
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بدأ بالرجل لأن السرقة في الرجال أكثر، وقال في الزنى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بدأ بالنساء، لأن الزنى في النساء أكثر، وهنَّ الفاتنات للرجال فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما.
روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه كان يقرأ: «فاقطعوا أيمانيهما» وغيره قرأ أيديهما، واتفقوا أن المراد به اليمين من الكرسوع، نزلت الآية في «طعْمَة بن أبَيْرق»، ثم صارت الآية عامة في جميع السُّرَّاق.
وقال بعضهم: إذا سرق قليلاً أو كثيراً يجب القطع، واحتج لظاهر الآية. روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لَعَنَ الله السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». وروي عن ابن الزبير أنه قطع في نعل ثمنه درهم. وقال: لو سرق خيطاً لقطعته، وقال بعضهم: لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم، أو اربع دينار فصاعداً.
والاختيار عند علمائنا رحمهم الله أن اليد لا تقطع في أقلَّ من عشرة دراهم، وبه جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم. قرأ بعضهم: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب، وكذلك قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بالنصب، وإنما جعله نصباً لوقوع الفعل عليه، وهو شاذ من القراءة والقراءة المعروفة بالرفع.
وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: رفعه بالابتداء، لأن القصد ليس إلى واحد من السراق بعينه والزناة بعينه، إنما هو كقولك من سرق فاقطعوا يده، ومن زنى فاجلدوه، ثم قال: جَزاءً بِما كَسَبا يعني عقوبة لهما بما سرقا، نَكالًا يعني: عقوبة، مِنَ اللَّهِ جزاء صار نصباً لأنه مفعول له يعني: جزاء بجزاء فعلهما، ثم قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حكم على السارق بقطع اليد، ثم قال عز وجل: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ يعني: من بعد سرقته، وَأَصْلَحَ العمل بعد السرقة فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يعني: يتجاوز عنه، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما سلف من ذنبه، رَحِيمٌ به بعد التوبة، يعني: إذا تاب ورد المال لا تقطع يده.
ثم قال عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والارض، يعني:
خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات. ويقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يحكم فيها ما يشاء، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذا أصرّ على ذنوبه، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا تاب ورجع، ومعناه: أن السارق إذا تاب، ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه، وإن لم يتب قطعت يده.
ألا ترى أن الله تعالى قال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب، فافعلوا أنتم مثل ذلك، لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده، وهو قوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من المغفرة والعذاب.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ نزلت في شأن «أبي لبابة بن عبد المنذر»، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة فأشار إليهم أبو لبابة، وكان حليفاً لهم، إنكم إن نزلتم من حصونكم قتلكم فلا تنزلوا، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون ويقعون في الكفر، مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ يعني ذلك بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ في السر.
وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن المنافقين، كانت علانيتهم تصديقاً، وسرائرهم تكذيباً.
قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ يعني: قوالون للكذب، وقال القتبي:
تفسير سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي: قابلون للكذب، لأن الرجل يسمع الحق والباطل، ولكن يقال: لا تسمع من فلان قولاً، أي: لا تقبله، ومعنى آخر إنهم يسمعون منك ليكذبوا عليك، لأنهم إنما جالسوه لكي يقولوا: سمعنا منه كذا وكذا، وإنما صار سَمَّاعُونَ رفعاً لأن معناه:
هم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ من سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يعني: أهل خيبر لم يأتوك، وذلك أن

رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا فكرهوا رجمهما، فكتبوا إلى يهود بني قريظة أن يذهبوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن حكم بالجلد رضوا عنه بحكمه وإن حكم بالرجم لم يقبلوا. وروى نافع عن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا له أن رجلاً وامرأة زنيا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟». فقالوا: يحممان ويجلدان، يعني: تُسَوَّدُ وجوههما. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة. فأتوا بها فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، وقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: صدق عبد الله بن سلام، يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما. قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحنو على المرأة يقيها الحجارة.
وروى الشعبي عن جابر بن عبد الله أنه قال: زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن يسألوا محمداً ﷺ عن ذلك، فإن أمركم بالحد فحدوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه، فسألوه، فدعا ابن صوريا وكان عالمهم، وكان أعور، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشُدُكَ الله كَيفَ تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُم» ؟. فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني بالله، فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية، والاعتناق زنية والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوه كالميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هُوَ ذلك».
وروي عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجال من اليهود، وقد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أُحْصن، قالوا: فانطلقوا فلنسأل هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فإن أفتانا بفتوى فيها تخفيف، فاحتججنا عند الله تعالى بها، وإن أفتانا بما فرض الله علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك. فقد تركنا ذلك في التوراة وهي أحق أن تطاع، فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقمنا معه، حتى أتى بيت مدراس اليهود، فوجدهم يتدارسون التوراة فقال لهم «يا مَعْشَرَ اليَهُودِ، أَنْشُدُكُمْ بالله الذي أَنْزَلَ التَّورَاة على موسى- عليه السلام- ما تجدون في التوراة مِنَ العُقُوبَةِ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَد أَحْصَنَ» ؟. فقالوا: إنا نجد أن يجلد ويحمم، وسكت حبرهم وهو في جانب البيت فأقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلم ينشده، فقال له حبرهم: إذا ناشدتنا فإنا نجد عليه الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كَانَ أَوَّلَ مَا تَرَخَّصْتُمْ به أمر الله تَعَالَى» ؟، قال: إنه قد زنى رجل قد أحصن، وهو ذو قرابة لملك من ملوكنا فسجنه، وأخر عنه الحد، وزنى رجل آخر، فأراد الملك رجمه، فجاء قومه وقالوا: لا ترجمه حتى ترجم فلاناً، فاصطلحوا بينهم على عقوبة دون الرجم، وتركوا الرجم.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «فَإنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِمَا في التوراة»، فنزل قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ. قال الزجاج: يعني: من بعد أن وضعه الله تعالى مواضعه، وأحل حلاله وحرم حرامه.