آيات من القرآن الكريم

فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (١)
١٢٩٥٨ - حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن زيد، عنه.
القول في تأويل قوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن عُثِر"، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. (٢)
وأصل"العثر"، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم:"عثرت إصبع فلان بكذا"، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس:

بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا (٣)
(١) في المطبوعة: "وإن كان صاحبها بعيدًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك منه على كل حال، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. ولم أجد مقالة ابن زيد فيما بين يدي من الكتب.
(٢) في المطبوعة: "فيهما"، والصواب"منهما".
(٣) ديوانه: ٨٣، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي، وقد مضى خبرها ٢: ٩٤، تعليق: ١، ومضى منها أبيات في ١: ١٠٦/٢: ٥٤٠، وقيل البيت في ذكر أرض مخوفة الليل، وهي"البلدة" المذكورة في البيت التالي:
وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الجَوًّابُ دُلْجَتَهَا حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا
لاَ يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤَنِّسُهُ بِاللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُومِ والضُّوَعَا
كَلَّفْتُ مَجْهُولَها نَفْسِي، وَشَايَعَنِي هَمِّي عَلَيْهَا، إذَا مَا آلُهَا لَمَعَا
"الدلجة": سير الليل. و"الشيع" الأصحاب. و"النئيم": صوت البوم، أو الصوت الضعيف من صوته. و"الضوع"، طائر من طيور الليل، إذا أحس بالصباح صدح، وقيل هو: "الكروان". و"الآل" السراب، و"اللوث": القوة، يصف ناقته أنها ذات لحم وشحم، قوية على السير. وقوله: "بذات لوث"، متعلق بقوله: "كلفت" و"عفرناة" (بفتح العين والفاء) صفة للناقة بأنها قوية كأنها من نشاطها مجنونة. و"التعس"؛ الانحطاط والعثور.
وقوله: "ولعًا"، كلمة تقال للعاثر، يدعى له بأن ينتعش من عثرته، ومعناها الارتفاع، "لعا لفلان" أي أقامه الله من عثرته، لما وصف الأعشي ناقته بالقوة والنشاط، أنكر أن يكون لها عثرة في سرعتها، فإذا عثرت، كان الدعاء عليها بأن يكبها الله لمنخريها، أولى به من أن يدعو بإقالة عثرتها.

صفحة رقم 179

يعني بقوله:"عثرت"، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. (١) ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم: (عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ)، بمعنى: وقعت. (٢)
* * *
وأما قوله:"على أنهما استحقا إثمًا"، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية = بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله ="على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما (٣) ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.

(١) في المطبوعة: "ميسم خفها حجر أو غيره"، والصواب ما أثبت. و"المنسم" (بفتح فسكون فكسر) : طرف خف البعير، والنعامة والفيل. و"منسما البعير" ظفراه اللذان في يديه، وهما له كالظفر للإنسان.
(٢) هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٨١، الأمثال للميداني ١: ٣٩٥، والأمثال لأبي هلال العسكري: ١٤٢. قوله"بأخرة" (بفتح الألف والخاء والراء) أي: أخيرًا. تقول: "ما عرفته إلا بأخرة"، أي: أخيرًا."ونجد"، هي الأرض المعروفة."قردة". وجمعها"قرد" (كله بفتحات)، هو: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد، وهو نفاية الصوف. وأصله أن المرأة تترك الغزل وهي تجد ما تغزل من قطن أو كتان، حتى إذا فاتها، تتبعت القرد (نفاية الصوف) في القمامات، ملتقطة لتغزله. ويضرب مثلا في التفريط مع الإمكان، ثم الطلب مع الفوت. قال أبو هلال: "وهذا مثل قول العامة: نعوذ بالله من الكسلان إذا نشط". وروى هذا المثل صاحب لسان العرب في (قرد)، ونصه"عكرت على الغزل..."، وفسره"عكرت، أي: عطفت". وهو بهذه الرواية لا شاهد فيه.
(٣) قوله"فأثما... بربهما"، انظر ما قلت في"أثم بربه" فيما سلف ٤: ٥٣٠ تعليق: ٣، / ثم ٦: ٩٢، تعليق: ٢، وبيانه هناك.

صفحة رقم 180

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٥٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا.
١٢٩٦٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
١٢٩٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو آخران من غيركم"، من غير المسلمين="تحبسونهما من بعد الصلاة"، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد". فذلك قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد"، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
١٩٢٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين

صفحة رقم 181

بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، (١) بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا.
فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. (٢) وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٦٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، من أهل الإسلام ="أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض" إلى:"فيقسمان بالله"، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى ذكره من الفريضة، (٣) يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام="فآخران يقومان مقامهما"، من أولياء الميت، فيحلفان بالله:"ما كان صاحبنا ليوصي بهذا"، أو:"إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما".
١٢٩٦٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السديّ قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين"، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير

(١) في المخطوطة: "فمن نقلها"، والصواب ما في المطبوعة، أو شبيه بالصواب.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "لغير الذي يجوز"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) "الفريضة"، يعني المواريث.

صفحة رقم 182

مرضيين عندهم، أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما، أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، (١) وحلفوا بالله:"لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا". فذلك قوله:"فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان".
* * *
وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٦٥ - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله"، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا". أي بدعواهما لأنفسهما ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه = أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم

(١) في المطبوعة: "فأقبل الأولياء فشهدوا"، وفي المخطوطة: "فأقبل الأولياء شهدوا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) في المخطوطة: "إذا ارتابا".

صفحة رقم 183

دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك = ولا -إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، (١) ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه.
وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد (٢) = من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال:"ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله".
على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله ﷺ قَضَى به حين نزلت هذه الآية، بين الذين نزلت فيهم وبسببهم.
* ذكر من قال ذلك:

(١) في المطبوعة: "فلم نجد ذلك كذلك صح..."، وأثبت ما في المخطوطة، وسياقه"ولا... صح بخير عن الرسول"، وقوله: "إذا لم نجد ذلك كذلك" اعتراض.
(٢) السياق: "فالقول بأن الشاهدين... أفسد"، يعني: أفسد من القول السابق.

صفحة رقم 184

١٢٩٦٦- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، (١) فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم". (٢)

(١) "الجام": إناء من فضة، وهو عربي صحيح."مخوص بالذهب": عليه صفائح من ذهب على هيئة خوص النخل، وهو ورقه. و"التخويص": أن يجعل على الشيء صفائح من الذهب، على قدر عرض خوص النخل.
(٢) الأثر: ١٢٩٦٦ -"محمد بن أبي القاسم"، الطويل، الكوفي. روى عن أبيه، وعبد الله وعبد الملك، ابني سعيد بن جبير، وعن عكرمة. وروى عنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبو أسامة، وحماد بن أسامة. وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال البجيري وقال البخاري": "لا أعرف محمد بن أبي القاسم كما أشتهي، وكان علي بن عبد الله يستحسن هذا الحديث (يعني حديث تميم الداري) قيل له: رواه غير محمد بن أبي القاسم؟ قال: لا. قال: وروى عنه أبو أسامة، إلا أنه غير مشهور". وقال الحافظ ابن حجر، بعد ذكر محمد بن أبي القاسم: "وما له في البخاري، ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد بن جبير، غير هذا الحديث الواحد. ورجال الإسناد الإسناد، ما بين علي بن عبد الله المديني (شيخ البخاري)، وابن عباس، كوفيون".
و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي"، الكوفي، عزيز الحديث، ثقة. مضى برقم: ١٢٧٧٦.
و"تميم الداري"، هو"تميم بن أوس بن خارجة اللخمي"، منسوب إلى جده"الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم"، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة تسع وأسلم. وكان نصرانيا، وهو الذي قال لرسول الله: "ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشأم! " فصنع المنبر. وكان عابدًا.
وأما "عدي بن بداء" (بتشديد الدال)، فكان نصرانيا، ذكر أنه أسلم، ولكن صحح ابن حجر في ترجمته في الإصابة أنه مات نصرانيًّا.
وهذا الحديث، رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٥: ٣٠٧ ٣٠٩)، وفي التاريخ الكبير ١/١/٢١٥، وأبو داود في سننه ٣: ٤١٨، ورقم: ٣٦٠٦، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠: ١٦٥، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٣٣، وأحكام القرآن للجصاص ٢: ٤٩٠، والترمذي في سننه (في كتاب التفسير)، وقال: "هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة".
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٦٦، نقلا عن الطبري، ولم يذكر روايته في صحيح البخاري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٢، فقصر في نسبته إلى البخاري في صحيحه، ونسبه إليه في التاريخ، ثم زاد نسبته إلى ابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

صفحة رقم 185

١٢٩٦٧ - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب، عن ابن عباس، عن تميم الدرايّ في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت"، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء = وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جامُ فضّة يريد به الملك، وهو عُظم تجارته، (١) فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء، [فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألوا عنه]، (٢) فقلنا: ما ترك غيرَ هذا، وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله ﷺ المدينة، تأثَّمت من ذلك، (٣) فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمئة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، (٤) فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(١) في المخطوطة: "وهي عظم"، وأثبت ما في المطبوعة، لمطابقته لما في المراجع الأخرى. وقوله: "عظم تجارته"، أي: معظمها، يعني أن الجام كان أنفس ما معه وأغلاه ثمنًا.
(٢) هذه الجملة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وهي ثابتة في المراجع الأخرى، وأثبتها من نص الناسخ والمنسوخ.
(٣) "تأثم من الشيء"، تحرج منه، ووجده إثمًا يريد البراءة منه.
(٤) قوله: "فوثبوا إليه"، حذفها ناشر المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة، وفي الناسخ والمنسوخ.

صفحة رقم 186

فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، (١) فنزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء. (٢)
١٢٩٦٨ - حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وابن سيرين وغيره = قال، وثنا الحجاجُ، عن ابن جريج، عن عكرمة = دخل حديث بعضهم في بعض:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال: كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله ﷺ حوَّلا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه، ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ (٣) قالا لا! قالوا: فهل تَجَر

(١) في المخطوطة: "حلفا"، بغير فاء، وأثبت ما في المطبوعة والمراجع.
(٢) الأثر: ١٢٩٦٧ -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني"، "أبو مسلم الحراني"، ثقة مأمون، مضت ترجمته برقم: ١٠٤١١، وكان في المطبوعة هنا: "الحسن بن أبي شعيب" أسقط"بن أحمد"، مع ثبوتها في المخطوطة، وعذره أنه رأى الناسخ كتب"الحسن بن يحيى أحمد قال ابن أبي شعيب"، وضرب على"يحيى" وعلى"قال"، فضرب هو أيضا على"بن أحمد" فحذفها! ! وهو تساهل رديء.
و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي"، ثقة، مضت ترجمته برقم: ١٧٥، وقد ورد في إسناد محمد ابن إسحق، مئات من المرات.
و"أبو النضر" هو"محمد بن السائب الكلبي"، ضعيف جدًا، رمي بالكذب. وقد روى الثوري عن الكلبي نفسه أنه قال: "ما حدثت عني، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". مضت ترجمته برقم: ٧٢، ٢٤٦، ٢٤٨.
وأما "باذان، مولى أم هانئ"، أو "باذام" فهو "أبو صالح"، ثقة، مضى برقم: ١١٢، ١٦٨ وغيرها. وهو مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/١٤٤، وابن أبي حاتم ١/١/٤٣١.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، والناسخ والمنسوخ جميعًا"زاذان، مولى أم هانئ"، وهذا شيء لم يقله أحد، ولذلك غيرته إلى الصواب الذي أجمعوا عليه، وكأنه خطأ من الناسخ.
وأما "تميم الداري"، و"عدي بن بداء" فقد سلفا في الأثر السابق.
وأما "بريل بن أبي مريم"، مولى بني سهم، أو مولى عمرو بن العاص السهمي، صاحب هذه التجارة، فقد ترجم له ابن حجر في الإصابة في"بديل" بالدال، وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة. وكان بديل مسلمًا من المهاجرين.
يقال في اسمه"بديل بن أبي مريم"، و"بديل بن أبي مارية"، ثم اختلف في"بديل"، فروي بالدال، وروي"بريل" بالراء، وروي"بزيل" بالزاي، وروي"برير"، وقال ابن الأثير: "والذي ذكره الأئمة في كتبهم: يزيل، بضم الباء وبالزاي، ونحن نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى". هكذا قال ووعد، ثم لم أجد له ذكرًا في كتابه بعد ذلك، فلا أدري أنسي ابن الأثير، أم في كتابه خرم أو نقص!!
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ٥: ٣٠٨، ما لم يذكره في الإصابة، فقال: "بزيل" بموحدة، وزاي، مصغر. وكذا ضبطه ابن ماكولا، ووقع في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن تميم نفسه عنه الترمذي والطبري (يعني هذا الخبر) : بديل، بدال، بدل الزاي. ورأيته في نسخة من تفسير الطبري: بريل، براء بغير نقطة. ولابن مندة من طريق السدي، عن الكلبي: بديل بن أبي مارية". ثم قال: "ووهم من قال فيه: بديل بن ورقاء، فإنه خزاعي، وهذا سهمي، وكذا وهم من ضبطه بذيل، بالذال المعجمة".
وكان في المطبوعة"بديل"، ولكني أثبت ما في المخطوطة، وأخشى أن تكون مخطوطتنا هذه، هي"النسخة الصحيحة من تفسير الطبري" التي ذكرها الحافظ ابن حجر، أو هي منقولة عن النسخة التي ذكرها ووصفها وصححها.
وهذا الخبر، رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٣٣، والترمذي في سننه في كتاب التفسير؛ بهذا الإسناد نفسه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح. وأبو النضر، الذي روى عنه محمد بن إسحق هذا الحديث، هو عندي: محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير. سمعت محمد بن إسمعيل. يقول: محمد بن سائب الكلبي، يكنى أبا النضر، ولا نعرف لسالم أبي النضر المديني رواية عن أبي صالح (باذان) مولى أم هانئ. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار، عن غير هذا الوجه"، ثم ساق الترمذي الأثر السالف بإسناده.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤١، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم في المعرفة.
(٣) قولهم: "فهل استهلك من متاعه شيئًا"، أي: أضاعه وافتقده، وهذا حرف لم تقيده كتب اللغة، استظهرت معناه من السياق. وقد جاء في حديث عائشة (صحيح مسلم ٢: ٥٩، وتفسير الطبري رقم: ٩٦٤٠) أن عائشة: "استعارت من أسماء قلادة فهلكت"، أي: ضاعت، كما فسرته فيما سلف ٨: ٤٠٤، رقم: ٢. فقوله: "استهلك" هنا، من معنى هذا الحرف الذي لم تقيده كتب اللغة ببيان واضح، وهو"استفعل"، بمعنى: وجده قد ضاع. وهو من صحيح القياس وجيده، وهذا شاهده إن شاء الله.

صفحة رقم 187

تجارة؟ (١) قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"إنا إذا لمن الآثمين". قال: فأمر رسول الله ﷺ أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا". قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا، (٢) ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب، (٣) فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم، ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! (٤) فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأخرى:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فأمر رسول الله ﷺ رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! (٥)
١٢٩٦٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، الآية كلها. قال: هذا شيء [كان] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة، (٦) وكانت الأرض كلها كفرًا، (٧) فقال الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين ="أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر، فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم ="فيقسمان بالله إن ارتبتم"، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، أنما حلفا على باطل وكذب ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" بالميت ="فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما، فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه، (٨) فأقسما، ثم ضمن هذان. قال الله تعالى:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، (٩) فتبطل أيمانهم ="واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين"، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له، وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ، وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت:

(١) "تجر يتجر تجرًا وتجارة" (على وزن: نصر ينصر) : باع وشرى. وأرادوا به هنا معنى الشراء بالعوض، فيما أستظهر، فإنهم قد سألوه قبل عن البيع والابتياع.
(٢) في المطبوعة: "فمكثنا ما شاء الله أن نمكث"، غير الناشر ما في المخطوطة، وأفسد.
(٣) "ظهر" (بالبناء للمجهول)، أي: عثر معها على إناء.
(٤) في المخطوطة: "نفسا" غير منقوطة، ولو شئت قرأتها: "نفسينا"، مكان"أنفسنا"، وهما صواب.
(٥) الأثر: ١٢٩٦٨ -"أبو سفيان" هو: المعمري، "محمد بن حميد اليشكري"، مضى برقم: ١٧٨٧، ٨٨٢٩.
و"الحسين" الراوي عنه، هو"سنيد بن داود"، مضى مرارًا.
و"ابن أبي مارية"، هو"بديل بن أبي مارية"، وقد بينت ذلك في التعليق على الأثر السالف.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٢، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٦) الزيادة بين القوسين، لا بد منها للسياق، وكان في المخطوطة: "... لم يكن السلام"، والصواب ما في المطبوعة.
(٧) في المطبوعة: "كفر" بالرفع، وأخشى أن يكون الأصل: "وكانت الأرض كلها دار كفر"، أو ما أشبه ذلك، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو صواب أيضًا.
(٨) "القسامة" (بفتح القاف)، أراد بها هنا: اليمين.
(٩) قوله تعالى: "بعد أيمانهم" لم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة، والصواب إثباتها.

صفحة رقم 189

كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم، ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان.
١٢٩٧٠- حدثنا الربيع قال، حدثنا الشافعي قال، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان = قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك = في قول الله:"اثنان ذوا عدل منكم"، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين، أحدهما تميمي، والآخر يماني، صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة، فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. (١) فمرض القرشي، فجعل وصيته إلى الداريّين، فمات، وقبض الداريّان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال، فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، (٢) وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى آخر الآية. فلما نزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات:"ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنا لا نشتري بأيماننا

(١) "البز": الثياب، أو ضروب منها، وبائعها يقال له: "البزاز". و"الرقة" (بكسر الراء وفتح القاف) : الفضة، وأصلها"الورق" (بفتح الواو وكسر الراء)، ثم حذفت الواو، وجعلت الهاء في آخرها عوضًا عن الواو.
(٢) يقال: "وضع في تجارته يوضع ضعة، ووضيعة فهو موضوع فيها" ويقال: "أوضع" (كلاهما بالبناء للمجهول)، ويقال: "وضع في تجارته وضعًا" (مثل: فرح فرحًا) : غبن فيها، وخسر من رأس المال.

صفحة رقم 191

ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت، فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا، فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"فإن عثر"، يقول: فإن اطُّلع ="على أنهما استحقا إثمًا"، يعني الداريين، إن كتما حقًّا ="فآخران"، من أولياء الميت ="يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فيقسمان بالله:"إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ، وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، هذا قول الشاهدين أولياء الميت ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك. (١)
* * *
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين = وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [أنهما استحقا إثمًا]، في أيمانهما، (٢) ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إن القوم ادَّعوا

(١) الأثر: ١٢٩٧٠ -"معاذ بن موسى الجعفري"، "أبو سعيد"، لم أجد له ترجمة إلا في تعجيل المنفعة: ٤٠٦، لم يزد على أن قال: "معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف.
وعند الشافعي، رحمه الله تعالى". وكان في المطبوعة: "سعيد بن معاذ بن موسى" وهو خطأ، مخالف للمخطوطة.
و"بكير بن معروف الأسدي"، "أبو معاذ النيسابوري، الدامغاني" صاحب التفسير، وهو صاحب مقاتل. قال ابن عدي: "ليس بكثير الرواية، وأرجو أنه لا بأس به، وليس حديثه بالمنكر جدًا"، مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/١١٧، وابن أبي حاتم ١/١/٤٠٦.
وكان في المطبوعة: "بكر"، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ١٦٤ من طريق إسمعيل بن قتيبة، عن أبي خالد يزيد بن صالح، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان. ثم رواه (١٠: ١٦٥) من طريق أبي العباس الأصم، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، ثم أحال لفظه على الذي قبله.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، استظهرتها من نص الآية.

صفحة رقم 192

فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي= وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. (١)
وفيها أيضًا، (٢) البيانُ الواضح على أن معنى"الشهادة" التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، [سورة النور: ٦]. فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل:"أشهد بالله إني لمن الصادقين"، (٣) وكذلك معنى قوله:"شهادة بينكم" إنما هو: قسَم بينكم ="إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية"، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما، أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. (٤) وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال:"فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما". ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما، غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما = وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر

(١) في المطبوعة: "مما قلنا من التأويل"، وفي المخطوطة: "ما قبلنا من التأويل"، وصواب القراءة ما أثبت.
(٢) قوله: "وفيها أيضًا"، الضمير عائد على قوله في أول الفقرة السالفة: "ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا"، وهي عطف عليه.
(٣) في المطبوعة: "إنه لمن الصادقين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) انظر ما كتبه في"اتمن" فيما سلف ص: ١٧٢، تعليق: ١، ٢

صفحة رقم 193

الله ذكره تعالى في قوله:"أحق من شهادتهما" = صحَّ أن معنى قوله:"شهادة بينكم"، بمعنى:"الشهادة" في قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنها بمعنى القسم.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"من الذين استحق عليهم الأوليان".
فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ، بضم"التاء".
* * *
وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ، بفتح"التاء".
* * *
واختلفت أيضًا في قراءة قوله:"الأوليان".
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة: (الأَوْلَيَان).
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (الأَوَّلِينَ).
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله:"من الذين استحق عليهم"، قراءة من قرأ بضم"التاء"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله، (١) وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم،

(١) في المطبوعة: "مع مساعدة أهل التأويل"، وفي المخطوطة: "مع مساعه" غير منقوطة، وآثرت قراءتها كما كتبتها. و"المشايعة"، الموافقة والمتابعة.

صفحة رقم 194

يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت.
وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل، ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك:
١٢٩٧١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شهادة بينكم"، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان ="فإن عثر" وُجد......... ، (١) حلف الاثنان الأوليان من الورثة، فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين.
* * *
وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح"التاء"، أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى:"فآخران يقومان مقامهما"، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و"الاستحقاق به عليهما"، دعواهما قِبَلهما = من"الذين استحقَّ" على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. (٢) وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح"التاء" = و"الأوليان"، (٣) على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها، غير أنا نختار الأخرى،

(١) في المطبوعة: "فإن عثر، وجد لطخ حلف الاثنان..."، وقوله: "لطخ" هنا من عجائب الكلام، وفي المخطوطة بعد: "فإن عثر وجد" بياض إلى آخر السطر، مع علامات بعد الكلام بالحمرة. والظاهر أن النسخة التي نقل عنها ناشر المطبوعة، كان فيها في هذا الموضع حرف (ط) دلالة على الخطأ، فكتب مكانها ما كتب. ووضعت أنا مكان البياض في المخطوطة نقطًا، والظاهر أن سياق الكلام كان: "فإن عثر، وجد أنها استحقا إثمًا" حلف الاثنان..."، ولكني آثرت ترك البياض كما هو في المخطوطة، والمعنى ظاهر.
(٢) في المطبوعة: "في الأوليان" بزيادة"في"، أثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(٣) في المطبوعة، حذف قوله: "والأوليان"، وساق الكلام على سياق واحد. وأثبت ما في المخطوطة.

صفحة رقم 195

لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين.
١٢٩٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانْ). (١)
١٢٩٧٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن واصل مولى أبي عُيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان). (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله:"الأوليان" عندي،

(١) الأثر: ١٢٩٧٢ -"أبو إسحق"، هو السبيعي.
و"أبو عبد الرحمن" هو"السلمي" القارئ، "عبد الله بن حبيب" مضى برقم: ٨٢.
و"كريب" هو"كريب بن أبي كريب"، روى عن علي. وروى عنه أبو إسحق، مترجم في الكبير٤/١/٢٣١، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٦٨، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه في لسان الميزان، وقال: "يروي المقاطيع، من ثقات ابن حبان".
(٢) الأثر: ١٢٩٧٣ -"مالك بن إسمعيل بن درهم النهدي"، "أبو غسان"، مضى برقم: ٢٩٨٩، ٤٤٣٣، ٤٩٢٦، ٨٢٩٢. وأخشى أن يكون راوي هذا الخبر هو"مؤمل بن إسمعيل العدوي"، لا"مالك بن إسمعيل"، ولكن هكذا ثبت في المخطوطة.
و"حماد بن زيد بن درهم الأزدي"، مضى برقم: ٨٥٦، ١٦٨٢، ٥٤٥٤.
و"واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة"، ثقة، روى عن يحيى بن عقيل الخزاعي، والحسن البصري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزبير المكي. روى عنه هشام بن حسان من أقرانه، ومهدي بن ميمون، وحماد بن زيد، وغيرهم. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٧٢، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣٠. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وائل بن أبي عبيدة"، وهو خطأ لا شك فيه، بيانه في التاريخ الكبير للبخاري.
و"يحيى بن عقيل الخزاعي البصري"، روى عن يحيى بن يعمر، وابن أبي أوفى، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: "ليس به بأس"، مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٩٢ وابن أبي حاتم ٤/٢/١٧٦.
وأما "يحيى بن يعمر القيس الجدلي"، فهو ثقة جليل، يروي عن الصحابة والتابعين. كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن، وهو أول من نقط المصاحف. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣١١، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٩٦.

صفحة رقم 196

فقراءة من قرأ: (الأَوْلَيَانِ) لصحة معناها. (١) وذلك لأن معنى:"فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان": فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ] فيهم الإثم، (٢) ثم حذف"الإثم"، وأقيم مقامه"الأوليان"، لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت، (٣) كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم، (٤) وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. (٥) ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله:"شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان"، ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما قال:"فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا"، فقال:"به"، فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر، والمراد به:"لا نشتري بالقسم بالله"، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر"الأوليين" من ذكر"الإثم" الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته، وذلك قوله:"فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا".
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك (الأَوَّلِينَ)، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن"الذين"، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذْ كان"الذين" جميعًا، (٦) وخفضًا،

(١) في المطبوعة والمخطوطة: "بصحة معناها" بالباء، والصواب ما أثبته.
(٢) الذي وضعته بين الأقواس، هو حق السياق والمعنى، فإن السياق يقتضي أن يذكر الآية، ثم يذكر تأويلها، وهكذا فعلت، وهو الصواب إن شاء الله.
(٣) في المطبوعة: "ائتمنهما"، وانظر ما كتبته سالفًا ص: ١٧٢، تعليق ١، ٢، وص: ١٩٣ تعليق: ٤.
(٤) "الفعل"، هو المصدر، كما سلف مرارًا، وانظر فهارس المصطلحات.
(٥) انظر ما سلف ص: ١٦٠.
(٦) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.

صفحة رقم 197

إذ كان"الذين" مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل، غير أنه إنما يقال للشيء"أوّل"، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم، فهم إلى أن يكونوا = إذ كانت أيمانهم آخرًا = أولى أن يكونوا"آخرين"، من أن يكونوا"أوّلين"، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها.
* * *
وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع لقوله:"الأوليان"، إذا قرئ كذلك.
فكان بعض نحويي البصرة (١) يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من:"آخران" في قوله:"فآخران يقومان مقامهما". وقال: إنما جاز أن يبدل"الأوليان"، وهو معرفة، من"آخران" وهو نكرة، لأنه حين قال:"يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم"، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى، فقال:"الأوليان"، فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا = مما يجري على المعنى = كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: (٢)

عَلَيَّ يَوْمَ يَمْلِكُ الأُمُورَا صَوْمُ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا
وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا (٣)
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعض نحويي..."، والصواب ما أثبت.
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) "البادن": الضخم السمين المكتنز، ولم أجدهم قالوا: "البادن" وأرادوا به"البدنة" (بفتح الباء والدال)، وهي الناقة التي كانوا يسمنونها ثم تهدى إلى البيت، ثم تنحر عنده. ولعل الراجز استعملها على الصفة، ومع ذلك فهي عندي غريبة تقيد. و"المقلد"، الذي وضعت عليه القلائد، إشعارًا بأنه هدي يساق إلى الكعبة. ذكر الراجز ما نذره إذا ولى هذا الرجل أمور الناس.

صفحة رقم 198

قال: فجعله: عليَّ واجب، لأنه في المعنى قد أوجب. (١)
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون"الأوليان" بدلا من:"آخران"، من أجل أنه قد نَسَق"فيقسمان" على"يقومان" في قوله (٢) "فآخران يقومان"، فلم يتمّ الخبر بعد"مِنْ". (٣) قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. (٤) وقال: غير جائز:"مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد"، و"زيد" بدل من"رجل".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:"الأوليان" مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله، وهو قوله: (اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما، (٥) فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام:"فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة"، فوضع"الأوليان" موضع"الإثم" كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة: ١٩]، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر

(١) تركت هذه الجملة كما هي في المخطوطة والمطبوعة. وإن كنت أرجح أنه استشهد بالرجز على أنه نصب"صوم شهور"، وعطف عليه"وبادنًا مقلدًا منحورًا"، على معنى: قد أوجبت على نفسي صوم شهور، وبادنًا مقلدًا منحورًا. فإن صح ذلك فيكون صواب هذه العبارة: "فجعله: على واجب = لأنه في المعنى: قد أوجبت".
(٢) "نسق"، أي: عطف.
(٣) في المطبوعة: "فلم يتم الخبر عند من قال..."، غير ما في المخطوطة، وهذا خطأ محض. الصواب ما في المخطوطة، يريد: بعد"من الذين استحق عليهم الأوليان".
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بغير واو، والصواب إثباتها كما يدل عليه السياق.
ثم كتب في المطبوعة بعد ذلك"كما قال: غير جائز..."، بزيادة"كما"، وهي في المخطوطة، مكتوبة متصلة بالراء، فآثرت قراءتها"وقال"، لأنه حق السياق.
(٥) في المطبوعة: "وأنهما موضع الخبر" أسقط"وضعا"، وهي ثابتة في المخطوطة.

صفحة رقم 199

= وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، [سورة البقرة: ٩٣]، وكما قال بعض الهذليين. (١)

يُمَشِّي بَيْنَنَا حَانُوتُ خَمْرٍ مِنَ الخُرْسِ الصَّرَاصِرَةِ الْقِطَاطِ (٢)
وهو يعني: صاحب حانوت خمر، فأقام"الحانوت" مقامه، لأنه معلوم أن"الحانوت"، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف"الصاحب"، واجتزأ بذكر"الحانوت" منه. فكذلك قوله:"من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان"، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما، فحذفت"الخيانة" وأقيم"المختانان"، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر.
* * *
وأما قوله:"عليهم" في هذا الموضع، فإن معناها: فيهم، كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، [سورة البقرة: ١٠٢]، يعني: في
(١) هو المنخل الهذلي
(٢) ديوان الهذليين ٢: ٢١، والمعاني الكبير: ٤٧٢. واللسان (حنت) (قطط) (خرص)، من قصيدة له طويلة، يذكر مواضي أيامه، ثم يقول بعد البيت في صفة الخمر:
رَكُودٍ في الإنَاءِ لَهَا حُمَيَّا تَلَذُّ بأَخْذِها الأَيْدِي السَّوَاطِي
مُشَعْشَعَةٍ كَعَيْنِ الدَّيكِ، لَيْسَتَْتْ، إذَا ذِيقَتْ، مِنَ الخَلِّ الخِمَاطِ
وقوله: "الخرس"، جمع"أخرس"، وهو الذي ذهب كلامه عيًا أو خلقة. ويعني به: خدمًا من العجم لا يفصحون، فلذلك سماهم"خرسًا". وروى بعضهم"من الخرص"، وهو خطأ، فيه نبّه عليه الأزهري رحمه الله.
و"الصراصرة" نبط الشأم. وعندي أنهم سموا بذلك، لشيء كان في أصواتهم وهم يتكلمون، في أصواتهم صياح وارتفاع وامتداد، كأنه صرصة البازي. و"القطاط" جمع"قطط" (بفتحتين) و"قط" (بفتح وتشديد) : وهو الرجل الشديد جعودة الرأس. وقوله: "ركود في الإناء"، يعني أنها صافية ساكنة. و"حميا الخمر"، سورتها وأخذها بالبدن. و"الأيدي السواطي"، التي تسطو إليها، أي: تتناولها معجلة شديدة الرغبة فيها. و"مشعشعة": قد أرقها مزجها بالماء. و"الخماط" من الخمر: التي أصابتها ريح، فلم تستحكم ولم تبلغ الحموضة.

صفحة رقم 200

ملك سليمان، وكما قال: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: ٧١]. ف"في" توضع موضع"على"، و"على" في موضع"في"، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، (١)
ومنه قول الشاعر: (٢)

مَتَى مَا تُنِْكرُوها تَعْرِفُوهَا عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ (٣)
وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان"، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٧٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على
(١) انظر ما سلف ١: ٢٩٩/٢: ٤١١، ٤١٢، وغيرها من المواضع في باب تعاقب الحروف.
(٢) هو أبو المثلم الهذلي.
(٣) ديوان الهذليين ٢: ٢٢٤، مشكل القرآن: ٢٩٥، ٤٣٠، والمعاني الكبير: ٩٦٩، ٩٧٠، والاقتضاب: ٤٥١، والجواليقي: ٣٧٣، واللسان (نفث) وغيرها. من أبيات في ملاحاة بينه وبين صخر الغي، من جراد دم كان أبو المثلم يطلب عقله، أي ديته، وقبل البيت: لَحَقٌ بَنِي شُغَارَةَ أن يَقُولوا... لِصَخْرِ الغَيِّ: مَاذَا تَسْتَبِيثُ؟
أي: ماذا تستثير؟ وإنما أراد الحرب، فقال له بعد: "متى ما تنكروها..."، أي: إذا جاءت الحرب أنكرتموها، ولكن ما تكادون تنكرونها، حتى تروا الدم يقطر من نواحيها، يعني كتائب المحاربين. و"العلق": الدم، و"الأقطار": النواحي. و"النفيث"، الدم الذي تنفثه القروح والجروح.
وقد خلط البطليوسي في شرح هذا الشعر، فزعم أن الضمير في قوله: "متى ما تنكروها"، عائد"إلى المقالة"، يعني هذا الهجاء بينهما، وأتى في ذلك بكلام لا خير فيه، أراد به الإغراب كعادته.

صفحة رقم 201

وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. (١)
١٢٩٧٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر"، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين.
١٢٩٧٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال: كان ابن عباس يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، كيف يكون"الأوليان"، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟
١٢٩٧٧- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما؟
قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة، من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين، أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين.
وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة، دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل = الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره:"فآخران يقومان مقامهما" = أولى به.

(١) الأثر: ١٢٩٧٤ - مضى هذا الخبر برقم: ١٢٩٠٩، ١٢٩٤٣، وانظر التعليق على رقم: ١٢٩٠٩.

صفحة رقم 202

وأما قوله"الأوليان"، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. (١) وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى = ثم حذف"منهما"، (٢) والعرب تفعل ذلك فتقول:"فلان أفضل"، وهي تريد:"أفضل منك"، وذلك إذا وضع"أفعل" موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه"الألف واللام"، فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى، فقالوا:"هذا الأفضل، وهذا الأشرف"، يريدون: هو الأشرف منك.
* * *
وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.
١٢٩٧٨ - حدثني يونس، عن ابن وهب، عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: ="لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما"، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة = في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها="وما اعتدينا"، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا.
* * *
وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، المجاوزة في الشيء حدَّه. (٣)
* * *

(١) السياق: "الأولى بالميت... فالأولى".
(٢) في المطبوعة: "ثم حذف فيهما"، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٣) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).

صفحة رقم 203
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية