
معرفتهم. وقرأ الأعمش: «وتعلم» بالتاء، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله تعالى:
مِنَ الشَّاهِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: من الشاهدين لله بالقدرة، ولك بالنبّوة. والثاني: عند بني إِسرائيل إِذا رجعنا إِليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرِيّة عند هذا السؤال. والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي. والرابع: من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٤]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وقرأ ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري:
«لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيداً لنا، نعظِّمه نحن ومن بعدنا، قاله قتادة، والسدي. وقال كعب: أُنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه عيداً. وقال ابن قتيبة: عيداً، أي: مجمعاً. قال الخليل بن أحمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا إِليه. وقال ابن الأنباري: سُمِّيَ عيداً للعودِ من الترح إِلى الفرح.
قوله تعالى: وَآيَةً مِنْكَ أي علامة منك تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، والضحاك «وأنه منك» بفتح الهمزة، وبنون مشدّدة.
وفي قوله تعالى: وَارْزُقْنا قولان: أحدهما: ارزقنا ذلك من عندك. والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٥]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قرأ نافع وعاصم وابن عامر «منزِّلها» بالتشديد، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعدٌ بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت أم لا؟ على قولين «١» :
أحدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبِّه عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدّوا في طلبها لبس جُبَّة من شعر، ثم توضأ، واغتسل، وصفَّ قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ رأسه خضوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل دموعه على خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه، ثم رفع رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، فبينما عيسى كذلك، هبطت عليهم مائدةٌ من السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من فوقها، وعيسى يبكي ويتضرَّع، ويقول: إِلهي اجعلها سلامةً، لا تجعلها عذاباً، حتى استقرَّت بين يديه، والحواريون من حوله، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإِذا عليها منديلٌ مغطَّى، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاءً عند ربه فليأخذ

هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوا جديداً، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف عنها، ثم قعد إِليها، وتناول المنديل، فإذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك، وحولها من كل البقل ما خلا الكرَّاث، وعند رأسها الخل، وعند ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفةٍ، على رغيف تمر، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمِن طعام الدنيا هذا، أمِّن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم. قال شمعون: لا وإِله بني إِسرائيل ما أردت بهذا سوءاً. قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إِنما هو شيءٌ ابتدعه الله، فقال له: «كن» فكان أسرع من طرفة عين. فقال الحواريون: يا روح الله إِنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حيةً طريةً، فعادت تضطرب على المائدة، ثم قال: عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها، فقال: معاذ الله بل يأكل منها مَن سألها، فلما رأوا امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزَّمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، فأكل منها ألف وسبعمائة إِنسان، يصدرون عنها شباعاً وهي كهيئتها حين نزلت، فصحَّ كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد ذلك عليهم، فازدحموا عليها، فجعلها عيسى نوباً بينهم، فكانت تنزل عليهم أربعين يوماً، تنزل يوماً وتغبُّ «١» يوماً، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إِذا قالوا، ارتفعت إِلى السماء وهم ينظرون إِلى ظلها في الأرض «٢». وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرةً وعشية، حيث كانوا. وقال غيره:
نزلت يوم الأحد مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك جعلوه عيداً. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال: أحدها: أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٤٨٥) «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما».
__________
(١) في «اللسان» : النّوب: جمع نوبة: وهي الفرصة والدّولة. والغبّ: ورد يوم، وظمأ آخر.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ١٥٤: هذا أثر غريب جدا، قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى- أعلم.
وكل هذه الآثار تدل على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر السياق في القرآن العظيم.