آيات من القرآن الكريم

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ

إنزال المائدة على بني إسرائيل بطلب الحواريين
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
الإعراب
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرئ بالتّاء والنّصب، والتقدير فيه: هل تستطيع سؤال ربّك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [يوسف ١٢/ ٨٢] أي: أهل القرية وأهل العير.
عَلَيْها في موضع الحال.
لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لَنا بتكرار العامل.
المفردات اللغوية:
الْحَوارِيُّونَ أصحاب المسيح الخلّص. يَسْتَطِيعُ يفعل ويرضى ويجيبك إن سألته.
مائِدَةً المائدة: هي الخوان إذا كان عليه الطّعام. قال لهم عيسى. تَطْمَئِنَّ تسكن قلوبنا بزيادة اليقين. وَنَعْلَمَ نزداد علما. صَدَقْتَنا في ادّعاء النّبوة. اللَّهُمَّ أي يا الله. عِيداً يوما نفرح به ونعظّمه ونشرّفه. وَآيَةً مِنْكَ دليلا آخر أو علامة على قدرتك ونبوّتي.

صفحة رقم 114

المناسبة:
هذه قصة المائدة التي لا يعرفها النصارى إلا من القرآن، وهي نعمة تاسعة ومعجزة بعد النّعم الثماني المتقدّمة، إذ تمّ إنزال المائدة بطلب عيسى عليه السّلام، علامة على قدرة الله وتصديق الناس بنبوّته، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد وقت قول الحواريين أصحاب عيسى المخلصين إذ قالوا لعيسى:
هل يفعل ربّك ويرضى أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء.
والمقصود بكلمة الاستطاعة، مع أن الطلب صادر من الحواريين وهم مؤمنون يعلمون أن الله قادر على كلّ شيء: أنه هل يفعل ذلك، وهل يجيبك إلى مطلبك أو لا؟ فأرادوا علم المعاينة والمشاهدة والاطمئنان بعد توافر الاعتقاد والعلم بقدرة الله تعالى، كما قال إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة ٢/ ٢٦٠]، لأن علم النّظر والخبر قد تدخله الشّبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة المحسوس لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا كما قال إبراهيم: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «١» [البقرة ٢/ ٢٦٠] قال السّدّي: هل يستطيع ربّك أي هل يطيعك ربّك إن سألته، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع، والسّين زائدة «٢».
وقال الطّبري: الأولى في المعنى عندي بالصّواب: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه «٣».

(١) تفسير القرطبي: ٦/ ٣٦٥
(٢) تفسير الرازي: ١٢/ ١٢٩
(٣) تفسير الطّبري: ٧/ ٨٤

صفحة رقم 115

وقال بعضهم: في الآية محذوف على قراءة: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ وتقديره: هل تستطيع سؤال ربّك؟ فأجابهم عيسى: اتّقوا الله أن تطلبوا مثل هذا الطلب الذي يشبه ما طلبه الإسرائيليون من موسى عليه السّلام، إن كنتم مؤمنين أي إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة.
قالوا معتذرين عن سؤالهم: نريد أن نأكل منها فنحن بحاجة إلى الطّعام، وتزداد قلوبنا اطمئنانا ويقينا بقدرة الله وبصدق نبوّتك لأن علم الحسّ والمشاهدة أقوى دلالة على المطلوب من العلم النظري القائم على التسليم بالبراهين، ونكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية وبكمال القدرة، ولك بالنّبوة، فيكون ذلك سببا للإيمان أو ازدياد الإيمان.
وإنما سأل عيسى وأجيب، ليلزموا الحجّة بكمالها، ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا.
قال عيسى: يا ربّنا المالك أمرنا والمتولّي شؤوننا، أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء، وتكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها عيدا، قيل: هو يوم الأحد، ومن ثم اتّخذه النّصارى عيدا.
لأوّلنا وآخرنا، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا. وآية منك، أي علامة من لدنك تدلّ على كمال قدرتك وصدق نبوّتي.
وارزقنا منها ومن غيرها رزقا طيّبا نغذي به أجسامنا، وأنت خير الرّازقين، أي خير من أعطى ورزق لأنك الغني الحميد، الذي ترزق من تشاء بغير حساب. ويلاحظ أن عيسى أخّر بدعائه طلب فائدة المائدة عن طلب الفائدة الدّينية والاجتماعية، بعكس ما طلب الحواريون إذ قدّموا الأكل على غيره.

صفحة رقم 116

قالَ اللَّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرّة أو مرارا، ووعده الحقّ وقوله الصدق، وقد نزلت.
لكن هذا الوعد مقرون بالجزاء حين المخالفة: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ..
أي من يكفر بالله بعد نزول هذه المائدة، فإني أعذّبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين: عالمي زمانهم لأنه لم يبق بعد هذا الدّليل الحسي عذر لمن يكفر أو يستهزئ بآيات الله وأدلّته الدّالة على وجوده وقدرته.
أما الطّعام فقيل: إنه خبز ولحم، أو خبز وسمك، قال الطّبري: والصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا، وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به «١».
جاء في حديث ذكره السّيوطي: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد، فخانوا وادّخروا، فمسخوا قردة وخنازير،
فقه الحياة أو الأحكام:
قصة المائدة نعمة تاسعة من النّعم التي عدّدها الله وامتنّ بها على عيسى عليه السّلام وقومه، والذي عليه الجمهور وهو الحق: أنها نزلت فعلا، لقوله تعالى: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قيل: إنها نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية، فجعلوا الأحد عيدا.
وهي آية بيّنة على قدرة الله، وعلى إجابته دعاء المخلص من عباده، وعلى صدق نبوة عيسى، وأنه عبد لله ورسوله لأنه لو كان إلها لما كان بحاجة أن يطلب شيئا من أحد، فالدّعاء إلى الله منه، وإجابة الدّعاء من ربّه دليل آخر

(١) تفسير الطّبري: ٧/ ٨٨

صفحة رقم 117

على عبوديّته وبشريّته وفقره وحاجته إلى الله، وليعلم النّصارى بطلان قولهم وادّعائهم التّالية.
والذي دفع الحواريين إلى سؤال إنزال المائدة أربعة أسباب:
١- الحاجة الدّاعية إلى الأكل منها، لأن عيسى عليه السّلام كان إذا خرج اتّبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة، ولم يكن معهم نفقة، فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: قل لهم: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأخبر بذلك شمعون القوم، فقالوا له: قل له: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها الآية.
وقال الماوردي: نأكل منها، أي ننال بركتها، لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا إلى الطعام لم ينهوا عن السؤال.
٢- اطمئنان القلب إلى أن الله تعالى بعث عيسى إليها نبيّا.
٣- العلم بأن عيسى رسول الله، أي ازدياد الإيمان بك وعلما برسالتك.
٤- الشهادة أنها آية من عند الله، ودلالة وحجّة على نبوّتك، وصدق ما جئت به. وبالرّغم من إنزال المائدة السّماوية، وامتنان الله على النّصارى بها، فإنّهم جحدوا تلك النّعمة وكفروا بعد نزولها، فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر: إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.

صفحة رقم 118
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية