آيات من القرآن الكريم

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢﰣ

قتلك إذا دلهم عليك صاحبك المنافق وجاء بهم عليك ليقتلوك فمنعتهم أن يصلوا إليك ورفعتك إلى السّماء وألقيت شبهك على ذلك المنافق فقتلوه بذلك جزاء وفاقا لجرمه، هذا في الدّنيا وصلبوه إهانة له، وسيكون جزاؤه في الآخرة أشدّ وأفظع، ثم رفعتك إلى السّماء وأقمتك فيها لانتهاء مدتك الأولى في الأرض، راجع الآية ٥٤ من سورة آل عمران المارة، وما كانت عداوة بني إسرائيل معك «إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ» العجيبة والآيات الباهرة الغريبة المثبتة لصدقك فكفروا بها حسدا وعدوانا وتمسكا بتقاليدهم لبقاء الرّياسة لهم «فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» بتلك الآيات «إِنْ هذا» الذي جئت به ليس بحقيقة وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (١١٠) وذلك أن الله تعالى طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم فلم يميزوا بين الحقيقة والخيال عنادا وعتوا، تنبه هذه الآية تدل على قبح من يقول بإلهية عيسى، لأنه من جملة عباد الله، وأن ما فعله من المعجزات كان بفعل الله وإقداره عليها، وتدل على أنه كان عبد الله ورسولا له، ليس إله، ولا ابنا للإله، وأن أمه كسائر النساء، وإنما اختصها بما يكرمها ويفضلها على غيرها. وتشير إلى أن ما نسب إلى عيسى جرم عظيم لا يوازيه جرم من كذّب الرّسل فقط، لأن تكذيبهم طعن فيهم، وهذا طعن في الله تعالى لو صمه باتخاذ الولد والزوجة والشّريك تبرأ عن ذلك وتنزه.
واذكر لقومك يا حبيبي قصة أخرى مما يتعلق بعيسى أيضا وهي «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ» أصحاب عيسى فالهمتهم وقذفت في قلوبهم «أَنْ آمِنُوا بِي» أنا الله ربكم ومالك أمركم «وَبِرَسُولِي» عيسى كما آمن الّذين من قبلكم بأنبيائي «قالُوا آمَنَّا» استجابة لما ألقيته في روعهم، ثم قالوا معلنين تمكين إيمانهم يا ربنا «وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (١١١) لك منقادون إلى عظمتك والحواري الصّفي والخاصّة والوزير والأمين والخليفة، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب النّبي صلّى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير بن العوام رضي الله عنه أي صفيه وخاصته، وقد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأنه يقتل، فقال بشر قاتل الزبير بالنار، وقتل رضي الله عنه في حادثة الجمل قبل البصرة ودفن هناك، وقبره يزار بالتعظيم والإجلال حتى الآن، وقد

صفحة رقم 392

تشرفت بزيارته رضي الله عنه، وسميت البلدة التي دفن بها باسمه، وهذا أيضا من معجزات سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب الذي أطلعه الله عليه. واذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ» خوانا عليه طعام إذ لا يسمى الخوان مائدة إلّا وعليه الطّعام، وإلّا فهو خوان أو سفرة أو طبق أو طاولة «قالَ» عيسى عليه السّلام «اتَّقُوا اللَّهَ» يا قوم في سؤالكم هذا، لأنه اقتراح على الله، وقد علمتم ما فعل الله بالمقترحين عليه، لأن طلبكم هذا بعد ظهور المعجزات المذكورة، وبعد وجودي أنا من غير أب، وهو أكبر معجزة عبارة عن تعنّت يستوجب غضب الرّب عليكم، فانتهوا عن هذا يا أصحابي وتدبروا العاقبة وخذوا عبرة من الّذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات كيف فعل الله بهم، فأعرضوا عن هذا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (١١٢) بالله وإياكم أن تركنوا إليه، واعلموا أنكم إذا أصررتم على هذا تكونون ممن يشك بقدرة الله القادر على إجابة طلبكم. وإنما خوفهم وحذرهم لأن هذا لم يسأله أحد من الأمم قبلهم، وانه مما تخشى عاقبته، لأن قوم صالح اقترحوا على نبيهم شيئا لم يقترحه أحد قبلهم، فكانت عاقبتهم الدمار، قال بعض المفسرين إن طلبهم هذا جاء على حد قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السّلام (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية ٢٦٣ من البقرة المارة، لأنهم كانوا عارفين بالله مقرين بكمال قدرته على أنه لا مانع من إجراء الآية على ظاهرها كما يؤيده قوله تعالى «قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» حيث لحقنا الجوع والحال ليس بهم من جوع ولكن يريدون معرفة حق اليقين بعد أن علموا من نبيهم علم اليقين، ومما يدل على عدم وجود الجوع أمرهم بالصيام كما سيأتي «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» بقدرة الله فنزداد يقينا «وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» عيانا ومشاهدة كما علمناه غيبا واستدلالا «وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ» (١١٣) لمن وراءنا من بني إسرائيل ولله بكمال القدرة ولك بالقرب من ربك أكثر ممن تقدمك من الرّسل ولأنفسنا بالتصديق البالغ، فلما رأى إصرارهم وإجماع كلمتهم على ذلك أمرهم عليه السّلام بصيام ثلاثين يوما وقال لهم إذا أفطرتم بعدها فلا تسألوا الله شيئا إلّا أعطاكم إياه، ففعلوا.

صفحة رقم 393

مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السّلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:
وعند ذلك «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً» نتخذه من عوائد برك وإحسانك وجودك وكرمك خاصّا «لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» ممن يأتي بعدنا عاما «وَآيَةً مِنْكَ» لنا دالة على كمال عظمتك وبالغ قدرتك وتصديقا لنبيك «وَارْزُقْنا» هذه المائدة وألهمنا الشكر عليها «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (١١٤) لأنك ترزق بغير حساب وتعطي بغير مسألة، فاستجاب الله تعالى له حالا بدلالة عدم وجود العطف على دعائه، بما يدل على عدم التراخي، إذ «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» قالوا نزلت يوم الأحد، واتخذه النّصارى عيدا بدل السّبت من ذلك اليوم «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ» إنزال هذه المائدة ومشاهدتها والأكل منها «مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (١١٥) قبلكم ولا بعدكم لأنه آية حسيّة ملموسة لا يمكن أن يقال إنها سحر أو غيره، ولأنها وقعت عن اقتراح، وقد جرت عادة الله بتعذيب المقترحين إذا لم يؤمنوا تعذيب استئصال، قالوا فجحدها جماعة من بني إسرائيل وكفروا بها فمسخوا خنازير، خزيا لهم وهوانا، وهو عذابهم الدّنيوي والعذاب الأخروي مخبوء لهم، وهو أشد وأفظع خزيا ومهانة، فكانت وبالا على المنكرين، وفاز من صدق بصحبة نبيه، ونجا مما حل بهم. ولا وجه لقول من قال إن المائدة لم تنزل، لأن الله تعالى قال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي إن أردتم لأن قول الله هذا من قبيل الوعد وهو لا يخلف الميعاد، والذي ينكر هذه ينكر نتق الجبل على بني إسرائيل أيضا، لأنه كان معلقا على قبولهم الأخذ بالتوراة أخرج الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال صلّى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السّماء خبزا ولحما، وأمروا ألّا يخونوا ولا يدخروا، ولقد خانوا وادخروا ورفعوا للغد، فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد الله بن عمر: إن أشد النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون أي لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الآية ١٤٠ من النّساء المارة، وقوله في آل فرعون

صفحة رقم 394

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية ٤٧ من سورة المؤمن ج ٢، ولقوله في أصحاب المائدة (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الآية المارة، قال ابن عباس نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فلما رأوها لا تشبه موائدهم قال شمعون أكبر الحواريين أمن طعام الدّنيا يا روح الله؟ قال لا من طعام الدّنيا ولا من الجنّة، ولكنه شيء اخترعه الله لكم، فكارا مما سألتم واشكروا الله يزدكم، قالوا كن أول من يأكل، قال إنما يأكلها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا إليها أهل الفاقة والمرض، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وهي بحالها ثم طارت وهم ينظرون إليها حتى توارت صعودا، قال الكلبي ومقاتل أنزل الله سمكة وخمسة أرغف فأكلوا منها ما شاء الله، فلما نشروا الخبر ضحك من لم يشهدها وقالوا سحركم، فمن أراد الله به خيرا ثبّته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا، قالوا وليس فيهم صبي ولا امرأة، وبعد ثلاثة أيّام هلكوا، وكذلك كلّ ممسوخ، قالوا والسّبب في تسميتهم حواريين إنهم كانوا قصارين أي صباغين، وان مريم عليها السّلام كانت وضعت عيسى عند رئيسهم ليتعلم منه، وكان عرض له سفر فقال يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الصّنعة وهذه ثياب قد علمت عليها بخيط من جنس الذي تصبغ به، وهذه أواني الصّبغ ودتان مختلفة بحسبها فأريد أن تصبغ كلا منها في دنه بمقتضى اللّون المطلوب، وان تفرغ منها قبل قدومي، وتركه وذهب، فقام عيسى فطبخ دنا واحدا بلون واحد ووضع الثياب كلها فيه، وقال كوني بأمر الله على ما أريد منك من الألوان مثل ما قال المعلم فقدم معلمه وقال له ماذا عملت بالثياب؟ قال فرغت منها وهي هذه كلها في جب واحد، قال أفسدتها وسببت لي خصومة أهلها، قال عيسى لا، ثم أخرجها فإذا هي كما أراد: الأصفر أصفر، والأحمر أحمر، والأخضر أخضر، والأسود أسود، فتعجب المعلم من ذلك وعلم أن هذا من الله، فآمن به هو وأصحابه وأظهروا معجزته للناس. وقيل سموا حواريين لصفاء قلوبهم. واذكر يا محمد لقومك أيضا «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي

صفحة رقم 395

وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»
فبادره
عيسى بكلمة التبري «قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ» قولا «ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أن أقوله وكيف يكون ذلك مني وأنا عبد محتاج لا أستحق العبودية، ولا حاجة لتقديم المعذرة في مثل هذا اليوم العظيم، لأن المقام مقام تواضع وخشوع إلى جلالك وإني «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ» كما قيل عني «فَقَدْ عَلِمْتَهُ» يا رب وهذا جواب على غاية من الأدب ونهاية من الاحترام وبعيد في المسكنة، إذ فوض الأمر المسئول عنه إلى ربه لعلمه أنه عالم به في الأزل وعالم بما قاله وعمله منذ خلقه إلى يوم سؤاله فما بعد ذلك، ولهذا قال «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» لأنك تعلم حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، وهذا من الفصاحة بمكان لأنه وقع على طريقة المشاكلة والمطابقة، ثم أكد قوله هذا بقوله «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (١١٦) مما كان وسيكون من مبدأ الكون إلى نهايته وما بعد ذلك إلى الآخرة وما يكون فيها. وبعد أن مهّد جوابه هذا إلى ربه واستأنس من جبروته بما وفق إليه من الجواب قال يا رب وعزتك «ما قُلْتُ لَهُمْ» شيئا من نفسي «إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ» من الوحي الذي شرفتني به وهو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا تشركوا به غيره «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» مقيما أراقبهم على أعمالهم وأقوالهم وأنصحهم وأرشدهم لتوحيدك والإصلاح بين النّاس «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي» بانقضاء أجلي في الدّنيا أولا ورفعي إلى السماء إذ نجيتني من كيد اليهود «كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» من بعدي كما كنت رقيبا علي وعليهم وعلى الخلق أجمع من قبل «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (١١٧) في الدّنيا والآخرة لا يغيب عنك عمل عامل من خلقك ولا شيء من أمرهم الآن وفيما مضى ويأتي، ثم لما أطلعه على ما وقع منهم من المخالفات لتعاليمه أحجم عن الدّفاع عنهم وقال متضرعا يا رب قد وقع منهم ذلك وأنت أولى بهم من «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ» على ما صدر منهم وهم مستحقون العذاب «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وقد جحدوا آياتك وكذبوا رسلك وافتروا عليك وعلي وأنت الحكم المقسط بمن يكفر بعد ظهور دلائل الإيمان له ووجود الحجة عليه بعد ظهور

صفحة رقم 396

المحجة، وهم الآن معترفون بما وقع منهم إذ لا يقدرون على دفع ما تنزله فيهم من العذاب ولا رفع ما وجب عليهم من العقاب كما كانوا عاجزين قبل بل هم الآن أعجز «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» كفرهم وتطاولهم وبهتهم ومخالفتهم فبفضل جودك ولطف رحمتك وعطفك على عبادك، وأنت الذي لا تسأل عما تفعل ولك تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وما هذا عليك بعزيز «فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الذي لا عزيز غيرك الغالب الذي لا يفلت أحد مما تريده به «الْحَكِيمُ» (١١٨) بأفعاله بعباده.
واعلم أن هذا القول من الله تعالى إلى عيسى يوم القيامة بدليل قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية الآنفة وبدليل سياق الآية نفسها لأنها بلفظ الاستفهام الإنكاري تقريعا لمن ادعى ذلك في عيسى وألصق به ما هو براء منه وتوبيخا لهم على رءوس الأشهاد، ووجه السّؤال تثبيت الحجة على قومه وتكذيبا لادعائهم بإلهيته وإن من قال بإلهيته قال بإلهية أمه على سبيل التبعية لأنها ولدته وقال بأن الله ثالث ثلاثة أيضا، ولا يقال بعدم لياقة طلب المغفرة من عيسى عليه السّلام لقوم كافرين، لأن قوله ذلك ليس على طريق المغفرة ولو كان لقال (إنك أنت الغفور الرّحيم) لأن هاتين الصّفتين لائقتان بهما ولكنه قال ذلك على طريق تسليم الأمر لله وتفويضه لمراده، ولهذا قال (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إذ يجوز في الحكمة عدم تعذيب الكافر، ومما يرد قول القائل إن هذا السّؤال وقع من عيسى عليه السّلام عند رفعه إلى السّماء قوله تعالى «قالَ اللَّهُ هذا» اليوم الذي وقع فيه هذا القول، لأن الإشارة تكون لأقرب مذكور، ولم يأت ذكر لرفعه هنا البتة، فمن جوّز إعادة الضّمير إليه أي أعاد اسم الإشارة إلى يوم الرّفع نصب كلمة «يَوْمُ» وأراد أن هذا القول من الله إلى عيسى يوم رفعه وليس بشيء لمنافاته السّياق والسّباق ولإجماع القرّاء على رفع كلمة يوم، أي يوم القيامة يوم سؤال الخلق عما كان منهم، بدليل قوله جل قوله «يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» الواقع منهم في الدّنيا فإنه ينفعهم في هذا اليوم يوم الآخرة إذ لا يكون النّفع الحقيقي إلّا فيه، لأنه هو يوم الجزاء. أما احتجاج القائل بأن هذا كان عند الرّفع مستدلا بقوله تعالى «إِذْ» بصدر الآية لأنها للماضي ولم يعلم أنها تأتي بمعنى (إذا) فتكون للمستقبل،

صفحة رقم 397

قال تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) الآية ٥١ من سورة سبأ في ج ٢، وهذا الفزع الذي لا فوت منه إنما يقع يوم القيامة، قال الرّاجز:

ثم جزاك الله عني إذ جزى جنّات عدن في السّموات العلى
أي إذا جزى، ولا يكون هذا الجزاء إلّا يوم القيامة، ومما يرد هذا القول ويؤيد ما مشينا عليه قوله تعالى «لَهُمْ» أي الصّادقين في ذلك اليوم «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ولا يكون هذا الخلود في تلك الجنّات إلّا في الآخرة «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» أي أهل الجنّات بطاعتهم له في الدّنيا «وَرَضُوا عَنْهُ» بما من عليهم وأعطاهم من عظيم ثواب وجزيل كرامة في الآخرة «ذلِكَ» الأجر الجزيل والخير الكثير هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١١٩) الذي ما فوقه فوز ونجاح كبير ما فوقه نجاح «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ» من مخلوقات يتصرف فيهم كيف يشاء ويريد كما يتصرف فيهما مثل ما يريد ويختار، وهو المستحق للعبادة وحده، وأن عيسى وأمه ومن في الأرض والسّموات وما بينهما جميعا عبيد خاضعون لعظمته، منقادون لقهره، «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١٢٠) لأن جميع المكونات النّامية والجامدة تحت قدرته، وله أن يدخل من يشاء في رحمته ويوصل من يشاء إلى ملكوته، ويقطع من يشاء عن ملكه. ويمنع من يشاء من عطفه، وأن عيسى وغيره من جملة عباده الداخلين تحت قدرته إذ لا شيء في الكون علويه وسفليه إلّا وهو في قبضته سبحانه هو الواحد القهار، قال قتادة، متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السّلام لأنه يقوم فيقول ما قصّ الله عنه في هذه الآيات فكان صادقا في الدّنيا والآخرة فينفعه الله بصدقه، وأما المتكلم الآخر فهو إبليس عليه اللّعنة فإنه يقوم فيقول ما ذكر الله عنه في الآية ٣٣ من سورة إبراهيم عليه السّلام المارة في ج ٢ التي أولها (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلخ فقد صدق عدو الله بما قال، ولكن لم ينفعه صدقه. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النّبي صلّى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم عليه السّلام ما ذكر الله عنه في قوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» الآية ٣٦ من سورته في

صفحة رقم 398

ج ٢ وقول عيسى عليه السّلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) إلخ الآيتين المارتين أعلاه، وقال اللهم أمّتي أمّتي، وبكى، فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد (وربك أعلم) فسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره صلّى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية إن تعذبهم فإنهم عبادك) إلخ، أخرجه النّسائي أي أنه عليه السّلام قام يصلي اللّيل كله يقرأ في صلاته هذه الآية وما ذاك إلّا لشدة حرصه على نجاة أمته صلّى الله عليه وسلم الّذين سيباهي بهم الأمم يوم القيامة، والذي تحمل مشاقا عظيمة في سبيل هدايتهم لسلوك الحق الذي يوصلهم إلى رحمته ورضاه، ولهذا فإنه حينما أرسل له الملك (على أثر ما عملوا به عند ذهابه لثقيف كما ذكره قبل) واستأذنه بأن يطيق عليهم الأخشبين قال لا يا رب بل اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وإني لأرجو أن تخرج من أصلابهم من يتولى بيتك. وكان ذلك والحمد لله بتوفيقه جل توفيقه. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة التوبة- براءة عدد ٢٧- ١١٣ و ٨
نزلت بالمدينة بعد المائدة، وهي مئة وتسع وعشرون آية، وأربعة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي، وتسمى سورة براءة، ولم تبدأ بالبسملة، ولم تكتب بأولها خلافا لسور القرآن العظيم كلها، لأن حضرة الرّسول لم يأمر كتبة الوحي بذلك، ولم يؤمر بكتابتها حين أنزلت عليه من ربه عز وجل بواسطة الأمين جبريل عليه السّلام، وهو لا يأمر كتبة الوحي إلّا بكتابة ما أنزل عليه، فلا ينطق عن هوى، ولا يأمر إلّا بما يأمره به ربه، ولا يفعل إلّا ما يريده منه.
هذا، وما قيل إنها لم تبدأ بالبسملة لأنها سورة عذاب وقد أنزلت بالسيف وإنذار الناس بقطع المعاهدات، والبسملة تدل على الرّحمة لأنها شعار لها وهي أمان من

صفحة رقم 399

العذاب والقتال وافتتاح لكل خير واسم الله تعالى يدل على السّلام وإنما جاءت ينبذ العهود المعقودة مع الكافرين وتهديدا لهم بالحرب والقتل، يرده أن البسملة كتبت أول المطففين والهمزة وقد بدأتا بالويل، وأين الويل من الرّحمة، وكتبت أول سورة المنافقين والكافرين وشتان بينهما وبين الرّحمة، لهذا فإن ما جرينا عليه من أنها أنزلت هكذا بلا بسملة، وأن حضرة الرّسول أفرها وأمر بإثباتها في الصحف على ما هي عند الله تعالى، وهذا هو الصّواب، لأن القراء والعلماء اتفقوا على جواز قراءة البسملة عند تلاوة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية ٣٧ الآتية وأمثالها، وكان صلّى الله عليه وسلم يكتب للمحاربين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وإنّ ترك كتابتها هنا وإثباتها في سورة النّمل دليل على أنها آية مكررة في القرآن العظيم حيث أنزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، وهذا هو الصّحيح كما ذكرناه في المقدمة في بحث البسملة فراجعه.
مطلب عدم صحة القول بانها والأنفال سورة واحدة لعدم الفصل بينهما بالبسملة وعدد غزوات الرّسول وما هي:
وما قيل إن سورة التوبة وسورة الأنفال سورة واحدة ولذلك لم تكتب البسملة أولها اكتفاء بالبسملة أول الأنفال قيل لا يرتكز على نقل صحيح ولا دليل واضح، ولا يستند لقول ثابت يوثق به، لأنهما لو كانتا سورة واحدة لنزلتا دفعة واحدة معا ولأمر الرّسول بضمهما بعضهما بعض لأن مجرد وضعها تحت الأنفال لا يدل على أنها منها، لأن وضع السّور بمواضعها الموجودة الآن بالمصاحف بحسب ترتيب القرآن أمر توقيفي من قبل حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بإشارة من جبريل عليه السّلام على نسق ما هو مدون في اللّوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا فإن الحق أنهما سورتان منفردتان نزلت كلّ واحدة منهما على حدة، وبينهما سبع سنين، لأن الأنفال نزلت بعد البقرة عقب حادثة بدر، وهذه من آخر القرآن نزولا. هذا وإن كثيرا من المفسرين والقراء قالوا إن سورة الضّحى والانشراح سورة واحدة، والفيل وقريش واحدة، وقد وضع لكل منهما البسملة مع أن كلا منهما نزلت بعد الأخرى، ويوجد بينهما ارتباط في

صفحة رقم 400
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية