله والمكذّب بقدر الله والمتسلّط بالجبروت ليعزّ بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعزّ الله والمستحلّ لحرم الله.
والمستحلّ من عترتي ما حرّم الله والتارك لسنّتي»
«٦».
وحديث رواه مسلم عن عبد الله أنه قال: «الشقيّ من شقي في بطن أمه

(١) التاج ج ٥ ص ١٧٣- ١٧٤.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.
(٥) انظر المصدر نفسه ج ٥ ص ١٧٢- ١٧٣.
(٦) انظر المصدر نفسه. [.....]
الجز الثاني من التفسير الحديث ١٩

صفحة رقم 289

والسعيد من وعظ بغيره فسمعه رجل فأتى حذيفة فأخبره بذلك وقال: كيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له حذيفة: أتعجب من ذلك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا ربّ أذكر أم أنثى فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا ربّ أجله. فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا ربّ رزقه فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص» «١».
وحديث عن ابن زراره عن أبيه قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية وقال نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذّبون بقدر الله» «٢». وحديث رواه الإمام أحمد مؤيد لهذا الحديث جاء فيه: إن عبد الله بن عمر كتب لصديق له من أهل الشام: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر فإياك أن تكتب إليّ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سيكون في أمّتي أقوام يكذّبون بالقدر» «٣». وحديث عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضرّوك. جفّت الأقلام وطويت الصحف» «٤». وحديث رواه الإمام أحمد جاء فيه: «إن عبادة دخل على أبيه وهو مريض فقال له: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال أجلسوني فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حقّ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشرّه. قلت يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشرّه؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني إن متّ ولست

(١) التاج ج ٥ ص ١٧٢- ١٧٣.
(٢) النصوص من ابن كثير والآية المقصودة هي آيات السورة التي نحن في صددها.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.

صفحة رقم 290

على ذلك دخلت النار» «١». وحديث رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله بعثني بالحق. ويؤمن بالموت. ويؤمن بالبعث بعد الموت. ويؤمن بالقدر» «٢».
وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: «لكلّ أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم» «٣». وحديث رواه الإمام أحمد عن طاووس اليماني قال سمعت ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس» «٤».
وحديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قال:
كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»
«٥».
وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن عمران بن حصين قال:
«قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كلّ ميسّر لما خلق له» «٦». وحديث وصفه ابن كثير بالصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدّر الله وما شاء فعل ولا تقل لو إني فعلت لكان كذا فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» «٧». وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن عبد الله قال: «حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق فقال إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع

(١) هذا النص من ابن كثير وقد روى أبو داود والترمذي هذا الحديث بصيغة أخرى ليس بينها وبين نص ابن كثير فرق جوهري.
(٢) التاج ج ١ ص ٣٣، وقد روى ابن كثير هذا الحديث عن سفيان الثوري عن علي بزيادة في آخره وهي: «يؤمن بالقدر خيره وشره»
.
(٣) النصّ من ابن كثير وقد روى مثله أبو داود بصيغة قريبة، التاج ج ١ ص ٣٣.
(٤) النص من ابن كثير.
(٥) التاج ج ١ ص ٣٢.
(٦) انظر المصدر نفسه.
(٧) النص من تفسير ابن كثير لسورة القمر.

صفحة رقم 291

كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد. فو الله الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» «١». وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صنفان من أمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» «٢». وحديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه: «قيل لابن عمر إنه ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفّرون العلم.
وأنهم يزعمون أن لا قدر وأنّ الأمر أنف فقال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر»
«٣».
وحديث رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم اكتب. قال ما أكتب؟ قال كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة» «٤». وحديث رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له اكتب. قال:
وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة»
«٥».
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما فقئ في وجنتيه الرّمان، فقال:
أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا

(١) التاج ج ١ ص ٣١- ٣٤.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه وكلمة (أنف) تعني أن أعمال الناس حادثة وليست مقدرة أزليا.. [.....]
(٤) من ابن كثير في تفسير سورة القلم.
(٥) انظر المصدر نفسه.

صفحة رقم 292

الأمر. عزمت عليكم، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه» «١».
والذي يتبادر لنا من ناحية الآية بذاتها ومن روحها وروح السياق أنها في صدد الإيذان بأن الله قد خلق كل شيء بحساب مقدّر بما اقتضت حكمته أن يكون عليه أو خلق كل شيء على قدر معلوم ووضع محدد أو على الشكل الموافق له.
وفي سورة السجدة آية فيها تعبير قوي عن ذلك وهي: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ... [٧] وقد قال هذا غير واحد من المفسرين عزوا إلى ابن عباس وغيره من علماء الصحابة والتابعين «٢».
ومن ناحية موضوع القدر بمعنى أن كل شيء وعمل من أحداث الدنيا وأعمال الناس مقدرة في الأزل محتومة الوقوع فهو من المسائل الخلافية الكلامية التي نشبت بين علماء المسلمين في صدر الإسلام وتشعبت في زمن الدولتين الأموية والعباسية وقام فرق عديدة يناقض بعضها بعضا في الأمر. وأكثر ما كان من ذلك هو في صدد أفعال الناس ومكتسباتهم حيث أنكر بعضهم أن تكون محتومة مقدرة من الأزل وأثبت بعضهم ذلك وتوسط بعضهم فجعل للإرادة الجزئية التي أودعها الله في الناس أثرا في أفعال الناس ومكتسباتهم. واجتهد كل فريق في تأييد قوله بآيات وأحاديث ومبادئ من المنطق مما لا يحتمل منهج الكتاب التبسّط فيه.
ونحن نرجّح أنه كان لما وقع في صدر الإسلام من الفتن والحروب التي بدأت في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه وامتدّت إلى خلافة علي رضي الله عنه ثم استمرت طيلة الدولة الأموية وشطرا من الدولة العباسية أثر كبير في ذلك. ولقد كان هناك تياران متعارضان تيار يحمل مسؤولية ما كان على القائمين بالأمر ويسعى إلى التغيير على اعتبار أن ذلك من كسبهم. وتيار يعطف ما كان على قدر الله المحتوم ويسعى إلى التهدئة. وكان من التيار الأول الهاشميون وشيعتهم والخوارج والمعتزلة ومن التيار الثاني الأمويون وأنصارهم وكثير من علماء التابعين وأهل السنّة.

(١) التاج ج ٤ ص ٢٢٣.
(٢) انظر الخازن والطبرسي والزمخشري والطبري.

صفحة رقم 293

والموضوع في ذاته من ناحية أخرى من المعضلات والمواضيع التي كانت وما تزال قدرا مشتركا بين مختلف النحل والملل والأدوار والأفكار حيث ينقسم الناس فيه بين الاعتقاد بالجبر أو الاختيار بالنسبة لأعمال الناس ومكتسباتهم وبين المسبّبات الحادثة والتقدير المحتوم بالنسبة لأحداث الكون المتنوعة.
والإيمان بالله وشمول علمه وقدرته وإحاطته وحكمته ومشيئته وأبديته وأزليته يقتضي بدون ريب الإيمان بأنه لا يصحّ أن يقع شيء في الدنيا من أحداث الكون وأعمال الخلق إلّا بإرادة الله وتقديره. وفي القرآن آيات كثيرة تؤيد ذلك كما أن هذا من مقتضى الأحاديث العديدة التي أوردناها والتي كثير منها بأسناد قوية صحيحة.
ومع ذلك ففي القرآن أيضا شواهد لا تحصى على أن الله عزّ وجلّ أودع في الكون نواميس تجري أحداثه وفقها وأودع في الناس قابليات العمل والكسب والتمييز والاختيار فيعملون أعمالهم السلبية والإيجابية بها. وأمرهم باستعمال هذه القابليات ونسب أعمالهم إليهم. ورتّب ثوابهم وعقابهم على اختيارهم وكسبهم.
وربط بين ذلك كله وبين حكمة إرسال الرسل. وبيان معالم الهدى والحق من الضلال والباطل في شؤون الدين والدنيا وحثّهم على اتباع الحق والهدى وفعل الخير وحذّرهم من اتباع الباطل والآثام وآذنهم أن ذلك في إمكانهم ومن قابلياتهم التي أودعها الله فيهم بل وربط بين ذلك والحياة الأخروية ربطا وثيقا كما أن فيه آيات كثيرة جدا تنسب أعمال الناس على اختلافها إليهم وإلى مشيئتهم أيضا. وفي القرآن والأحاديث ضوابط يزول بها ما يمكن أن يبدو من تناقض بين ذلك ويكشف عن الحكمة المتوخاة مما مرّ وسيأتي أمثلة كثيرة منها بل ويكاد يكون في كل الآيات وسياقها التي تذكر هداية الله وإضلاله للناس وتقدير ذلك عليهم ما يمكن أن يزيل كون ذلك تقديرا جزافا حتميا وبدون سبب وعمل منهم مما مرّ وسيأتي أمثلة كثيرة منه.
ويبدو أن مذهب الاختيار والمسببات أكثر إلزاما لأن المتسق بخاصة مع الحقيقة الكبرى في حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس إلى الله وإلى الأعمال

صفحة رقم 294

الصالحة وتحذيرهم من الانحراف عنه ومن الأعمال السيئة وترتيب مصائرهم وفقا لمواقفهم من ذلك. ويستتبع هذا أن يقال إن الله حينما أرسل إليهم الرسل وكلفهم وبشّرهم وأنذرهم يعلم ما أودعه فيهم من قابليات التمييز والاختيار والاستجابة وأنه جعلهم مسؤولين عن مواقفهم بناء على ذلك، ويكون فرض غير هذا والقول إن الله قد كلفهم ودعاهم وبشرهم وأنذرهم في حين قدّر عليهم مواقفهم وأعمالهم من الأزل تقديرا حتميا لا قدرة لهم على مخالفته بدون سبب منهم يكون عبثا ومتناقضا مع حكمته السامية المذكورة يتنزه الله عن ذلك. وكل هذا يجعلنا نميل إلى القول إن القصد من الأحاديث التي وردت في القدر والآيات التي تتساوق معها هو بسبيل تقرير علم الله السابق لأفعال عباده ومصائرهم بالدرجة الأولى. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يفيد أن هذا هو المقصود. ومن الممكن أن يقال مع ذلك إن الناس يباشرون أعمالهم ويكتسبونها خيرا كانت أم شرا وصالحة أم سيئة بمشيئتهم التي شاء الله أن يودعها فيهم فيزول بذلك وهم كون ذلك بمشيئتهم دون مشيئة الله والله تعالى أعلم.
على أن المحقق في الأمر يجد أن المسألة في جملتها تظلّ في نطاق الفكرة الجدلية من حيث إن الناس منذ وجودهم في الدنيا ومنذ أن يعوا كانوا وظلوا منغمرين في أسباب الحياة على مختلف أشكالها وأبعادها دائبين على العمل بدون انقطاع متحملين لمختلف النتائج وقلّما يتوقفون ليتساءلوا عما إذا كانوا مسيرين أو مخيرين ولا يمنعهم هذا لو وقع عن الاستمرار والانغمار في العمل والحياة. ولا يصح أن يشكّ أحد في أن هذا هو مظهر من مظاهر إرادة الله وتقديره وتيسيره وحكمته السامية. ولقد أمر القرآن في آيات عديدة الإنسان بالعمل الذي سوف يراه الله ويجازيه عليه وقرر أن الله خلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها وخلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا وجعل الأرض ذلو لا ليمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه فيها وأنه جعلهم فيها خلائف ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم فيما آتاهم وأنه لو شاء لجعلهم أمة واحدة ولكن ليبلوهم فيما آتاهم وعليهم أن يتسابقوا إلى الخيرات مما هو منبثّ في كثير من السور ولا يحتاج إلى

صفحة رقم 295

تمثيل حيث يبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تنبّه الإنسان إلى أنه وقد وجد في الحياة مكلف بالاندماج فيها دون تساؤل لا طائل وراءه ومكلف بعمل أحسن العمل في حياته أي كل ما فيه الخير والبرّ والعدل والإحسان والحق وإلى أنه بذلك فقط يكون قد حقق حكمة الله في خلقه ووجوده وأدرك هذه الحكمة.
ولقد احتوت بعض الأحاديث النبوية التي أوردناها حلو لا ومعالجات حكيمة لهذه المسألة يحسن الوقوف عندها كذلك. فمع تقريرها لتلك الحكمة المتصلة بذات الله وأزليته وأبديته وشمول علمه وقدرته ومشيئته نهت عن النقاش والجدل فيها وأمرت الناس بالعمل دون القول. إن الأمور مقدّرة سابقة ونهت عن (اللو) التي تفتح الطريق لوساوس الشيطان. ولقد مرّ في السور السابقة تلقينات مماثلة وسيأتي كثير من مثل ذلك في السور الآتية إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
وبعض الأغيار يأخذون على الإسلام عقيدة القدر. ويزعمون أن المسلمين مستسلمون لها وأنها لذلك من المثبطات للنشاط والمسببات للخمول والتواكل.
ومع أن المسألة ليست إسلامية وحسب وإنما هي عالمية وجدت وما تزال في مختلف النحل والملل والأفكار والأدوار كما قلنا ومع أن الذين يستسلمون لها من المسلمين جزافا وإطلاقا لا يفعلون ذلك عن فهم لمدى التلقين القرآني والنبوي فيها وإنما يفعلون ذلك عن جهل. ومع أنها ليست مطلقة في الإسلام وأن قابلية الإنسان وقدرته على الكسب والتمييز والاختيار وحثّه على كل ما فيه الخير والصلاح وإيذانه بقابليته وتحميله مسؤوليته من المبادئ المحكمة المكررة في القرآن والحديث فإن مأخذهم ذلك على المسلمين في أي مدى كان هو في غير محلّه بل عكسه هو الأصح من حيث إنها تدفع المسلم إلى الإقدام والتضحية على اعتبار أنه لن يصيبه إلّا ما كتب له وإن ما لم يكن مكتوبا عليه لن يصيبه في حال وإن هو مكتوب عليه سيصيبه على أي حال. وإن ما هو مقدّر عليه مغيّب. ليس من شأنه أن يمنعه من الاستجابة للأوامر والتلقينات القرآنية والنبوية في العمل والكسب والضرب في الأرض وبذل كل جهد في الانتفاع بقوى الكون ونواميسه وطلب العلم على مختلف مستوياته واتخاذ الأسباب للتمكن في الأرض ونشر دين الله

صفحة رقم 296

والتسابق في الخيرات والجهاد في سبيل الله وتقواه والاستمتاع بطيبات الرزق والزينة التي أخرج الله لعباده إلخ... فإن أصاب خيرا ونجاحا فيكون قد حصل المقصود وإن لم يكن فلا يكون قد خسر شيئا لأن ذلك هو المقدّر أي أنه حتى لو اعتقد كون كل ما يقع منه أو عليه مقدرا فإن هذا يجعله لا يتوانى عن العمل لأن هذا العمل هو قدر أيضا ولعل آيات سورة الحديد هذه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) قد هدفت إلى مثل هذه المعالجة في حالة إخفاق المسلم في ما يباشره من عمل أو التعرّض للمؤذي من الأحداث. وهكذا يصحّ أن يقال إن التلقينات القرآنية والنبوية قد عالجت هذه المعضلة على مختلف صورها معالجة لا يماثلها بل لا يدانيها أية معالجة أخرى من بابها. ولسوف ننّبه في ما يأتي على الشواهد الكثيرة المؤيدة لذلك. والله تعالى أعلم.

صفحة رقم 297
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية