
في «إذ» وجهان:
أحدهما: أوحيتُ إلى الحواريِّين، إذ قال الحَوَارِيُّونَ.
الثاني: اذكر إذْ قال الحوارِيُّون.
قرأ الجمهورُ «يَسْتَطِيعُ» بياء الغيبة «رَبُّكَ» مرفوعاً بالفاعلية، والكسائيُّ: «تَسْتَطِيعُ» بتاء الخطاب لعيسى، و «رَبَّكَ» بالنصب على التعظيم، وقاعدتُه أنه يُدْغِمُ لام «هلْ» [في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائيِّ قرأتْ عائشةُ، وكانت تقول: «الحواريُّونَ أعْرَفُ بالله] مِنْ أن يقولوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» وإنما قالوا: هَلْ تستطيعُ أن تَسْأل رَبَّكَ؛ كأنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - نَزهَتْهُمْ عن هذه المقالةِ الشنيعة أنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذٌ أيضاً وعليٌّ وابن عبَّاس وسعيدُ بنُ جُبَيْر قال معاذ رضي الله تعالى عنه: أقرأنِي رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هل تَسْتَطِيعُ رَبكَ» بالتَّاء.
وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أم لا؟ فجمهور المُعْربين يقدِّرونَ: هل تستطيع سُؤال رَبِّكَ، وقال الفارسيُّ: «وقد يُمْكِنُ أنْ يُسْتغنَى عن تقدير» سُؤالَ «على أن يكون المعنى: هَلْ تستطيعُ أنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بدُعَائِكَ، فيردُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدلُّ عليه ما ذُكِر من اللفظ»، قال أبو حيان: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ فعله تعالى، وإنْ كان مسبَّباً عن الدعاءِ، فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى». واختار أبو عُبَيْد هذه القراءةَ، قال: «لأنَّ القراءة الأخرى تُشْبِهُ أن يكونَ الحواريُّون شَاكِّينَ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك»، قال شهاب الدين: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمِنينَ، وهذا هو الحَقُّ.
قال ابن الأنباري: «لا يجوزُ لأحد أن يتوَهَّم على الحواريِّين؛ أنهم شَكُّوا في قُدْرة الله تعالى»، وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشريِّ أنهم ليسوا مؤمنينَ ليس بجيِّدٍ، وكأنه خارقٌ للإجْماعِ، قال ابن عطية: «ولا خلاف أحفظُه أنَّهم كانوا مُؤمِنِينَ»، فأمَّا القراءةُ الأولى، فلا تَدُلُّ له؛ لأن الناس أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ، منها: أنَّ معناه: هل يَسْهُلُ عليكَ أن تَسْألَ رَبَّكَ؛ كقولك لآخر: هَلْ تستطيعُ أن تَقُومَ؟ وأنت تعلمُ استطاعته لذلك، ومنها: أنهم سألُوهُ سؤال مستَخْبِرٍ: هل يُنَزِّلُ أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا، ومنها: أنَّ المعنى هل يفعلُ ذلك، وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زَيْدٍ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيني كيف كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَتَوضَّأُ؟ أي: هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل المعنى: هل يَطْلُب ربُّكَ الطاعةَ من نُزُولِ المائدةِ؟ قال أبو شَامَة: «مثلُ ذلك في الإشْكال ما رواه الهَيْثَمُ -

وإن كان ضعيفاً - عن ثابتٍ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -
«أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عادَ أبا طالبٍ في مرض، فقال: يَا ابْنَ أخِي، ادعُ رَبَّكَ الذي تَعْبُدُهُ فَيُعَافيني، فقال: اللهُمَّ اشْفِ عَمِّي، فقام أبو طالبٍ، كأنما نَشِطَ من عقالٍ، فقال: يا ابْنَ أخِي، إنَّ ربَّكَ الذي تَعْبُدُ ليُطِيعُكَ، قال: وأنْتَ يا عَمَّاه، لو أطَعْتَهُ، أو: لَئِنْ أطَعْتَ اللَّهَ، لَيُطِيعَنَّكَ»، أي: لَيجيبَنَّكَ إلى مقْصُودك، قال شهاب الدين: والذي حَسَّنَ ذلك المقابلةُ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للفْظِ عَمِّهِ، كقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] وقيل: التقدير: هَلْ يُطِيعُ؟ فالسينُ زائدة؛ كقولهم: اسْتَجَابَ وأجَابَ، قال: [الطويل]
٢٠٨٦ - وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى | فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ |
٢٠٨٧ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ | كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغ فِي رَمَادِ |
قال ابنُ الخطيبِ: وأمَّا القراءَةُ الثَّانِيَةُ ففيها إشْكَالٌ، وهو أنَّهُ تعالى حَكَى عنهُم أنَّهم قالُوا: «آمنَّا واشهدْ بأنَّا مُسْلمُون»، وبعد الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أن يقال: إنهم بقوا شاكِّين في اقتدار اللَّهِ على ذلك؟.
والجوابُ عنه من وُجُوهٍ:
الأول: أنَّهُ - تبارك وتعالى - ما وَصَفَهُم بالإيمان والإسلام بل حَكَى عنهم ادِّعَاءَهم لَهُمَا، ثمَّ تَبعَ ذلك بقوله - حِكَايةً عَنْهُم - ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾ ؟ فدلَّ ذلك على أنَّهُم كَانُوا شاكِّين مُتَوقِّفِين، فإنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَصْدُر مِمَّنْ كان كَامِلاً في الإيمان.
وقالوا: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: ١١٣]، وهذا يَدُلُّ على مَرَضٍ في القَلْب، وكذا قَوْلُ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهم: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، يَدُلُّ على أنَّهُم ما كانوا كامِلِين في الإيمان. صفحة رقم 605

الثاني: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين إلاَّ أنَّهُم طَلَبُوا هذه الآية لِيحْصُلَ لهم مَزِيد الطمأنينة، فلهذا السَّبِب قالوا: «وتَطْمئنَّ قُلُوبنا».
الثالث: أنَّ مُرادَهُمُ استفهام أن ذلك هل هو كافٍ في الحِكْمةِ أم لا؟ وذلك لأنَّ أفْعَال اللَّهِ تعالى لمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً على رِعايَةِ وجُوهِ الحكمة، فَفِي الموْضِع الَّذِي لا يَحْصُل فيه شَيْءٌ من وُجُوهِ الحِكْمَةِ يكونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعاً، فإنَّ المُنَافيَ من جِهَةِ الحكمة كالمنافي جِهَة القُدْرَةِ، وهذا الجوابُ يَتَمَشَّى على قَوْلِ المُعْتَزِلَة.
وأمَّا على قَوْلِنا فهو مَحْمُولٌ على أنَّه تَبارك وتعالى هل قَضَى بذلك؟ وهل عَلِمَ وُقُوعه؟ فإن لَمْ يَقْضِ به، ولَمْ يعلم وُقُوعه كان ذلك محالاً غيْرَ مَقْدُورٍ؛ لأن خلافَ المَعْلُوم غَيْرُ مَقْدُورٍ.
الرابع: قال السديُّ: إن السِّين زَائِدةٌ، على أنَّ اسْتَطَاع بمعنى أطاعَ كما تقدَّم.
الخامس: لعل المُرادَ بالرَّبِّ جِبْرِيل؛ لأنَّهُ كان يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بأنْوَاع الإعَانَةِ، لقوله - تبارك وتعالى - في أوَّلِ الآية ﴿أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس﴾ [المائدة: ١١٠]، والمعنى: أنَّك تَدَّعِي أنه يُرَبِّيك، ويَخُصُّكَ بأنْوَاع الكَرَامَةِ، فهل يقدر على إنْزَالِ مَائِدَةٍ من السَّمَاءِ عَلَيْك؟.
السادس: ليْسَ المَقْصُود من هذا السُّؤال كونَهُم شاكِّين فيه، بل المَقْصُود تَقْرِير أن ذلك في غاية الظُّهُور، كمن يَأخُذُ بِيَدِ ضعيفٍ، ويقول: هل يَقْدِر السُّلْطَان على إشْبَاع هذا، وبكون غَرَضُه أنَّ ذلكَ أمْرق واضِحٌ لا يجُوزُ للعَاقِل أن يَشُكَّ فيه.
قوله «أن يُنَزِّلَ» في قراءةِ الجماعة في محلِّ نصب مفعولاً به، أي: الإنْزالَ، وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والتقدير: على أن يُنَزِّلَ، أو في أن يُنَزِّلَ، ويجوزُ ألاَّ يحتاج إلى حرف جرٍّ على أن يكون «يَسْتَطِيع» بمعنى «يُطِيقُ» [قلت: إنما احتاج إلى تقدير حَرْفي الجَرِّ في الأول؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة، وأمَّا قوله أخيراً: إنَّ «يَسْتَطيعُ» بمعنى «يُطِيقُ» ] فإنما يَظْهرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشريِّ من كونهم ليسوا بمؤمنين، وأمَّا على قراءةِ الكسائيِّ، فقالوا: هي في محلِّ نصْبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر، أي: هلْ تستطيعُ أنت أن تسألَ ربَّكَ الإنْزالَ، فيكون المصدرُ المقدَّرُ مضافاً لمفعوله الأوَّل، وهو «رَبُّكَ»، فلمَّا حُذِفَ المصدرُ، انتصب، وفيه نظرٌ؛ من أنهم أعمَلُوا المصدر مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين، يُؤوِّلُونَ ما وردَ ظاهرُه ذلك، ويجوز أن يكون «أنْ يُنَزِّلَ» بدلاً من «رَبُّكَ» بدل اشتمالٍ، والتقديرُ: هل تستطيعُ، أي: هل تُطِيقُ إنزال الله تعالى مائدةً بسببِ دعائِكَ؟ وهو وجهٌ حسن.
و «مَائِدَةً» مفعول «يُنَزِّلُ»، والمائدة: الخِوانُ عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ

فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال: «والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعامٌ، ويقال لكلِّ واحدٍ منها مائدةٌ»، وهو مخالفٌ لما عليه المعظمُ، وهذه المسألة لها نظائرُ في اللغة، لا يقال للخوانِ مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ، وإلا فهو خوانٌ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ، وإلا فهي قدحٌ، ولا يقال ذنُوبٌ وسَجْلٌ إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جرابٌ إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهابٌ، ولا قَلَمٌ إلاَّ وهو مَبْريٌّ وإلا فهو أنْبُوبٌ، واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الزجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «هي من مَادَ يَمِيدُ إذا تحرَّك، ومنه قوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٣١] ومنه: مَيْدُ البَحْرِ»، وهو ما يُصِيبُ راكبَه، فكأنها تميدُ بما عليها من الطعام.
وقال أهلُ الكوفة: لأنها تميدُ بالآكِلِينَ، قال الزجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «وهي فاعِلةٌ على الأصلِ»، وقال أبو عُبَيْدٍ: «هي فَاعِلَةٌ بمعنى مفعُولَة مشتقَّةٌ من مادهُ بمعنى أعْطَاهُ، وامتادَهُ بمعنى اسْتَعْطَاهُ، فهي بمعنى مَفْعُولَة»، قال: «كَعِيشَةٍ راضيةٍ» وأصلُها أنها ميدَ بها صاحبُها، أي: أعْطِيَهَا، والعربُ تقول: مَادَنِي فلانٌ يَمِيدُنِي، إذا أدَّى إليَّ وأعْطَانِي «وقال أبو بَكْرِ بنُ الأنباريِّ:» سُمِّيتْ مائدةً؛ لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قول العرب: مَادَ فلانٌ فُلاناً إذا أحْسَنَ إلَيْه «وأنشد: [السريع]
٢٠٨٨ - إلى أميرِ المُؤمِنِينَ المُمْتَادْ... أي: المُحْسنِ لرعيَّته، وهي فاعلةٌ من المَيْدِ بمعنى مُعْطِيَةٍ، فهو قريبٌ من قولِ أبِي عُبَيْدٍ في الاشتقاقِ، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعلةٍ على بابها، وابنُ قتيبة وافق أبا عُبَيْدٍ في كونها بمعنى مَفْعُولَة، قال:» لأنَّها يُمَادُ بها الآكلُونَ أي يُعْطَوْنَهَا «، وقيل: هي من المَيْدِ، وهو الميلُ، وهذا هو معنى قول الزجَّاج. قوله تعالى:» مِنَ السَّماءِ «يجوز أنْ يتعلَّق بالفعلِ قبله، وأنْ يتعلَّق بمحذوف؛ على أنه صفةٌ ل» مَائِدَة «، أي: مائدةً كَائِنَةً من السَّماءِ، أي: نازلةً منها.
قوله تعالى: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ : فلا تَشكُّوا في قُدْرَة الله - تعالى -.
وقيل: اتَّقُوا الله أن تَسْألُوه شَيْئاً لَمْ تسْأله الأمَمُ السَّابِقَة من قَبْلِكُم، فَنَهَاهم عن اقْتِراحِ الآيَات بَعْدَ الإيمان.
وقيل: أمَرَهُمْ بالتَّقْوى سَبَباً لِحُصُول هذا المَطْلُوب، كقوله - تبارك وتعالى -: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهُ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: ٣٥].