
وقوله - تعالى - (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) ونحوه، أنه وحي إلهام وقذف لا وحي إرسال، والقذف في القلب من غير تكلف ولا كسب، وهو الإخطار بالقلب على السرعة (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي).
والخطر يكون من اللَّه تعالى، ويكون من الشيطان، لكن ما يكون من اللَّه تعالى يكون خيرًا، يتبين ذلك في آخره.
وقوله - عَزَّ وجل -: (قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) يحتمل وجهين:
يحتمل: أن قالوا لعيسى: واشهد أنت عند ربك بأننا مسلمون.
ويحتمل: أن سألوا ربهم: أن يكتبهم من الشاهدين؛ كقوله - تعالى -: (آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ... (١١٢)
اختلف فيه:
قيل: إن قومًا من غير الحواريين سألوا الحواريين أن يسألوا عيسى - عليه السلام - حتى يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ لأن الحواريين قد قلنا: إنهم كانوا خواص عيسى - عليه السلام - فكان كمن بدت له حاجة إلى بعض الملوك؛ فإنه إنما يرفع أولا إلى خواصه؛ فهم الذين يتولون رفعها إلى الملك؛ فعلى ذلك رفعوا حاجتهم إلى الحواريين؛ ليسألوا هم نبي اللَّه عيسى - عليه السلام - ليسأل ربه.
وقال آخرون: لم يسألوا قومهم ذلك؛ ولكن الحواريين هم الذين سألوا عيسى - عليه السلام - أن يسأل ربه حتى ينزل عليهم مائدة من السماء، لكن سؤالهم ذلك يحتمل وجوها:
الأول: يحتمل سألوا ذلك؛ لما أرادوا أن يشاهدوا الآية، ولم يكونوا شاهدوا قبل ذلك؛ فأحبوا أن يشاهدوها، وإن كانوا قد آمنوا به وصدقوه من قبل؛ ليزداد لهم بذلك طمأنينة ويقينًا، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، لما يحتمل أن نفسه كانت تحدث وتنازع في ذلك، وأحب أن يعاين ذلك ويشاهده؛ ليزداد له طمأنينة ويقينًا؛ فعلى ذلك أُولَئِكَ

كانت أنفسهم تحدث وتنازع في مشاهدة الآيات؛ فأحبوا أن يريهم بذلك؛ ليزداد لهم - طمأنينة ويقينًا وصلابة في التصديق، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أن يكون عيسى يخبرهم أن لهم كرامة ومنزلة عند اللَّه؛ فأحبوا أن يعرفوا منزلتهم عند اللَّه وكرامتهم.
والثالث: سألوا ذلك؛ ليعرفوا منزلة عيسى - عليه السلام - عند اللَّه وكرامته: هل يجيب ربه دعاءه إذا سأل ربه؟ واللَّه أعلم.
وإن كان السؤال من قوم غير الحواريين؛ فهو لما بدت لهم من الحاجة إليها، ولا نعلم ذلك إلا بالخبر الصادق.
وقوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) يقرأ بالياء والتاء جميعًا:
فمن قرأ بالتاء ذهب في التأويل إلى أن فيه إضمارًا؛ كأنهم قالوا: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء.
ومن قرأ بالياء قال: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)، أي: هل يجيب ربُّك دعاءك إذا دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء.
قال الفراء: قد يكون مثل هذا السؤال على غير الجهل من السائل بالمسئول؛ لأنه يجوز أن يقال في الكلام: هل يستطيع فلان أن يقوم في حاجتنا وفي أمرنا، على علم منه أنه يستطيع، ولكنه يسأل عنه: أيفعل أم لا؟ وذلك جائز في العربية؛ ألا ترى أن قراءة من قرأ بالتاء - وهو ابن عَبَّاسٍ وعائشة: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) - على علم منهم أن عيسى يستطيع السؤال لربه؟! لكنهم قالوا ذلك لما ذكرنا، وذلك جائز في اللغة.
ويجوز أن يراد بالاستطاعة: الإرادة، يقول الرجل لآخر: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان، وهو يقدر النظر، لكنه يريد بذلك: لا أريد أن أنظر إليه؛ فعلى ذلك قوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ): هل يأذن لك ربُّك بالسؤال في ذلك، واللَّه أعلم.