آيات من القرآن الكريم

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ

فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار، أو كل ما أملكه صدقة أو نحو ذلك. والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة- وعليه يدل الكتاب والسنة- أنه يجزئه كفارة يمين فى جميع ذلك كما قال تعالى: «ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ» وقال: «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» وثبت فى الصحيح أن النبي ﷺ قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
٤- الأيمان مبنية على العرف والنية لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع، فمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث وإن سماه الله لحما طريا إلا إن نواه أو كان يدخل في عموم اللحم فى عرف قومه، كما أن من يحلّف غيره يمينا على شىء فالعبرة بنية المحلّف لا الحالف، فقد روى مسلم وابن ماجه «اليمين على نية المستحلف».
واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الخيانة والغش لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة قال تعالى:
«وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»
وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» رواه البخاري ومسلم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)

صفحة رقم 19

تفسير المفردات
الخمر: كل شراب مسكر، والميسر: لغة القمار بالقداح فى كل شىء ثم استعمل فى كل مقامرة، والأنصاب: حجارة كانوا يذبحون قرا بينهم عندها، وروى أنهم كانوا يعبدونها ويتقربون إليها، والأزلام: قداح أي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها فى الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم، والرجس: المستقذر حسا أو معنى، يقال رجل رجس ورجال أرجاس، والرجس على أوجه: إما من جهة الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع كالخمر والميسر، وإما من كل ذلك كالميتة لأنها تعاف طبعا وعقلا وشرعا، والعداوة: تجاوز الحق إلى الإيذاء، وطعم الشيء يطعمه: ذاق طعمه، ثم استعمل فى ذوق طعم الشيء من طعام وشراب، ومن الأول «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» أي أكلّم، ومن الثاني «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» أي من لم يذق طعم مائه.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم
وقد روى ابن جرير وابن مردويه

صفحة رقم 20

فى سبب نزول الآيات أن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: «فىّ نزل تحريم الخمر- صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها، فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار خير. وقالت قريش: قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور (فك رأس جزور) فضرب على أنفى ففزره. قال فأتيت النبي ﷺ فذكرت له ذلك فنزلت».
وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال:
إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول:
صنع بي هذا أخى فلان والله لو كان رءوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فأنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال ناس من المتكلفين: هى رجس وهى فى بطن فلان قتل يوم بدر، وفى بطن فلان قتل يوم أحد، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.
وفى مسند أحمد ومسند أبى داود والترمذي «أن عمر كان يدعو الله تعالى: اللهم بيّن لنا فى الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي ﷺ فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دعى فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: انتهينا انتهينا».
والحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت فى أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولا فى سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها فى سورة النساء بما يقتضى تحريمها فى الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى عن القرب من الصلاة فى حال السكر فلم يبق لمن يصرّ

صفحة رقم 21

على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوى فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت فى البقرة «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» شربها قوم لقوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وتركها قوم لقوله (إِثْمٌ كَبِيرٌ) منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية التي فى النساء «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» فتركها قوم وشربها قوم، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي فى المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية قال عمر: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعد لك وسحقا. فتركها الناس ووقع فى صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شىء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن فى نفسى شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر، فيقول نعم، فيقول إن فى نفسى مثل ما فى نفسك حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا: كيف نتكلم ورسول الله ﷺ شاهد (حاضر) وخافوا أن ينزل فيهم (أي قرآن) فأتوا رسول الله ﷺ وقد أعدّوا له حجة فقالوا: أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن حجش أليسوا فى الجنة؟ قال بلى، قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر؟ فحرم علينا شىء دخلوا الجنة وهم يشربونه؟ فقال:
(قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم) فأنزل الله: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟) فقالوا انتهينا. ونزل فى الذين ذكروا حمزة وأصحابه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.

صفحة رقم 22

الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها- إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم.
(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه وكونوا فى جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتوادّ فيما بينكم.
وبعد أن أمر الله باجتناب الخمر والميسر ذكر أن فيهما مفسدتين إحداهما دنيوية وثانيتهما دينية وقد أشار إليهما بقوله:
(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) أي إن الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادى بعضكم بعضا ويبغّض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي فرضها عليكم، تزكية لنفوسكم وتطهيرا لقلوبكم.
أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم، فلأن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس، كما يستولى عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، وكثيرا ما يجتمع الشّرب على مائدة الشراب فيثير السكر كثيرا من ألوان البغضاء بينهم، وقد ينشأ القتل والضرب والسلب والفسق والفجور وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وخيانة الحكومات والأوطان.

صفحة رقم 23

وأما الميسر فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وكثيرا ما يفرّط المقامر فى حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد.
والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين، فيه إجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا فى القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شىء من المال، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرا مسكينا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين.
وأما صد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة (وهما مفسدتهما الدينية) فذلك أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء (وهما مفسدتهما الاجتماعية) لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله الذي هو روح الدين، وعن الصلاة وهى عماد الدين، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته، ويثنى عليه بأسمائه وصفاته، أو يقيم الصلاة التي هى ذكر الله، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة لم تصح له، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة، فلا يتوجه همه إلى ذكر الله ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها.
وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه، بل يحدث الحريق فى دار المقامر أو تحل المصايب بالأهل والولد ويستغاث به فلا يغيث بل يمضى فى لعبه، والنوادر فى ذلك كثيرة.
إلى أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها فإنه لا يؤدى منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع، لكنه على كل حال يفضل السكران إذ أنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة.
واللعب بالشّطرنج أو بالنرد إذا كان على مال دخل فى الميسر وكان حراما، وإذا

صفحة رقم 24

لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه إلا إذا تحقق كونه رجسا من عمل الشيطان موقعا فى العداوة والبغضاء صادّا عن ذكر الله وعن الصلاة بأن كان من المكثرين اللعب أو ممن يداومون عليه، والشافعي كرهه لما فيه من إضاعة الوقت بلا فائدة.
ولما بين جل اسمه علة تحريم الميسر وحكمته أكد ذلك التحريم فقال:
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هذا أمر بالانتهاء جاء بأسلوب الاستفهام وكان ذلك غاية فى البلاغة، فكأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع كل هذا منتهون؟ أو أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا.
وقد أكد الله تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:
(١) أنه سماهما رجسا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم
قال ﷺ «الخمر أم الخبائث».
(٢) أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هى من أعمال الوثنية وخرافات الشرك، وقد روى ابن ماجه عن أبى هريرة قوله ﷺ «مدمن الخمر كعابد وثن» (٣) أنه جعلهما من عمل الشيطان، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن.
(٤) أنه جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح والفوز بالنجاة.
(٥، ٦) أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرا من المعاصي فى الأموال والأعراض والأنفس.
(٧، ٨) أنهما جعلا صادّين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي وأطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات كالأنصاب والأزلام ونحوهما، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».

صفحة رقم 25

(وَاحْذَرُوا) أي واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة فى الدنيا وعذاب فى الآخرة، فإنه سبحانه لم يحرّم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم فى دنياكم وآخرتكم كما قال: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن أعرضتم عن اتباع أمرهما فالحجة قد قامت عليكم، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ والإعذار والإنذار، وما بعد ذلك من عقاب للمخالف فأمره إلى الله كما قال عز اسمه «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ».
وفى هذا تهديد كثير ووعيد شديد لمن خالف أوامر الله وفعل نواهيه.
(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي ليس على الذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال من الأحياء والأموات إثم ومؤاخذة فيما أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمها وتحريم غيرهما مما لم يكن محرما ثم حرم، إذا ما اتقوا الله وآمنوا بما كان قد نزل من الأحكام، وعملوا الصالحات التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك عند العلم به.
وآمنوا بما نزل فيه وفى غيره، ثم استمروا على التقوى وأحسنوا صالح أعمالهم فأتوا بها على وجه الكمال وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات، والله يحب المحسنين فلا يبقى فى قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع فى العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
والخلاصة- إن من صحّ إيمانه وصلح عمله وعمل فى كل حين بنصوص الدين وما أداه إليه اجتهاده واستمر على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان، فلا يحول ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده- دون تزكية نفسه وتطهير قلبه.

صفحة رقم 26

روى أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت الآية.
تتمة- اختلف العلماء فى التداوى بالخمر والنجاسات والسموم، وأصح الآراء فى ذلك أنه يجوز لما فى الصحيحين أن النبي ﷺ أذن للعرنّيين بالتداوى بأبوال الإبل، بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرم من طعام وشراب بدليل قوله تعالى «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» كمن غصّ بلقمة فكاد يختنق فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر، وكمن أصابته نوبة ألم فى القلب كادت تقضى عليه وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف (باسم كونياك) فقد يرى الطبيب أنه يتعين فى بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة.
أما التداوى بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس فذلك منهى عنه
للحديث «إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وكان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي ﷺ عن الخمر وكان يصنعها فنهاه عنها فقال: إنما أصنعها للدواء فقال له النبي ﷺ ذلك.
وقوله: (ولكنه داء) هذا هو رأى الأطباء، إذ أن المادة المسكرة من الخمر سمّ تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها فى كل عام عدد لا يحصى من الناس.
والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوى يؤثر سمّها فى أعصابهم بكثرة التعاطي فتصير مطلوبة عندهم لذاتها فيضرهم سمها، فعلى المسلم الصادق الإيمان ألا يغتر برأى بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوى لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة.
وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب، على استبشاعهم لها واعتقادهم ضررها ومخالفتهم

صفحة رقم 27

أوامر دينهم، لكن الذي يسهل عليهم ذلك ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك فى الشراب، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر، فلا ينبغى تركه مع ما فيه من لذة النشوة والذهول عن همؤم الدنيا وآلامها.
إلى ما فى ذلك من مجاملة الإخوان، لكنهم مخدوعون إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف فى السكر حتى فسدت صحته ومروءته وضاعت ثروته، هل كنت حين بدأت تنوى الإسراف والإدمان؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل فى فترات متطاولة من الزمن، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوىّ ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلا.
وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهات فيقول إن الخمر المتخذة من العنب هى المحرمة لذاتها وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلا، لكنهم واهمون فيما فهموا، إذ
جاء فى الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».
وآخر تعلة لهم الغرور بكرم الله وعفوه، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة- ولا سيما ما يسمونه بالمكفّرات- أو على الشفاعات وهذا الجهل والغرور يصبح عقيدة فى نفوسهم بما يسمعونه من كلام فساق الشعراء المدمنين كأبى نواس كقوله:

وقوله:
تكثّر ما استطعت من المعاصي فإنك واجد ربا غفورا
ورجوت عفو الله معتمدا على خير الأنام محمد المبعوث
ولو صح أمثال هذا الهذيان لكان الدين لغوا وعبثا. ولكان المسلم يضرب بأوامر دينه عرض الحائط انتظارا لشفاعة ترجى أو عفو ربما أتيح له من فضل ربه، وكان التقى والفاجر سواء
وقد ثبت فى صحيح الأحاديث «أنه كان يؤتى بالشارب فى عهد النبي ﷺ فيضرب بالأيدى والجريد وبالثياب والنعال»
وفى حديث أنس: «أن النبي ﷺ أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين»

صفحة رقم 28
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية