آيات من القرآن الكريم

وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﰿ

قال القاضي أبو محمد: وهذا التعليق بآدم ﷺ شاذ بعيد والاعتراض فيه باق، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكة، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعابد الشيطان» بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف، وقرأ ابن عباس فيما روى عن عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعبد الطاغوت» بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف، ومنه قول القينة:
ألا يا حمز للشرف النواء... وهن معلقات بالفناء
وقال أبو الحسن الأخفش: هو جمع عبيد وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه... أسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره «وعبّد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعبد الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضا بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس: «وعبّد الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبدا منونا ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره والطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، و «مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، وسَواءِ السَّبِيلِ وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)

صفحة رقم 213

الضمير في جاؤُكُمْ لليهود المعاصرين لمحمد ﷺ وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله: وَهُمْ تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر.
وقوله تعالى لنبيه: وَتَرى يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني يُسارِعُونَ، وعلى الاحتمال الأول يُسارِعُونَ حال، وفِي الْإِثْمِ معناه في موجبات الإثم إذ الإثم إنما هو الحكم المعلق بصاحب المعصية والنسبة التي يصير إليها إذا وقع الذنب وهو من هؤلاء كفرهم وَالْعُدْوانِ مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد، والسُّحْتَ هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث، واللام في لَبِئْسَ لام قسم، وقرأ أبو حيوة «والعدوان» بكسر العين.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم، قال الطبري: كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى، وقال نحو هذا ابن عباس، وقرأ الجراح وأبو واقد «الربانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني، وقال الحسن: الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقوله في الرباني شاذ بعيد. والْأَحْبارُ واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك، والرباني هو العالم المدبر المصلح، وقوله تعالى: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ظاهر أن الْإِثْمَ هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي ﷺ والمؤمنين، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ إلى قوله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: ٢٩] فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:

صفحة رقم 214

مثل البخيل والمتصدق، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها، وقال الحسن بن أبي الحسن قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا.
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.
ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ وفي قوله: بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وعَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: ٧١] ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠] ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: ١٤] واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: ٤٨] وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.
وقال جمهور الأمة: بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، يَداهُ نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه على الجملة

صفحة رقم 215
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية