
أَيْ أَلَمْ تَكُنْ غَنِيًّا عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ الْمَحْسُوسِ. فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى فِي كَلَامِ عِيسَى مَا يَشْمَلُ الْإِيمَانَ وَفُرُوعَهُ. وَقِيلَ: نَهَاهُمْ عَنْ طَلَبِ الْمُعْجِزَاتِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَصَلَ إِيمَانُكُمْ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ. فَأَجَابُوهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا ذَلِكَ لِضَعْفٍ فِي إِيمَانِهِمْ إِنَّمَا أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِأَكْلِ طَعَامٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِكْرَامًا لَهُمْ، وَلِذَلِكَ زَادُوا مِنْها وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنْ نَأْكُلَ إِذْ لَيْسَ غَرَضُهُمْ مِنَ الْأَكْلِ دَفْعَ الْجُوعِ بَلِ الْغَرَضُ التَّشَرُّفُ بِأَكْلٍ مِنْ شَيْءٍ نَازِلٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا مِثْلُ أَكْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ ضَيْفُهُ فِي بَيْتِهِ حِينَ انْتَظَرُوهُ بِالْعَشَاءِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ جُزْءٌ مِنَ اللَّيْل، وَحضر أبوبكر وَغَضِبَ مِنْ تَرْكِهِمُ الطَّعَامَ، فَلَمَّا أَخَذُوا يَطْعَمُونَ جُعِلَ الطَّعَامُ يَرْبُو فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِزَوْجِهِ: مَا هَذَا يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ. وَحَمَلَ مِنَ الْغَدِ بَعْضَ ذَلِكَ الطَّعَامِ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أَيْ بِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْحِسِّيَّ أَظْهَرُ فِي النَّفْسِ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا، أَيْ نَعْلَمُ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَا عِلْمَ اسْتِدْلَالٍ
فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمَانِ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ، أَيْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَى رُؤْيَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَنُبَلِّغُهَا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا. فَهَذِهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ لِسُؤَالِ إِنْزَالِ الْمَائِدَةِ، كُلُّهَا دَرَجَاتٍ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي يَرْغَبُ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[١١٤، ١١٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ١١٤ إِلَى ١١٥]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الْمَائِدَة: ١١٢]

مِنَ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْقِيهِ اللَّهُ عَلَى عِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهِيَ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً إِلَخْ...
مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَة: ١١١] وَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: ١١٦] الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ [الْمَائِدَة: ١١٢] الْآيَةَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ اذْكُرْ كَانَتْ جُمْلَةُ: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا الْآيَةَ مُجَاوَبَةً لِقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [الْمَائِدَة: ١١٢] الْآيَةَ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً اشْتَمَلَ عَلَى نِدَاءَيْنِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: رَبَّنا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النِّدَاءِ. كَرَّرَ النِّدَاءَ مُبَالَغَةً فِي الضَّرَاعَةِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: رَبَّنا بَدَلًا وَلَا بَيَانًا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، لِأَنَّ نِدَاءَ اللَّهُمَّ لَا يُتْبَعُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ مِنْ أَجْلِ مَا لَحِقَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ حَتَّى صَارَ كَأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ أَجَازَ إِتْبَاعَهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ اعْتِبَارَهُ نِدَاءً ثَانِيًا أَبْلَغُ هُنَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاعَ نِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى رَبَّنا مَعَ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْخَوَاتِمِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَجَمَعَ عِيسَى بَيْنَ النِّدَاءِ بِاسْمِ الذَّاتِ الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَلِلْحَوَارِيِّينَ اسْتِعْطَافًا لِلَّهِ لِيُجِيبَ دُعَاءَهُمْ.
وَمَعْنَى تَكُونُ لَنا عِيداً أَيْ يَكُونُ تَذَكُّرُ نُزُولِهَا بِأَنْ يَجْعَلُوا الْيَوْمَ الْمُوَافِقَ يَوْمَ نُزُولِهَا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ عِيدًا، فَإِسْنَادُ الْكَوْنِ عِيدًا لِلْمَائِدَةِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، وَإِنَّمَا الْعِيدُ الْيَوْمُ الْمُوَافِقُ
لِيَوْمِ نُزُولِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا، أَيْ لِأَوَّلِ أُمَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَآخِرِهَا، وَهُمُ الَّذِينَ خُتِمَتْ بِهِمُ النَّصْرَانِيَّةُ عِنْدَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالْعِيدُ اسْمٌ لِيَوْمٍ يَعُودُ كُلَّ سَنَةٍ، ذِكْرَى لِنِعْمَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ لِلشُّكْرِ أَوْ لِلِاعْتِبَارِ.
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَأَشْهَرُ مَا كَانَتِ الْأَعْيَادُ فِي الْعَرَبِ عِنْدَ النَّصَارَى مِنْهُمْ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
كَمَا يَعُودُ الْعِيدَ نَصْرَانِيٌّ مثل يَوْمِ السَّبَاسِبِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةَ:
يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ وَهُوَ عِيدُ الشَّعَانِينَ عِنْدَ النَّصَارَى.
وَقَدْ سمّى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ عِيدًا فِي قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ لَمَّا نَهَى الْجَوَارِيَ اللَّاءِ كُنَّ يُغَنِّينَ عِنْدَ عَائِشَةَ «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا»
وَسَمَّى يَوْمَ النَّحْرِ عِيدًا
فِي قَوْلِهِ: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ».
وَالْعِيدُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، وَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ فِعْلٍ، فَجُعِلَتْ وَاوُهُ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ لَازِمَةٍ. وَجَمَعُوهُ عَلَى أَعْيَادٍ بِالْيَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْجَمْعِ أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، فَقِيَاسُ، جَمْعِهِ أَعْوَادٌ لَكِنَّهُمْ جَمَعُوهُ عَلَى أَعْيَادٍ، وَصَغَّرُوهُ عَلَى عُيَيْدٍ، تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمْعِ عُودٍ وَتَصْغِيرِهِ.
وَقَوْلُهُ: لِأَوَّلِنا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لَنا بَدَلُ بَعْضِ مِنْ كُلٍّ، وَعَطْفُ وَآخِرِنا عَلَيْهِ يُصِيِّرُ الْجَمِيعَ فِي قُوَّةِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وَقَدْ أَظْهَرَ لَامَ الْجَرِّ فِي الْبَدَلِ، وَشَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ الْعَامِلُ الَّذِي عَمِلَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِأَنَّ كَوْنَ الْبَدَلِ تَابِعًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي الْإِعْرَابِ مُنَافٍ لِذِكْرِ الْعَامِلِ الَّذِي عَمِلَ فِي الْمَتْبُوعِ، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تِكْرَارِ الْعَامِلِ، أَيِ الْعَامِلُ مَنْوِيٌّ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» أَنَّ عَامِلَ الْبَدَلِ قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَنْوِيٌّ فِي الْغَالِبِ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَوَامِلِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: ٣٣]، وَبِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٥] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا..
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بَدَلٌ مِنْ لَنا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ. وَجَوَّزَ الْبَدَلَ أَيْضًا فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
اللَّامَانِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامَيْنِ فِي قَوْلِكَ: وَهَبْتُ لَهُ ثَوْبًا لِقَمِيصِهِ. يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةً بِ تَكُونُ وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِ عِيداً.

وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَا بَلَغْتُ إِلَيْهِ مِنْ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ فَتَحَصَّلَ عِنْدِي أَنَّ الْعَامِلَ الْأَصِيلَ مِنْ فِعْلٍ وَشَبَهِهِ لَا يَتَكَرَّرُ مَعَ الْبَدَلِ، وَأَمَّا الْعَامِلُ التَّكْمِيلِيُّ لِعَامِلِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ حَرْفُ الْجَرِّ خَاصَّةً فَهُوَ الَّذِي وَرَدَ تَكْرِيرُهُ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٥]، وَآيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ [الْأَنْعَام: ٩٩]. ذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ مُكَمِّلٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ هُوَ بِهِ لِأَنَّهُ يُعَدِّي الْفِعْلَ الْقَاصِرَ إِلَى مَفْعُولِهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِمَعْنَى مَصْدَرِهِ، فَحَرْفُ الْجَرِّ لَيْسَ بِعَامِلٍ قَوِيٍّ وَلَكِنَّهُ مُكَمِّلٌ لِلْعَامِلِ الْمُتَعَلِّقِ هُوَ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَتَطَلَّبَ الدَّاعِيَ إِلَى إِظْهَارِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْبَدَلِ فِي مَوَاقِعِ ظُهُورِهِ.
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ يَعِيشَ فِي «شَرْحِ الْمُفَصَّلِ» ذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ قَالَ: «لِأَنَّ الْحَرْفَ قَدْ يَتَكَرَّرُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ». وَهَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ لَنَا لِأَنَّ التَّأْكِيدَ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَيْهِ.
فَمَا أَظْهَرَ فِيهِ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَ مُقْتَضَى إِظْهَارِهِ إِمَّا قَصْدُ تَصْوِيرِ الْحَالَةِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، وَإِمَّا دَفْعُ اللَّبْسِ، وَذَلِكَ فِي خُصُوصِ آيَةِ الْأَعْرَافِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ «مَنْ آمَنَ» مِنَ الْمَقُولِ وَأَنَّ «مَنْ» اسْتِفْهَامٌ فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْقَوْمِ، وَمَعْنَى التَّأْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِإِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَامِلٍ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ وَقَدِ الْتَزَمَ ظُهُورَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْبَدَلِ مِنِ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوَ: أَيْنَ تَنْزِلُ أَفِي الدَّارِ أَمْ فِي الْحَائِطِ، وَمَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ.
وَهَذَا الْعِيدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَكَلَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ عَلَى مَائِدَةِ لَيْلَةِ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ صُلِبَ مِنْ صَبَاحِهَا. فَلَعَلَّ مَعْنَى كَوْنِهَا عِيدًا أَنَّهَا صُيِّرَتْ يَوْمَ الْفِصْحِ عِيدًا فِي الْمَسِيحِيَّةِ كَمَا كَانَ عِيدًا فِي الْيَهُودِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْ صَارَ عِيدًا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ وَاحِدًا لِأَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ وَفَّقُوا لِأَعْيَادِ الْيَهُودِ مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى لَائِقَةً بِالْمَسِيحِيَّةِ إِعْفَاءً عَلَى آثَارِ الْيَهُودِيَّةِ.

وَجُمْلَةُ قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها جَوَابُ دُعَاءِ عِيسَى، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. وأكّد الْخَبَر بإن تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ. وَالْمَعْنَى إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمُ الْآنَ، فَهُوَ
اسْتِجَابَةٌ وَلَيْسَ بِوَعْدٍ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ تَفْرِيعٌ عَنْ إِجَابَةِ رَغْبَتِهِمْ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ إِعْلَامًا بِأَهَمِّيَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَجُعِلَ جَزَاءُ إِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى الْكُفْرِ فَإِنْ عَادُوا عُذِّبُوا عَذَابًا أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ سَائِرِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ تَعَاضَدَ لَدَيْهِمْ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ لَا أُعَذِّبُهُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ الْعَذَابَ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
وَقَدْ وَقَفَتْ قِصَّةُ سُؤَالِ الْمَائِدَةِ عِنْدَ هَذَا الْمِقْدَارِ وَطُوِيَ خَبَرُ مَاذَا حَدَثَ بَعْدَ نُزُولِهَا لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ بِحَالِ إِيمَانِ الْحَوَارِيِّينَ وَتَعَلُّقِهِمْ بِمَا يَزِيدُهُمْ يَقِينًا، وَبِقُرْبِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ وَتَحْصِيلِ مَرْتَبَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَعَلَى ضَرَاعَةِ الْمَسِيحِ الدَّالَّةِ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَعَلَى كَرَامَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ إِذْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ، وَعَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَا حَوَتْهُ الْمَائِدَةُ وَمَا دَارَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ. وَقَدْ أَكْثَرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ بِأَخْبَارٍ وَاهِيَةِ الْأَسَانِيدِ سِوَى مَا
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى عمّار بن يسَار قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا»
الْحَدِيثَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ وَلَا نَعْلَمُ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَصْلًا.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْمَائِدَةَ هَلْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ لَمْ تَنْزِلْ. فَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ الْآيَةَ خَافُوا فَاسْتَعَفُّوا مِنْ طَلَبِ نُزُولِهَا فَلَمْ تَنْزِلْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَتْ. وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وَعْدٌ لَا يُخْلَفُ، وَلَيْسَ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهُ مُعَقَّبٌ بِتَحْذِيرٍ مِنَ