
بينهم وإحباط ما يثيرونه من حروب ومكائد ودسائس في الماضي وفي زمن النبي وفي المستقبل إلى يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من وعد وبشرى ربانيين يضاف إليهما ما جاء في سورة الأعراف من عهد رباني بأن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب كما جاء في الآية [١٦٥] ثم ما جاء في آيات سورة البقرة [٦١ و ٨٥] وسورة آل عمران [١١٢] من أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضبه في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة. مما يجب على المسلم الإيمان به رغم ما يبدو الآن من بروز وقوة لهم وتأثيرهم في بعض دول الأرض.
فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل. وقد قال... سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: ٤٤ و ٤٥] والأعراف [١٨٢ و ١٨٣].
ولقد وقف بعض المفسرين عند كلمة يَداهُ فمنهم من أوّلها بأنها كناية عن نعم الله وبأن تثنيتها في مقام التعظيم. ومنهم من أوّلها بأنها كناية عن قدرة الله.
ومنهم من قال إن يد الله صفة من صفاته يجب التسليم بها دون البحث في الكيفية، على ما كان عليه السلف من أهل السنة. ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير الآية الأخيرة من سورة القصص فلا نرى محلّا للإعادة أو ضرورة للزيادة.
ولقد روى الترمذي والبخاري حديثا نبويا عن أبي هريرة في سياق تفسير هذه الآية جاء فيه «يمين الرحمن ملأى سحّاء لا يغيضها الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض» «١» حيث يفيد هذا أن المقصود من الجملة القرآنية تقرير كرم الله سبحانه وسخائه غير المحدودين. وهو ما تلهمه جملة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ذاتها.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦).

(١) مقتصدة: معتدلة في مواقفها أو مستقيمة. أو قليلة الانحراف.
في الآيتين:
(١) تقرير استدراكي بأن أهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي ﷺ واتقوا الله في سيرتهم لنالوا رضاء الله وجناته وغفرانه لسيئاتهم. وبأنهم لو اتبعوا التوراة والإنجيل وأقاموا أحكامهما واتبعوا كذلك ما أنزل إليهم من ربهم لا تسع عليهم الرزق ولأتاهم من كل جهة أو من فوقهم بما ينزل عليهم من مطر ومن تحتهم بما ينبت الله من متنوع النبات.
(٢) وتقرير آخر بواقع حالهم من أن أعمال الكثيرين منهم وأخلاقهم سيئة معوجة منحرفة عما أنزل الله تعالى وليس فيهم إلّا القليل الذين يسيرون بقصد واعتدال. وعدم الغلوّ في المواقف أو يسيرون سيرا مستقيما.
تعليق على الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا | إلخ والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين |
ومع أن موضوع الحديث القريب هم اليهود فقد جاء الكلام في الآيتين عن أهل الكتاب وشملتا بذكر الإنجيل النصارى كما هو ظاهر. والذي نرجحه أن ذلك كما هو في الآيات السابقة من قبيل الاستطراد. ولا سيما أن مقام الكلام يتحمل التعميم كما يدرك ذلك عند إنعام النظر. صفحة رقم 178

والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية [٦٤]. فما وقع هو ناشىء عن انحرافهم واعوجاجهم. وليس بسبب النبي ﷺ كما زعموا ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرّت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي.
ومن المؤولين من صرف جملة وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزوّ إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه لأن ما أنزل إلى النبي ﷺ هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة. ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفّر الله عنهم سيئاتهم حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي ﷺ والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان [١٥، ١٦] من هذه السورة حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم. فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموهما ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبيّ ﷺ وهو القرآن.
وقد يرد إشكال آخر. فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم. وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل؟ وجوابا على هذا نقول إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف [١٥٧] التي تذكر ذلك.