الفظيع عند الله هو «جَزاءُ الظَّالِمِينَ» (٢٩) أمثالك الّذين يقدمون على قتل النفس عمدا بلا حق، فلم يؤثر ما أبداه له ولهذا قال تعالى حاكيا حاله وإصراره على الشّر «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ» ولم يلق بالا للنصح والتهديد والوعظ، فتحين فرصة للغدر به بغياب أبيهما «فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٣٠) الدنيا لغضب أبيه وأمه وفقد أخيه والآخرة بغضب الله وعذاب النّار والحرمان من الجنّة،
ولما فعل فعلته لم يعلم ماذا يفعل بجثته فحمله على ظهره لأنه أول قتيل أهريق دمه على وجه الأرض من بني آدم، لذلك لم يعرف ما يفعل به بعد قتله «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» وكان معه غراب مقتول (ولم يكرر لفظ الغراب ويبحث في القرآن) كان تقاتل معه فقتله، فحفر الأرض برجليه ودفنه فيها، وإنما بعثه الله إليه «لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» فتنبه لذلك وفعل بأخيه ما فعل الغراب، ثم قال مؤنبا نفسه على فرط جهله وحمقه، إذ علم أن الغراب أفطن منه «قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» خير من أظل حاملا له، ولما دفنه رأي نفسه وحيدا «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (٣١) على قتل أخيه وحمله إياه مدة سنة على ما قيل ولم ينتبه لأن يعمل فيه ما عمله الغراب بأخيه الذي قتله مثله وزاد عليه بالمعرفة، إذ دفنه حالا. قال تعالى «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» القتل العمد ظلما «كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ» بغير «فَسادٍ فِي الْأَرْضِ» كقطع الطّريق والنّهب والسّلب فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» في الغدر لأنه يستوجب غضب الله تعالى والعذاب الدائم في جهنم، فلو فرض أنه قتل جميع النّاس لا يزاد على عذابه هذا شيء إذ ما بعد التخليد في النّار من عذاب، وذلك لأن الجناية على النّفس عمدا من أعظم المحرمات بعد الإشراك بالله، ولهذا كان مثل تخريب العالم، وعليه قوله صلّى الله عليه وسلم:
لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم. وقال: سباب المؤمن فسق وقتاله كفر «وَمَنْ أَحْياها» استخلصها من أسباب الهلاك وأنقذها من العطب من قتل أو حرق أو غرق أو غيره من هدم أو ترد أو ظالم وشبهه «فَكَأَنَّما
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»
وفي هذه الآية ترغيب من الله لمن يتسبب من عباده في إنقاذ النّاس من الهلاك، ولهذا شرع الدّفاع عن النّفس والمال والعرض وغيره، وإذا قتل في هذا السّبيل قتل شهيدا، وإذا قتل لا شيء عليه، وإن القوانين الأرضية استقت هذا من القوانين السّماوية، فأعفت المعتدى عليه في نفسه وماله وعرضه من العقاب، حتى إنه لو فعل ذلك من أجل غيره يعفى في بعض الحالات ويعد معذورا في أخرى، فيخفف عنه الجزاء، وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون أن حواء عليها السّلام كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى، ولدت في عشرين بطنا أربعين، عشرين ذكورا ومثلهم إناثا، أولهم قابيل وتوءمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوءمنه أم المغيث، ولم يمت آدم حتى بلغ ولده أربعون ألفا، ولم يمت منهم أحد، وكانوا يتزاوجون على الخلف بأن لا يأخذ الأخ توءمته بل التي بعدها وتوءمها يأخذ النّبي قبله وهكذا، فأمر الله آدم أن يزوج قابيل لودا أخت هابيل، وهابيل إقليما أخت قابيل لأنهما متقاربان في السنّ، فقال قابيل لأبيه عند ما كلفه بذلك إن أختي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها لأني وإياها حملنا وولادتنا في الجنّة وهابيل وأخته حملها وولادتها في الأرض، فقال له آدم وإن كان كذلك فلا يحل لك أن تخالف أمر الله، فأبى أن يقبل ولم يصغ لوعظ أبيه وزجره وتهديده، فقال إذ عققتني فقرّبا أنت وأخوك قربانا فأيكما قبل قربانه أخذ أقليما، ففعلا ولكن قال قابيل في نفسه إن تقبل قرباني أو لم يتقبل فلا أتزوج إلا أختي، وقال هابيل في نفسه ما يكون من الله فأنا راض به، ولهذا والحكمة الأزلية قربا تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل كما مر في الآية ٢٨ وتقدم في الآية ١٨٣ من آل عمران كيفية قبول القرابين فراجعها، فصارح قابيل إياه بعدم قبوله، وقال إن فعلت يتحدث بين الملأ أنه خير مني فيفتخر ولده على ولدي، وأضمر الشّر لأخيه وتهدده وتوعده بالقتل، ولما سنحت له الفرصة حال غياب أبيه حمل حجرا ليرضّ بها رأسه، فاستعطفه وزجره كما تقدم ولم ينجح به فوطن هابيل نفسه للاستسلام طلبا للثواب، وتركه ولم يقابله بشيء، قالوا ولم يعرف أولا أحد كيفية القتل، فتمثل له الشّيطان عليه اللّعنة وقد أخذ طيرا فوضع
رأسه على حجر ورضه بحجر آخر فقتله، فلما رأى قابيل ذلك فعله بأخيه هابيل إذ رض رأسه بين حجرين حالة نومه فقتله غيلة، ثم انه تاب ولكن لم تقبل توبته، لأن النّدم وحده لا يعد توبة إذ ذاك، وإنما هو من خصائص هذه الأمة، راجع الآية ٥٧ من سورة البقرة في كيفية توبة بني إسرائيل، على أن غالب ندمه كان على حمله أخيه بعد قتله مدة سنة، حتى رأى الغراب وعمله بأخيه فعمل مثله، ولم يصرح بالندم إلّا بعد الدّفن، ولأن قتله تعمدا عنادا بالله وبأبيه وعدم ارتداعه بعدم تقبّل القربان من الله، وقالوا إنه تركه بالعراء مدة، فلما رأى تقرب السّباع منه لتأكله حمله على ظهره، ولما أنتن وتحير في أمره ولم يدر ماذا يفعل به ليتخلص منه بعث الله له الغراب ليعلمه كيفية دفنه. قالوا ولما قتله رجفت الأرض سبعة أيّام، واسود جلده إعلاما بغضب الله عليه والعياذ بالله، قالوا ولما رجع آدم عليه السّلام من مكة إذ كان غيابه فيها ولم يجد هابيل سأل قابيل عنه، فقال ما أنا عليه بوكيل، قال بل قتلته، ولذلك اسود جلدك، فمكث آدم مائة سنة لا يضحك، ورثاه بكلمات سريانية ووصى شيئا يحفظها، ولم تزل الكلمات تنقل حتى زمن يعرب بن قحطان فعرّبها على ما قيل بهذه الأبيات:
تغيرت البلاد ومن عليها... فوجه الأرض مغبّر قبيح
تغير كلّ ذي لون وطعم... وقل بشاشة وجه مليح
ومالي لا أجود يسكب دمع... وهابيل تضمنه الضّريح
أرى طول الحياة عليّ غما... فهل أنا من حياتي مستريح
لأنه كان يعرف السّريانية والعربية ومن قال أنه من نظم آدم فقد أخطأ لأن الأنبياء منزهون عن الشّعر، ولأن لغة آدم السّريانية فضلا عن ركاكة هذه الأبيات وإن هذا لفي شك أيضا، لأن الإسرائيلات التي بعد هذا بكثير لا يوثق بصحتها لطول الزمن وعدم الضّبط وقلة الكتاب، فكيف بما صدر عن آدم ولم يدون، وإن قوله ولد هو وأخته في السّماء كان لعدم ثبوت هذا المكان كما ذكر، وإن الله لم يذكر عن ذلك شيئا وهي كما ذكرها الله فقط، وإن شيث عليه السّلام
ولد بعد بلوغ آدم مئة وثلاثين سنة، وبعد قتل هابيل بخمسين سنة، واسمه هبة الله بالعربية لأنه خلف عن هابيل، وعلمه الله ساعات اللّيل والنّهار، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم من بعده وولي عهده، قالوا وبعد أن عرف آدم أن قابيل قتل هابيل طرده وشرّده وهدده بالقتل إن بقي، فأخذ أخته أقليما وهرب إلى عدن خوفا من القتل الذي سنّه في الأرض، فتصور له إبليس وقال له إنما أكلت النّار القربان الذي قربه أخوك لأنه كان يعبدها، فبنى له بيتا وأوقد فيه نارا وصار يعبدها من دون الله، فهو أول من عبدها، وأول من سنّ القتل على وجه الأرض، وأول من خالف أمر الله بتزوجه أخته الشّقيقة، واقتدى به من بعده بهذه الخصال القبيحة، فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة ثم انتقم الله منه إذ مات برمية من ابن له أعمى، فقال له ابنه قتلت أباك فلطمه وقتله أيضا، قال صلّى الله عليه وسلم بشر القاتل بالقتل. قتلوا واتخذ أولاده من بعده آلات الطبل والمزامير وانهمكوا في الملاهي والمعاصي ولم يزالوا حتى أغرقهم الله بالطوفان فلم يبق من نسله أحد. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ» الواضحات من اخبار من قبلهم فلم يتعظوا بها «ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ» الذي كتبناه عليهم من التشديد في عقاب القاتل وشرعنا القصاص على جميع الخلق، وبالغنا فيه بحقهم بان جعلنا قتل النّفس الواحدة كقتل الجميع، ولم ينجح بهم ولم يزالوا وهم «فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» (٣٢) أي أكثرهم متجاوزون الحد في العصيان ودائبون على اخلاف الوعد ونقض العهد في حق الله تعالى، واستحلوا محارمه وحرموا ما أحله لهم، فلأن يخالفوا أمرك يا سيد الرّسل من باب أولى لأنهم قتلوا طائفة من الأنبياء بغير حق، وهم الآن يترصدون لقتلك مع أنهم مأمورون باتباعك، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفن من دمها لأنه أول القتل من سنّ سنة وقال صلّى الله عليه وسلم من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
صفحة رقم 321
مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:
قال تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا» إذا قتلوا الأنفس فقط «أَوْ يُصَلَّبُوا» إذا أخذوا المال مع القتل تشديدا للعقوبة «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» اليمنى مع الرّجل اليسرى أو الرّجل اليسرى مع اليد اليمنى إذا أخذوا المال فقط «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إذا وجدوا في الطّريق وأخافوا النّاس أو في البرية أيضا لغاية القتل والنهب والسّلب ولم يقع منهم قتل ولا أخذ مال فينفوا إلى مكان لا يتمكنون معه من القيام بهذه المفاسد، وفي حبسهم معنى النّفي وأبلغ «ذلِكَ» الذي كتبه الله على هؤلاء المفسدين من الحد يكون «لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا» وهوان بين المجتمع الإنساني، وذل يأنفه كلّ ذي عقل، ويتباعد عنهم كلّ ذي مروءة، وينفر منهم كلّ شهم «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (٣٣) عند الله إذا ماتوا قبل توبتهم، فإذا تابوا وكانوا مسلمين أو كانوا كافرين فأسلموا وسلّموا أنفسهم لإجراء الحد عليهم فعقوبتهم الدّنيوية هي ما ذكر في الآية وهي كفارة لهم، وإن لم يسلموا أنفسهم وبقوا على طغيانهم فهم في خطر المشيئة، أما الكفار إذا أسلموا بعد ذلك فإسلامهم كفارة لهم لأن الإسلام يجبّ ما قبله، وإنما يلزم بعده أداء الحقوق الشّخصية فقط «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» من كفرهم ومحاربتهم لله ورسوله وتركوا الإفساد في الأرض «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» بأن أمسكتموه وكانوا في قبضتكم، فهؤلاء لا سبيل لكم عليهم على مطلق الإضافة، أما إذا كانوا قاتلين أو ناهبين، فأولياء القتيل لهم طلب القصاص أو العفو وأخذ الدّية وأهل المال لهم طلبه منهم أو تركه، والله تعالى يقبل توبتهم فلا طريق لأولي الأمر عليهم إذا أقلعوا عما كانوا عليه من تلقاء أنفسهم ولهذا قال تعالى منبها على ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٣٤) لأمثال هؤلاء وبعد مغفرة الله لا حقّ لأولياء الأمر أن يعاقبوهم لأنهم وكلاء الله في أرضه وليس للوكيل أن يفعل شيئا نهاه عنه موكله إذا أسقطه. هذا وإذا كان النّائبون
قبل القبض عليهم كفرة فلا يطالبون بالقصاص لما ذكرنا من أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تدرا الحدود الواجبة حال الكفر، وذلك ليكون داعيا للاسلام، وإذا علم أنه مطالب بما فعل حال كفره، بعد الإسلام لا يسلم. وحكم هذه الآية عام ومستمر الى يوم القيامة وإن نزولها بحق جماعة مخصوصين كان شأنهم ذلك لا يقيدها بهم ولا يخصصها فيهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من عكل وعرينة قدموا على النّبي صلّى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة. فأمر لهم صلّى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النّبي صلّى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلم فبعث الطّلب في أثرهم فحلقهم وأخذهم، فاعترفوا لحضرة الرّسول بجرمهم، ولم يبدوا عذرا يدرا الحد عنهم، فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة (محل بظاهر المدينة تحت واقم) حتى ماتوا على حالهم.
قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصّدقة وينهى عن المثلة، زاد في رواية قال قتادة فحدثني بن سيرين أن ذلك قبل أن تنزل الحدود قال أبو تلابة فهؤلاء قوم كفروا وقتلوا وسرقوا بعد ايمانهم وحاربوا الله ورسوله فأنزل الله فيهم هذه الآية وصار العمل عليها حتى الآن والى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا وينبغي صلب مثل هؤلاء المفسدين على الطّريق العام ليكون أبلغ في الزجر، ويختار الحبس على النّفي إذا تيقن أنه يؤذي في المحل الذي ينفى اليه، وإذا تاب هؤلاء المفسدون بعد القبض عليهم فلا تقبل توبتهم لأنها لا تكون خالصة بل للتخلص من الحد وهي توبة لا قيمة لها كالتوبة حال اليأس، لذلك يجب أن تقام عليهم الحدود المذكورة في هذه الآية، قالوا إن داود باشا حاكم العراق في القرن الثاني عشر للهجرة قد اشتهر بالعدل والتقوى وأعمال الخير وأفعال البر وإنشاء الجسور وإصلاح الطّرق وعمارة البيوت للفقراء وبناء المساجد والجوامع والتكايا، وصار يصرف جميع واردات العراق في هذه الجهات وشبهها، وكان له خادم فقتل نفسا فأمر بقتله، فاختفى ثم دخل عند الشّيخ خالد النّقشبندي ذي
الجناحين دفين دمشق، فبلغ الشّرطة خبره فحضروا ليأخذوه، فلم يسلمه للشرطة فحضر داود باشا بنفسه وتحاجّ مع الشّيخ وتلا عليه هذه الآية، فقال له الشّيخ إنه تاب قبل أن تقدروا عليه، وتوبته مقبولة بحكم هذه الآية، فلم يقبل الحاكم وطلب تسليمه ليقتله بحكم الآية الأولى، فصاح عليه الشّيخ لا أرسله لك يحكم الآية الثانية، فأغمي عليه ولما أفاق قبل يدي الشّيخ واستعفاه وقبل توبته وأدى الدّية لأهله بعد أن عفا أهل القتيل عنه وقالوا إنه حينما صاح الشّيخ رأى الحاكم نفسه بين يدي سبع يريد أن يلتقمه كرامة من الشّيخ، ولهذا فعل ما فعل، وهذا الحاكم غضب عليه السّلطان لعدم رفع شيء من واردات العراق إلى الخزينة العامة وأرسل من يقتله إذا لم يسلم نفسه اليه، ولما سلم نفسه اليه لم ير السّلطان ما يوجب قتله إذ تبين له أنه صرفها بصورة شرعية، فعفا عنه وأرسله إلى المدينة خادما للحرم الشّريف، فليحسنه فصار يكسو الحجرة الشّريفة بعد المكسة إلى أن توفي رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» بفعل الطّاعات والعمل بما يرضيه جل شأنه من صلة الرّحم والتصدق على الأرامل والفقراء وقضاء حوائج العاجزين والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فهذه وما يشبهها كلها وسائل إلى الله تعالى تقرب العبد منه وتطلق الوسيلة على الحاجة قال عنترة:
إن الرّجال لهم إليك وسيلة | أن يأخذوك تكحلي وتخصّبي |
فيه أن يكون أفضل من المستغيث به لما صحّ أنه صلّى الله عليه وسلم لما استأذن عمر في العمرة قال له لا تنسنا من دعائك، وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأمر أمته بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه، وقد استسقى الأصحاب بالعباس رضي الله عنهم، وإذا كان المستغاث به ميتا فلا يجوز لأنه بدعة، إذ لم ينقل عن السلف الصّالح أنهم استغاثوا أو طلبوا شيئا من الأموات. أما التوسل بجاههم لما يعتقد فيهم من التقرب إلى الله وعند الله ومن الله فلا بأس به، وكذلك زيارة قبورهم كما ذكره صاحب المدخل رحمه الله في الجزء الأوّل في باب زيارة القبور، وجواز شد الرّحال إليها، أما ما قاله صلّى الله عليه وسلم لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجده والمسجد الأقصى والمسجد الحرام فلما فيها من التفاوت بالأجر، أما بقية المساجد فلا تفاوت فيها، لهذا لا يشملها ولا يدخل فيه زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، إذ فيهم تفاوت لأن منهم من هو أقرب إلى الله من غيره فيجوز شد الرّحال لزيارتهم والتبرك بهم أمواتا كما يجوز أحياء لأن مجالستهم بركة وقد تنزل الرّحمة عليهم فيستفيد منها من كان عندهم، وقد حبّذ هذا العارفون كلهم ولم يمنعه منهم أحد وهم أدرى من غيرهم، فمنهم يؤخذ وبهم يقتدى وعنهم يتحدث، وحديث شد الرّحال خاص بالمساجد الثلاثة ولا يصلح أن يكون حجة للمنع من زيارته المحلات الأخر التي يتبرك بها، تدبر «وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ» أعداءه لإعلاء كلمته «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٣٥) في دنياكم في العز والوقار وفي آخرتكم في الفوز والنّجاة من النّار.
مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به:
واعلم أن من هذه الآية الكريمة ومن قوله صلّى الله عليه وسلم إن أرواح المؤمنين لتلتقي على مسيرة يوم وما رأى أحد صاحبه، ومن قول الفقهاء ينبغي لمن يقول في التحيات أثناه الصّلاة السّلام عليك أيها النّبي ورحمته وبركاته أن يتصور النّبي أمامه كأنه يخاطبه في التحية، ومن أمر الشارع باستقبال القبلة وتقبيل الحجر الأسود أخذ السادة الصّوفية الرّابطة وأجمعوا عليها وأمروا بها، وقد أشرنا إلى هذا في الآية
٥٨ من سورة الإسراء في ج ١، ومن أراد تفصيل هذا البحث فليراجع كتاب الهداية والعرفان للصاحب، وكتاب البهجة السّنية للخاني، ووضعت الرّابطة للاستعانة بالشيخ الكامل الذي إذا رئي ذكر الله لدفع الخطرات الشّيطانية عن القلب وطلب الواردات الإلهية إليه، لأنه بيت الرّب القائل جل قوله ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن. فهات هذا المؤمن المخلص الذي صار قلبه محلا الرّحمن وتوسل به إليه، أما لا فلا، فحسنوا رحمكم الله نياتكم وطهروا بيت الرّحمن من كلّ ما لا يليق به، وظنوا بالناس خيرا ليحصل لكم الأمان فتدخلوا الجنان والله من وراء القصد. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من المال والملك والولد «وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ الله يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» ذلك الفداء على فرض ان لكل كافر ملك الدّنيا هذه ودنيا أخرى معها، ثم قدمها ليفدي بها نفسه من عذاب الله في ذلك اليوم لم يقبل منه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٣٦) لا سبيل للنجاة منه وتراهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ» لشدة ما يقاسون من عذابها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» لعدم استطاعتهم الخروج لأن عليها ملائكة غلاظ شداد لا رحمة في قلوبهم يمنعونهم من الخروج راجع الآية ٦ من سورة التحريم المارة لتقف على وصف هؤلاء الملائكة «وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» دائم ثابت لا ينقص ولا يتحول عنهم، قال تعالى «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا» ما لا يحل لهما أخذه من مال الغير، وهذا القطع يكون جزاء «نَكالًا» عقوبة عظيمة «مِنَ اللَّهِ» الذي نهى عن السّرقة ليرتدع النّاس عن فعلها «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» قوي في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره «حَكِيمٌ» في ترتيب هذا الحد على السارق ليقطع دابر السّرقة، هذا وقد ذكر الله تعالى من أول هذه السّورة إلى هنا ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها كما أشرنا آنفا وهي المنخنقة ٢ والموقوذة ٣ والمتردية ٤ والنّطيحة ٥ وما أكل السّبع ٦ وما ذبح على النّصب ٧ والاستقسام بالأزلام ٨ والجوارح المعلمة ٩ وطعام أهل الكتاب ١٠ والمحصنات منهم ١١ وبيان
صفحة رقم 326
الطهارة والتطهير ١٢ والوضوء عند إرادة الصّلاة ١٣ وجزاء قطاع الطّريق إذا قتلوا ١٤ وعقابهم إذا قتلوا وسلبوا ١٥ وجزاؤهم إذا سرقوا فقط ١٦ وعقابهم إذا لم يسرقوا ولم يقتلوا ١٧ وجزاؤهم إذا تابوا ١٨ وقبول توبتهم قبل القبض عليهم مع ما يلزمهم في هذه الأحوال كلها. ثم بين سبعة أحكام أخر كذلك لم تذكر في غيرها وهي ١ حكم السّارق والسّارقة ٢ حكم قتل الصّيد ٣ البحيرة ٤ السّائمة ٥ الوصيلة ٦ الحام ٧ حكم الوصية والإشهاد عليها قبل الموت بما يدل على عظيم هذه السّورة والقرآن كله عظيم، إلا أنه ما من عموم إلّا وخصص لا سيما الآيات التي فيها أحكام فهي أهم من غيرها وقد جعل في القرآن الحسن والأحسن، راجع الآية ٥٥ من الزمر والآية الثانية من سورة يوسف في ج ٢، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن قريشا أهمها شأن المخزومية التي سرقت فقالوا، من يكلم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حب رسول الله؟ فكلمه أسامة، فقال صلّى الله عليه وسلم أتشفع في حدّ من حدود الله ثم قام فاختطب، ثم قال إنما أهلك الّذين من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. ورويا عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعن الله السّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده. والحكم الشّرعي إذا سرق السّارق ما يساوي ربع دينار تقطع يده وان البيضة الواردة في الحديث يراد بها بيضة الدّرع، والمراد بالجمل ما يساوي ربع دينار ويشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا
عالما بالتحريم، فلو كان حديث عهد بالإسلام لا يعلم حرمة السّرقة لا يقطع، وكذلك الصّبي والمجنون، ويشترط أن يكون المسروق في محل محرز كدور السّكن والخيم، أما إذا كان من البادية والبساتين والدّور غير المأهولة وغير السورة المنقطعة من السّكان والزروع والكروم فلا قطع فيها، وكذلك لا قطع على من يسرق مال أبيه وأمه والعبد من سيده والشّريك من شريكه لوجود الإباحة في البعض معنى وهي ما يدرأ بها الحد، وإذا سرق بعد أن قطعت يده تقطع رجله من مفصل القدم على الخلاف، وهكذا إذا سرق ثالثا، وإذا سرق رابعا لا تقطع يده الأخرى بل يحبس، لأن في قطعها
تعطيلا له عن الأكل والعمل بصورة بانه مما يؤدي إلى هلاكه ولم يجعل الله الهلاك في هذا الحد، فلو أن المسلمين ساروا على ما حده الله لا نقطع دابر الفساد كله، لأن النّاس إذا رأوا عار قطع اليد الملازم للسارق يرتدعون عن السّرقة، أما الحبس الذي عليه أحكام هذا الزمن بنوعيها الجناية والجنحة فلم تكن رادعة لقطع دابر السّرقات مهما شدد فيها لصعوبة أسباب ثبوتها، فلذلك ما زالت السّرقات تتكاثر، وما زال السّراق يتبرمون، ولهذا شدد الشّارع فأوجب قطع اليد عند الثبوت، لأن هذا يزيد في الزجر ويقطع دابر السّرقة وتتأثر النّاس في عارها ويتحاشون أن يلصق بهم. قال تعالى «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» لنفسه بالسرقة وظلم غيره بأخذ ماله «وَأَصْلَحَ» نفسه بعدها بالعمل الصّالح «فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» ويقبل توبته «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده الرّاجعين إليه «رَحِيمٌ ٣٩» بهم يريد لهم الخير، وليعلم أن هذه التوبة لا تسقط عنه الحد، لأنه جزاء لما فعل، أخرج أبو داود وابن ماجه والنّسائي عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بلصّ قد اعترف اعترافا لم يوجد معه متاع فقال له إخالك سرقت، فقال بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كلّ ذلك يعترف، فأمر به فقطع، ثم جيء به فقال له صلّى الله عليه وسلم أستغفر الله وتب اليه، فقال الرّجل أستغفر الله وأتوب اليه، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم تب عليه. وهذا إذا كان مؤمنا، أما إذا كان كافرا وأسلم فقد سقط عنه الحد ويبقى المال فقط، وإذا حاول السّرقة فلم يسرق لأمر ما فلا حدّ عليه، لأن الله فرض الحد على الفاعل القاصد، وهكذا القتل إذا قصده ولم يقتله أو قتل خطأ أو مناولا فلا شيء عليه، راجع الآية ٩٢ من سورة النّساء، قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٤٠) قدم تعالى في هذه الآية التعذيب على المغفرة لأنه بمقابلة قطع السّرقة على التوبة، وهذه الآية تبطل زعم القدرية والمعتزلة القائلين بوجوب الرّحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأنها تدل على أن التعذيب والرّحمة مفوضان للمشيئة، والوجوب ينافي ذلك، وبما أن الكل في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلا
صفحة رقم 328