
قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وإبراهيم (١).
٨٨ - قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، قال ابن عباس: يريد من طيبات الرزق، اللحم وغيره (٢)، وقال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غَذَّا ونمَّا (٣).
٨٩ - قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: إن القوم لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك، فلما نزل: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية (٤).
وقد مضى الكلام في معنى لغو اليمين وحكمه مستقصى في سورة البقرة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾، اختلف القراء في (عقدتم) فقرؤوا مخففًا، ومشددًا، وبالألف من عاقد (٦)، يقال: عقد فلان
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢٠، وعزاه المحقق للترمذي في كتاب التفسير من سورة المائدة ولم أجده.
(٣) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٠.
(٤) أخرجه الطبري عن ابن عباس ٧/ ١٣، "الوسيط" ٢/ ٢٢٠، البغوي ٣/ ٩٠، "زاد المسير" ٢/ ٤١٢.
(٥) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ (٢٢٥) سورة البقرة.
(٦) قال أبو علي: "... فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (بما عقَّدتُمْ) بغير ألف مشددة القاف، وكذا روى حفص عن عاصم. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (بما عَقَدتُمْ) بغير ألف خفيفة، وكذلك قرأ حمزة والكسائي".
وقرأ ابن عامر: (عاقدتم) بألف. "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥١.

اليمين والعهد والحبل عقدًا، إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضًا عقَّد بالتشديد إذا وكَّد، وعاقد بالألف (١)، قال الحطيئة:
وإن عاهدوا أوفوا وإن عاقدوا شدوا (٢)
وقال في عقد:
قومٌ إذا عَقَدوا عقدًا لجارِهُم (٣)
فقال في بيت: عاقدوا، وفي بيت: عقدوا، فمن قرأ بالتشديد احتمل أمرين: أحدهما أن يكون لتكثير الفعل، لأنه خاطب بهذا الجماعة، فصار كقوله تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ [يوسف: ٢٣]، والآخر أن يكون عَقَّد مثل عقد في أنه لا يراد به التكثير (٤)، وزيَّف أبو عبيد هذه القراءة فقال: التشديد للتكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن توجب هذه القراءة سقوط الكفارة في اليمين الواحدة، لأنها لم تكرر، ووهم فيما قال؛ لأن معنى تعقيد اليمين أن يعقدها في قلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدًا، ومتى ما جمع بين اللسان والقلب في قصد اليمين فقد عَقَّد اليمين، ومن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للكثير والقليل، يقال: عقدوا أيمانهم، وعقد زيد يمينه (٥).
(٢) "ديوانه" ص ١٤٠ وصدره:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنى
وهو في تهذيب اللغة ٣/ ٢٥١٢ (عقد).
(٣) صدر بيت للحطيئة في ديوانه ص ١٢٨، وعجزه:
شدوا العِنَاج وشدوا فوقه الكربا
وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥١٢ (عقد)، و"الحجة" ٣/ ٢٥٢.
(٤) "الحجة للقراءة السبعة" ٣/ ٢٥١.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٢.

قال أبو عبيد: على هذا وجدنا الآثار كلها، يقال: الأيمان ما عُقِدتَ عليه القلوب، وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل: عافاه الله، وطارقت النعل، وعاقبت اللص، فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف (١)، و (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، وليست الموصولة التي تقتضي راجعًا، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الإيمان (٢).
وأما التفسير قال عطاء: "هو أن يضمر الأمر، ثم يحلف بالله لا إله إلا هو، فيعقد عليه اليمين (٣).
وقال مجاهد: ما عقد عليه قلبك وتعمدته، يعني كفارة عقدكم (...) (٤) العقد (٥).
قال الكلبي: هو أن يحلف على اليمين، وهو يعلم أنه فيها كاذب (٦).
وقال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن اليمين يؤاخذ بها العبد، ويجب في بعضها الكفارة، وهو ما جرى على عقد (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾، أي: كفارة ما عقدتم يكون حنثًا، فلا
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٥٣، ٢٥٤.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) بياض في (ج) فقط بمقدار كلمة.
(٥) أخرجه بمعناه الطبري ٧/ ١٤، "الوسيط" ٢/ ٢٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٣.
(٦) لم أقف عليه، وفي هذا نظر لأن اليمين الكاذبة، وهي الغموس، لا تكفر.
انظر: بحر العلوم ١/ ٤٥٦ وما نقله عن وهب بن منبه، "الدر المنثور" ٢/ ٥٥١ وما رواه عن أبي مالك.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠١، ٢٠٢.

يحتاج إلى الإضمار، وقد يكون موقوفًا على الحنث والبر فيحتاج إلى إضمار إذا حنثتم، ويستغنى عنه أنه مدلول عليه.
وقوله تعالى: ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾، نصيب كل مسكين مُدّ، وهو ثلثا منٍّ (١)، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والقاسم والحسن (٢)، ومذهب الشافعي (٣)، وعند أبي حنيفة يطعم نصف صاع من حنطة، وصاعًا من غير الحنطة كالشعير والتمر والزبيب (٤)، وهو قول مجاهد، قال: كل إطعام في القرآن للمساكين فهو على نصف صاع (٥)، وإن كان المساكين ذكورًا وإناثًا جاز ذلك، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه مغلب في كلام العرب.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتًا فيه سعة، وقوتًا وسطًا، وقوتًا دون ذلك، فأمر بالوسط (٦)، وهذا يعود إلى ما ذكرنا من قدر المد؛ لأنه وسط في طعام الواحد، وليس بسرف ولا تقتير.
(٢) انظر: الطبري ٧/ ١٨ - ٢١، والبغوي ٣/ ٩١، وابن كثير ٢/ ١٠١.
(٣) "الأم" للشافعي ٧/ ٦٤، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٦١، والوسيط ٢/ ٢٢١، وابن كثير ٢/ ١٠٢.
(٤) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦١، والبغوي ٣/ ٩١، وابن كثير ٢/ ١٠٢.
(٥) لم أجده بهذا اللفظ أو قريب منه، والذي أخرج الطبري ٧/ ١٩ عن مجاهد بلفظ: مدان من طعام لكل مسكين. والمدان: نصف صاع، فهو بمعناه.
(٦) أخرجه الطبري بمعناه ٧/ ٢٢، وانظر: زاد المسير ٢/ ٤١٤.

ومثل هذا قال سعيد بن جبير: كان أهل المدينة يفرضون للصغير على قدره، وللكبير على قدره، وللوسط على قدره، فأمروا بأوسط ما يطعمون (١)، وهذا وسط في الشبع، لا يكون فوق الحاجة ولا دون المغني من الجوع، ويحتمل أن يريد بالأوسط ما هو أوسط في القيمة، لا يكون غاليًا كالسكر وما يغلو ثمنه من المطعومات، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة. والأوسط على هذا: الحنطة والتمر والزبيب والخبز، وهذا قول الأسود وعبيدة وشريح (٢)، ويحتمل أن يريد الأوسط في الجنس، وهذا كالأوسط في القيمة، قال ابن عباس في رواية عطاء: كل شيء في كتاب الله أوسط فهو أفضل (٣)، فعلى هذا يريد: من خير قوت عيالكم، فلو أنه يطعم عياله الحنطة ويقتاتها، لم يجز له أن يعطي الشعير.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾، الكسوة في اللغة معناها: اللباس، وهي كل ما يكتسي به (٤)، وأما الذي يجزئ في الكفارة، فهو أقل ما وقع عليه اسم الكسوة: إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة، ومقنعة، ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم (٥)، ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - (٦).
(٢) "تفسير البغوي" ٣/ ٩١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٤.
(٣) لم أقف عليه، وانظر: القرطبي ٦/ ٢٧٦.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٣٩ (كسو).
(٥) انظر: الطبري ٧/ ٢٣ - ٢٤، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٤.
(٦) "النكت والعيون" ٢/ ٦١، والبغوي ٣/ ٩١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٤.

وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، قيل: (رقبة) والمراد الجملة؛ لأنه مشبه بالأسير الذي يفك عن رقبته ويطلق (١)، والرقبة المحررة في الكفارة: كل رقبة سليمة من عيب وعاهة تمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرًا أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجزئ إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات (٢).
قال ابن عباس في رواية عطاء: (أو تحرير رقبة) يريد مؤمنة (٣).
وهو قول الحسن أيضًا ومذهب الشافعي (٤)، واحتج بأن الله تعالى قيد بالإيمان في كفارة القتل، وأطلق في غيرها، والمطلق يحمل على المقيد (٥).
قال أبو إسحاق: خُيِّر الحالف بين هذه الثلاثة، وأفضلها عند الله أكثرها نفْعًا وأحسنها موقعًا من المساكين أو من المعتق، فإن كان الناس في جدب لا يقدرون على المأكول إلا بما هو أشد تكلفًا من الكسوة والإعتاق فالإطعام أفضل؛ لأن به قوام الحياة، وإلا فالإعتاق والكسوة أفضل (٦).
وهذا إجماع من العلماء أن المكفر مخير بين هذه الثلاث (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾، قال الحسن: من كان عنده عشرة دراهم
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٢٨ - ٢٩، البغوي ٣/ ٩٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٣) أخرج الطبري ٧/ ٢٧ عن عطاء قال: يجزئ المولود في الإِسلام من رقبة.
(٤) "الأم" ٧/ ٦٥.
(٥) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٢.
(٧) حكى الإجماع هنا الطبري ١٠/ ٥٥٥.

فعليه أن يطعم في الكفارة (١).
وقال عطاء الخراساني: عشرون درهما (٢).
وقال قتادة: من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته فهو غير واجد، وجاز له الصيام (٣)، وهو مذهب الشافعي (٤)، وعليه دل كلام ابن عباس فيما روى عنه عطاء، لأنه قال: فمن لم يجد من هذه الثلاثة شيئًا (٥).
وقال الزجاج: من كان لا يقدر على شيء مما حد في الكفارة (٦).
قال الشافعي: إذا كان عنده قوته وقوت عياله، يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين، لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام (٧).
وعند أبي حنيفة: يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة (٨)، فجعل من لا زكاة عليه عادمًا (٩).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٢٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٤) "الأم" ٧/ ٦٦، الطبري ٧/ ٢٩، "النكت والعيون" ٢/ ٦٢، "الوسيط" ٢/ ٢٢١، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٥) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٠٢.
(٧) "الأم" ٧/ ٦٦، "الوسيط" ٢/ ٢٢١، ٢٢٢، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٨) "النكت والعيون" ٧/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٩) وهذا القول مخالف لظاهر الآية، وما عليه جمهور العلماء.

وقوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾، أي: فعليه، أو فكفارته ثلاثة أيام، قال ابن عباس والحسن: متتابعات (١)، وهو قول قتادة وأبي بن كعب والثوري، ومذهب أبي حنيفة (٢)، وقال مجاهد: يخير فيهن (٣).
وقال عطاء وإبراهيم: ما لم يذكر في كتاب الله متتابعًا فصمه كيف شئت (٤)، وهو مذهب مالك (٥)، وللشافعي فيه قولان (٦):
أحدهما: أن التتابع يجب قياسًا على الصيام في كفارة الظهار، ولأن في قراءة عبد الله وأُبي: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (٧).
والثاني: أنه مخير، إن شاء فرق، وإن شاء تابع (٨).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾، يعني: أيمانكم الكاذبة، التي حنثتم بها، فحذف النعت لأنه مدلول عليه، وإن شئت قلت: ذلك كفارة
(٢) "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، والبغوي ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٥، وزاد ابن الجوزي: وهو قول أصحابنا -يعني الحنابلة-.
(٣) هكذا نسب المؤلف لمجاهد رحمه الله القول بالتخيير وكذا في الوسيط ٢/ ٢٢٢ إلا أن المعروف عن مجاهد عند عامة المفسرين القول بلزوم التتابع، كما أخرج ذلك عنه الطبري ٧/ ٣٠، "بحر العلوم" ١/ ٤٥٦، "النكت والعيون" ٢/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٤١٥.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠.
(٥) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٥، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
(٦) "الأم" ٧/ ٦٦، والبغوي ٣/ ٩٣، و"زاد المسير" ٢/ ٤١٥، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
(٧) "الأم" ٧/ ٦٦، والبغوي ٣/ ٩٣، وابن كثير ٢/ ١٠٣.
(٨) "تفسير البغوي" ٣/ ٩٣، وابن كثير ٢/ ١٠٣.