بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم ذلِكَ أي الاتخاذ المذكور بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة، قيل: وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، واعترض بأن قوله سبحانه:
وَإِذا نادَيْتُمْ لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال: حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرا له، قال في الكشف: أقول فيه: إن اتخاذ المناداة هُزُواً منكر من المناكير لأنها من معروفات الشرع، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي كانوا عليها حق مشروع منه تعالى، وهو المراد بثبوته بالنص بعد أن ثبت ابتداء بالسنة، ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث بطوله، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة، والمائدة من آخر القرآن نزولا، وقوله: لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لا مؤثرات وموجبات وترادف المعرفات لا ينكر انتهى، ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه من المكابرة الظاهرة، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه: حي على الصلاة حي على الفلاح.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن قول المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر، ووصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي هل تنكرون وتعيبون منا، وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حد ضرب، وقرأ الحسن تَنْقِمُونَ بفتح القاف من حدّ علم، وهي لغة قليلة، وقال الزجاج: يقال: نقم بالفتح والكسر، ومعناه
بالغ في كراهة الشيء، وأنشد لعبد الله بن قيس:
ما نقموا من بني أمية | إلا أنهم يحلمون إن غضبوا |
«ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى»
أي ما ينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لا يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم.
وهو كما قال الشهاب: مما يعدى- بمن، وعلى- وقال أبو حيان: أصله أن يتعدى بعلى، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا فعل بمعنى افتعل ولم يذكر له مستندا في ذلك إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن المجيد. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى، والواو للعطف وما بعدها عطف على أَنْ آمَنَّا.
واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له- لتنتقمون- والمفعول به الدين وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة، فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره، والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه، خلا أنه في معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه، فالاستثناء على هذا من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به، وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئا ولا أرى فيه بأسا، وقيل: العطف على أَنْ آمَنَّا باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما يلزمهما من المخالفة، فكأنه قيل: هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وقيل: العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وبأن أكثركم كافرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله.
وقيل: العطف على علة محذوفة، وقد حذف الجار في جانب المعطوف، ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: هو منصوب بفعل مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون إن أكثركم فاسقون، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر مقدما عند بعض لأن أَنْ المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر.
وقال أبو حيان: إن أَنْ لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط، وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، والجملة على التقديرين حالية، أو معترضة أي وفسقكم ثابت أو معلوم، وقيل: الواو بمعنى مع أي هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم إلخ.
وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين، نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة في الوجود مستدلا بقولهم: سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس، وبحث فيه بأن صفحة رقم 340
ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو بمعنى مع، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف.
وقيل: الواو زائدة «وأن أكثركم» إلخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون.
وقرأ نعيم بن ميسرة «وإن أكثركم» بكسر الهمزة، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين، والمراد بالأكثر من لم يؤمن وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: ٤٠] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد، وخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم، واعتبرت الشرّية بالنسبة إليه- مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية- مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر، من كل شر، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها البتة لجواز كون العيب من جهة العائب:
فكم من عائب قولا صحيحا | وآفته من الفهم السقيم |
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال: أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، ثم قالوا- كما في رواية الطبراني- لا نعلم دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى الآية،
وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين- بأنبئكم- هم أهل الكتاب.
وقال بعضهم: المخاطب هم الكفار مطلقا، وقيل: هم المؤمنون، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك، فالجمهور على ما قدمناه، وقيل: الإشارة إلى الأكثر الفاسقين، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير، أو لتأويله بالمذكور ونحوه.
وقيل: الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، والمراد أن السلف شر من الخلف مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء ثابتا عنده تعالى، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب، ويقال في الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٧، ٨] حيث لم يقل سبحانه- ير جزاءه- إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التحكم كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع. ونصبها على التمييز من بِشَرٍّ، وقيل: يجوز أن تجعل مفعولا له- لأنبئكم- أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرىء «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة. ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة، وقوله سبحانه: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله صفحة رقم 341
مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله إلخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية- كما قال الزجاج- إما على حالها- أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل: هو دين من لعنه إلخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله إلخ.
وجوز- ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل- أن يكون بدلا من شر، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا، والاحتياج إليه هاهنا- ليخرج من كونه بدل- غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه، والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي مسخ بعضهم قردة- وهم أصحاب السبت- وبعضهم خنازير- وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير مِنْهُمُ راجع إلى- من- باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه، وكذا الضمير في قوله سبحانه: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فإنه عطف على صلة- من- كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب جَعَلَ أي وجعل منهم من عبد إلخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد بالطاغوت- عند الجبائي- العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام: وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية. ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه إلخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى.
وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي، وأن كون الاتصاف- باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود به- في حيز المنع، كيف وهم يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:
١٨] إلا أن يقال: إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة، وقيل:
قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالا، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ما قال: والمراد من الطاغوت العجل، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، فيعم الحكم دين النصارى أيضا، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراك الفريقين في تلك العقوبات انتهى، فتدبر حقه.
وفي الآية كما قال جمع: عدة قراءات اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ، فقرأ الجمهور غير حمزة «عبد» على
صيغة الماضي المعلوم، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها، وقرأ حمزة «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال، وخفض الطاغوت على أن عَبَدَ واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري: معناه الغلو في العبودية، وأنشد عليه قول طرفة:
أبني لبني إن أمكم... أمة وإن أباكم عبد
أراد عبدا، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا: ضمت الباء للمبالغة، كقولهم، للفطن والحذر: فطن وحذر، بضم العين، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم، والنصب بالعطف على الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وقرىء وَعَبَدَ بفتح العين وضم الباء. وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة، والعطف على- من- بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف، أو بالبدلية على ما قيل، ولم يرتض.
وقرأ أبيّ «عبدوا» بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها، والعطف مثله في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن «عباد» جمع عبد «وعبد» بالإفراد بجر «الطاغوت» ونصبه، والجر بالإضافة، والنصب إما على أن الأصل «عبد» بفتح الباء، أو عبد بالتنوين فحذف كقوله. ولا ذاكر الله إلا قليلا. بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان «عبد» على صيغة الماضي المجهول مع رفع «الطاغوت» على أنه نائب الفاعل، والعطف على صلة- من- وعائد الموصول محذوف أي عَبَدَ فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث، فقرأ «عبدت» بتاء التأنيث الساكنة، والطاغوت: يذكر ويؤنث كما مر وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل.
وقرأ ابن مسعود «عبد» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية- لعبد- وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا، والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «عبد» بضم العين والباء وفتح الدال، وجر «الطاغوت» فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع. أو جمع عابد- كشارف وشرف- أو جمع عبد كسقف وسقف. أو جمع عباد- ككتاب وكتب- فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر.
وقرأ الأعمش أيضا «عبّد» بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر «الطاغوت» جمع عابد وعبد- كحطم وزفر- منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا «عبّد» بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال، ونصب «الطاغوت» على حد:
ولا ذاكر الله إلا قليلا بنصب الاسم الجليل، وقرىء «وعابد الشيطان» بنصب عابد، وجر الشيطان بدل الطاغوت، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرىء- «عباد» - كجهال- «وعباد» - كرجال جمع عابد أو عبد، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم، وقرىء «عابد» بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وجر «الطاغوت» وقرىء «عابدوا» بالجمع والإضافة، وقرىء «عابد» منصوبا، وقرىء «عبد الطاغوت» بفتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله:
وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا أي عدته كإقام الصلاة، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد- كخادم وخدم- وقرىء «أعبد» كأكلب، وعبيد جمع أو اسم جمع، «وعابدي» جمع بالياء، وقرأ ابن مسعود أيضا «ومن عبدوا» أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك القبائح
والفضائح وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: شَرٌّ خبره، وقوله تعالى: مَكاناً تمييز محول عن الفاعل، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم: سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه، فكأن شرهم أثر في مكانهم، أو عظم حتى صار مجسما.
وجوّز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر، وقيل: يجوز أن يكون المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفا، والمراد به جهنم وبئس المصير، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال، وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام، وتشديدا للتبكيت، وجعلها- جوابا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق- مما لا يكاد يستقيم.
وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل، وهو دين الإسلام والحنيفية، وهو عطف على شَرٌّ مقرر له، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك، وقيل: للتفضيل على زعمهم وقيل: إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار.
وقال بعضهم: لا مانع أن يقال: إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت- كما قال قتادة والسدي- في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا، فالخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والجمع للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاؤوكم أظهروا لكم الإسلام.
وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان في موضع الحال من ضمير قالُوا على الأظهر.
وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في آمنا، وباء بالكفر، وبِهِ للملابسة، والجار والمجرور حالان من فاعل دَخَلُوا وخَرَجُوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول: إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا، ودخول قَدْ في الجملة الحالية الماضوية- كما قال العلامة الثاني- لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا- فقد- إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في حاشية المتوسط من أنه قيل: إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإن كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى، وإن كان حالا كان حالا، وإن كان مستقبلا كان مستقبلا، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر- وهو الذي يقابل الماضي- وبين ما يبين الحالة المذكورة، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الفعل إذا وقع قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد، فإذا قيل: جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في شرح القواعد، ثم قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قَدْ لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي انتهى.
ولذلك زيادة تفصيل في محله، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته- أفرغ من يد تفت البر- مع لم يعلق بهم شيء
مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عز وجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ، ولذلك قال سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وفيه من الوعيد ما لا يخفى، وفي الكشاف إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخل حرف التوقع لذلك، واعترضه الطيبي بأن قَدْ موضوعة لتوقع مدخولها، وهو هاهنا عين النفاق، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل
قوله: «إن أمارات النفاق» إلخ
فيجب المصير إلى المجاز، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه، وقال في الكشف معرضا به: إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل، وإنما لم يقل سبحانه وقَدْ خَرَجُوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من أولئك اليهود- كما روي عن ابن زيد- والخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ في موضع الحال من كَثِيراً الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان- لترى- والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار فِي على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه، وإحاطته بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقا، وقيل: الكذب بقولهم آمَنَّا لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل، والمراد من العدوان الظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام مطلقا، وقال الحسن:
الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور- فما- نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في- بئس- والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه، وجوز جعل ما موصولة فاعل- بئس- والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره: كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، ولَوْلا الداخلة على المضارع- كما قرره ابن الحاجب وغيره- للتحضيض، والداخلة على الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ مع علمهم بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا، فإن
كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق، صانع، وللثوب الجيد النسج: صنيع- كما قاله الراغب- ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا، أو غيرهما، وقال الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل، وفي الآية- مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات- ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية، وقرىء- لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون وَقالَتِ الْيَهُودُ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعكرمة والضحاك قالوا: إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كف عنهم ما كان بسط لهم، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس يَدُ اللَّهِ عز وجل مَغْلُولَةٌ وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل، ولذلك نظائر تقدم كثير منها، وأرادوا بذلك- لعنهم الله تعالى- أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل... شكرت نداه تلاعه ووهاده
ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله:
أضل صواره وتضيفته... نطوف أمرها بيد الشمال
«وقول لبيد» :
وغداة ريح قد كشفت وقرة... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر:
وقد رابني وهن المنى وانقباضها... وبسط جديد اليأس كفيه في صدري
وقيل: معناه أنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: ١٨١]، وقيل: اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل على عدم التعلق.
وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا، والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير
الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من قوم قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] وعبدوا العجل- أن يعتقدوا اتصاف الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكي عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.
وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفى بعده غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل المذموم- كما قال الزجاج- ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة، وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السبب أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله:
قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة، وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: ٦٧]، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن- فيما نرى- ليس نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه بِما قالُوا أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته، وقرىء وَلُعِنُوا بسكون العين.
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود، وإليه- كما قيل- أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل:
اليد هنا أيضا بمعنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام، وقيل: وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب، وقيل: المراد من التثنية التكثير كما في ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٤] والمراد من التكثير مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة، ونظير ذلك قول الشاعر:
فسرت أسرة طرتيه فغورت | في الخصر منه وأنجدت في نجده |
وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم: إن هذا من المتشابه، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أثبت لله عز وجل يدين،
وقال: «وكلتا يديه يمين»
ولم يرو عن أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أنه صفحة رقم 347
أول ذلك بالنعمة، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن، وفي مصحف عبد الله- بل يداه بسطان- يقال: يد بسط بالمعروف، ونحوه مشية سجح وناقة سرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من كَيْفَ وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد، وقد اقتضت الحكمة- إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم- أن يضيق عليهم، وكَيْفَ ظرف- ليشاء- والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير يُنْفِقُ أن ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا، وقيل: إن جملة يُنْفِقُ في موضع الحال من الضمير المجرور في يَداهُ واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] إذ قيل: إن «شيخا» حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا، وهاهنا المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لا ضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل، والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به مِنْ رَبِّكَ متعلق- بأنزل- كما أن إِلَيْكَ كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام- كما قال شيخ الإسلام- الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلّى الله عليه وسلّم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل- ليزيدن- والإسناد مجازي، وكَثِيراً مفعوله الأول، ومِنْهُمْ
صفته، وقوله تعالى: طُغْياناً وَكُفْراً مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا، ويحتمل أن يراد- بما أنزل- النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره.
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي اليهود.
وقال في البحر: الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ولشمول قوله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد.
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية
والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام.
وفرق السمين بين الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق- بألقينا- وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم يجوز أن يتعلق- بالعداوة- لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكي في البحر قولين في الآية: فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي إنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفؤوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي.
وعن الجمهور أن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام، فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم. وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدا، وإطفاء النار- على هذا- عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى، ولِلْحَرْبِ متعلق- بأوقدوا- واللام للتعليل، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب كتغيير صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك، وفَساداً إما مفعول له وعليه اقتصر أبو البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير يَسْعَوْنَ أي يسعون للفساد، أو سعي فساد، أو مفسدين.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد.
والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل، ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط، وذكر الإنجيل ليس نصا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم، والمراد بهم معاصر و
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولا وفعلا آمَنُوا بما نفي عنهم الإيمان، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: ٥٩] إلخ، وما لحق من قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ إلخ.
وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه- كما قال شيخ الإسلام- المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلّى الله عليه وسلّم مستلزم للكفر بكتابهم، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم، وقدر قتادة فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره، المتعلق بما أنزل الله، وهو ميل إلى التعميم، وكذا عمم في قوله تعالى: وَاتَّقَوْا فقال: أي ما حرم الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام: ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة، ولم نؤاخذهم بها، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع ذلك جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وجعل أبو حيان تكفير السيئات في مقابلة الإيمان، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالآية من باب التوزيع، والظاهر عدمه، وتكرير اللام لتأكيد الوعد، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال: جَنَّاتِ النَّعِيمِ بين جنات الفردوس وجنات عدن، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات: جَنَّاتِ النَّعِيمِ وإن اختلفت مراتب النعيم فيها وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلّى الله عليه وسلّم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيها من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل- ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال- فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم إِلَيْهِمْ لما مر آنفا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها: كما قال سبحانه: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل:
المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رؤوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من
قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول- أكلوا- محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، ومِنْ في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولا: آمَنُوا وَاتَّقَوْا وثانيا أَقامُوا ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل: ويشبه أن يكون ما في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية- كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا- لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال، والقول- بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم- لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه: لَأَكَلُوا إلخ بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة- كما روي عن الربيع- وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم- كما قال مجاهد والسدي وابن زيد- واختاره الجبائي، وأولئك- كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود- وثمانية وأربعون من النصارى، وقيل: المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل: هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل: مِنْهُمْ إلخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وهم الأجلاف المتعصبون- ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم..
ساءَ ما يَعْمَلُونَ من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه.
وقيل: من الإفراط في العداوة وَكَثِيرٌ مبتدأ، ومِنْهُمْ صفته، وساءَ كبئس للذم.
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب- كقضو زيد- أي ما أقضاه، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، وما موصولة فاعل لها أي ساء عملا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون ما نكرة في موضع التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي صلاة الشهود والحضور الذاتي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي زكاة وجودهم وَهُمْ راكِعُونَ أي خاضعون في البقاء بالله.
والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، والإمامية- كما علمت- يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل، وقد علمت منا ردهم- والحمد لله سبحانه- رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام إمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما
يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «خلقت أنا وعلي من نور واحد»
وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم.
ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ على أعدائهم الأنفسية والأفاقية،
وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك هُزُواً وَلَعِباً فطعنوا فيه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهم المقتصرون على الظاهر فقط- كاليهود- أو على الباطن فقط- كالنصارى- وَالْكُفَّارَ
الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق أَوْلِياءَ للمباينة في الأحوال وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به عز شأنه وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي الحضور في حضرة الرب اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار،
فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة»
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ وتنكرون مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي إنهم انقادوا إليه وخضعوا له، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية وَقالَتِ الْيَهُودُ لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر يَدُ اللَّهِ تعالى عما يقولون مَغْلُولَةٌ فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية بِما قالُوا من تلك الكلمة العظيمة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ بهما كَيْفَ يَشاءُ فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك، وإلى الظاهر والباطن أشار صلّى الله عليه وسلّم «بالليل والنهار» فيما
أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار»
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَاتَّقَوْا شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة وَاتَّقَوْا الإنكار والاعتراض على من روى من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل:
وإذا لم تر الهلال فسلم | لأناس رأوه بالأبصار |
وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص مِنْ الابتدائية ما يلوح إلى معنى
قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم»
لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله صفحة رقم 353