
الخمر والميسر وخطرهما [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
المفردات:
الْخَمْرُ: كل شراب مسكر. الْمَيْسِرُ في أصل اللغة: القمار بالقداح في كل شيء، ثم غلب في كل مقامرة، وقد مضى الكلام عليه في آية البقرة ٢١٩.
الْأَنْصابُ: حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها. الْأَزْلامُ:
قطع رقيقة من الخشب كالسهم كانوا يستقسمون بها، وقد مر أول هذه السورة في آية (٣) تفصيلها. رِجْسٌ: مستقذر حسا ومعنى. طَعِمُوا طعم الشيء يطعمه:
ذاق طعمه عن طريق الأكل أو الشراب.
المناسبة:
بعد أن نهى الله- سبحانه وتعالى- عن تحريم الطيبات من الرزق، وأمر بأكل

الحلال الطيب بلا إسراف ولا تقتير، وكانوا يستطيبون الخمر والميسر ناسب أن يتعرض القرآن لبيان حقيقتهما.
روى أن عمر كان يدعو الله تعالى قائلا: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة ظل على دعائه، ولما نزلت آية النساء ظل كذلك على دعائه، فلما نزلت آية المائدة، وسمع قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: انتهينا! وكانت هذه الآية هي الفاصلة القاضية.
روى أن عمر قال حين سمع إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا!!! وتركها الناس وأراقوها في الطرقات.
وروى عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، وثملوا، واعتدى بعضهم على بعض، فلما صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه ولحيته، فيقول: صنع بي أخى فلان هذا، ولو كان رءوفا بي ورحيما ما صنع هذا!!! وقد وقعت بينهم ضغائن فأنزل الله هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فقال ناس: هي رجس وهي في بطن فلان كحمزة مثلا وقد قتل يوم أحد، وفي بطن فلان وقد قتل يوم بدر، فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية.
ولعلك تسأل ما الحكمة من تحريم الخمر تدريجياّ؟؟ وما علمت أنها الحكمة العالية والدواء الناجع لهذا الداء المتأصل، الذي أدمنت العرب على شربه، فلو حرمت الخمر دفعة واحدة لكان ذلك أدعى لتنفير الناس من الدين كله.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: اعلموا أن هذا الوصف يوجب عليكم الامتثال لأمر الله والتزام حدود الشرع، واعلموا أنما الخمر وهي: ما خامر العقل، أى: ستره فأسكره رجس من عمل الشيطان وصنعه، وهو عدوكم اللدود، الذي لا يعمل إلا للشر ولا يزيّن إلا للهلاك!!! ولقد خطب عمر بن الخطاب يوما على منبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد نزل تحريم

الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر:
ما خامر العقل»، وهذا أبين بيان في حقيقة الخمر، يخطب عمر بالمدينة على مرأى ومسمع من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم أهل اللسان والبيان، وأعلم الناس بلغة القرآن، فلا ينكر أحد عليه ولا يستفسر أحد عن نوع دون نوع!!! ولا تنس
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»
فإن كل مادة مغيبة للعقل مهلكة للصحة فهي خمر وإن تعددت الأسماء، وإذا ثبت هذا بطل رأى القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا.
والنبيذ قديما: عبارة عن تمر أو زبيب ينقع في ماء حتى يحلو الماء فيشرب، وهذا حلال حيث لم يختمر ولم يسكر، وأقرب الأشياء به ما يسمى بالخشاف في مصر، أما النبيذ المستعمل الآن فخمر وحرام ومسكر... وفي آية ٢١٩ من سورة البقرة بيان واضح متمم لما هنا.
إنما الخمر والميسر والأنصاب المنصوبة من حجارة حول الكعبة وكانوا يعظمونها والأزلام وكانوا يستقسمون بها إنما ذلك رجس وقذارة!! وأى رجس أكبر من هذا؟
فالخمر والميسر مستقذران حسا ومعنى، من ناحية الشرع والعقل، وهما من عمل الشيطان وصنعه، فاجتنبوا هذا الرجس واتركوه، واجعلوه في جانب وأنتم في جانب، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم إذ هما من أخطر الأمراض اجتماعيا ودينياّ واقتصادياّ.
أما الخطر الاجتماعى فالشيطان يريد لكم- بشرب الخمر ولعب الميسر- أن تقع بينكم العداوة والبغضاء فيقضى على جماعتكم، ويشتت شملكم ويهدم كيانكم، والإسلام حريص جدّا على أخوتكم واتحادكم وتضامنكم وإزالة أسباب الشقاق والنزاع فيما بينكم.
والشواهد على هذا كثيرة واضحة، ولا غرابة فالخمر تذهب العقل الواعي وتستره، وهو الذي يدرك قواعد العرف والدين التي تمنعنا عن الشر والوقوع فيه، فإذا ضاع واستتر، ظهر الإنسان بشهواته وطبيعته الحيوانية يأتى الدنية، ويقوم بأحط الأعمال وأقذرها!!

والميسر وما فيه من ربح وخسارة، بلا عمل وتجارة، مثار العداوة والبغضاء في نفوس اللاعبين.
أما ضياع الشخصية وفناء الشباب وهلاك الصحة، والانغماس في تيار الرذيلة فشيء لا ينكره عاقل، ولا يحتاج إلى نص.
وأما الناحية المالية فحدث عنها ولا حرج، فكم من بيوت هدمت وكم من أموال بددت، على الموائد الخضراء والحمراء في الليل والنهار؟؟
وأما الخطر الديني وما أدراك ما هو؟!! فهما يصدان عن ذكر الله، الذي يجلو القلوب ويزكيها، ويطهر النفوس ويهديها، وهما يمنعان من الصلاة التي هي عماد الدين إذ السكران لا عقل له ولا قلب فكيف يهتدى إلى الخير وإلى الصلاة؟؟ ولاعب الميسر يجلس الساعة والساعات بل يواصل ليله ونهاره ولا يدرى ما حوله ولا يشعر بنفسه، قد نسى بيته وأهله وولده، وإنه ليقضى الوقت بين الأوراق والنار تشتعل في بيته فلا يغيث أهله مع الناس فكيف يفكر في الصلاة؟ على أنه إذا صلّى بلا روح وبلا قلب.
فهل أنتم يا من اتصفتم بوصف الإيمان وتحليتم به منتهون بعد هذا البيان اللاذع والقول الفاضح؟! وهذا أمر بالانتهاء جاء على أسلوب بليغ جدّا يدركه من يقف على أسرار بلاغة القرآن.
وكيف لا يكون هذا شأن الخمر والميسر؟ وقد نفر الله منهما، وأكد تحريمهما بوجوه من التأكيد أهمها.
سماهما رجسا من عمل الشيطان (الخمر أم الخبائث) بل قصرهما على الرجس لا يتعديانه إلى غيره، وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وأنت تعرف أنهما من أعمال الشرك وخرافات الوثنية (مدمن الخمر كعابد الوثن).
وعلق الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة على اجتنابهما.
وجعلهما مثار العداوة والبغضاء، ومبعث الشقاق والشحناء.

وهما يصدان عن ذكر الله، والله يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد ٢٨].
وكان ختام الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ على ما فيه من البلاغة والبيان أتم صارف للمسلمين عنهما وصادّ.
وأطيعوا الله- تعالى- فيما أمركم به، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم، واحذروا عاقبة المخالفة وما تجر من الخيبة والندامة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور آية ٦٣].
فإن توليتم بعد هذا فلا تلومنّ إلا أنفسكم، واعلموا أنما على رسولنا البلاغ فقط، وعلينا الحساب والجزاء يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار ١٩].
ومن مات قبل التحريم فلا شيء عليه إذ هناك قانون عام وهو: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كحمزة الذي استشهد قبل تحريم الخمر وغيره، ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا ما اتقوا الله وعملوا الصالحات الباقيات التي شرعت في حياتهم كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرم عليهم، وآمنوا بما نزل فيه وفي غيره ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالحات، والله يحب المحسنين المتقنين أعمالهم المخلصين فيها.
التداوى بالخمر:
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«إنه ليس بدواء ولكنه داء» | «وما جعل الله شفاء أمتى فيما حرم عليها» |
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه داء»
أكده رأى الطب إذ إن الخمر تولد أمراضا كثيرة يموت بها كل عام عدد لا يحصى من الناس، وفكرة التداوى بالخمر حيلة شيطانية حتى تتمكن من النفس وتصبح عادة يصعب انتزاعها.
وحكم شارب الخمر الحد أربعين جلدة، وقيل ثمانين،
فقد روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد أربعين
، وفعل أبو بكر مثله، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن:
أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. والرأى أنه لا يقل عن أربعين ولا يزيد عن ثمانين.
ومثل الميسر كل لعب على مال، أما الشطرنج والنرد والألعاب الأخرى فإن أورثت العداوة وصدت عن ذكر الله وعن الصلاة فهي كالميسر، وإلا فإنها مكروهة مطلقا. صفحة رقم 561