
الآية «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم». وحديث رواه الخازن عن عبد الله بن المبارك «أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الآية، فإن الله قال فيها عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغّبه في الخيرات وينفّره من القبائح والمكروهات».
وظاهر أن في الأحاديث ما يزيل كل وهم يمكن أن يحيك في صدر أحد بأن الآية تخاطب أفراد المسلمين وتوعز إليهم بالاكتفاء بما يكون عليه الواحد منهم من عافية في أمر دينه ودنياه وعدم الأبوه لما يكون من انحراف غيره من بني دينه وضلاله عن جادة الحق والاستقامة. ويتأكد هذا المعنى بآية آل عمران [٧٤] التي توجب على المسلمين أن يكون منهم دائما جماعات يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير هذه الآية.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
. (١) من غيركم: من غير المسلمين على أرجح الأقوال.
(٢) تحبسونهما: بمعنى تجعلونهما ينتظران إلى ما بعد الصلاة ليؤديا شهادتهما.

(٣) لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى: بمعنى لا نكتم شهادتنا ولا نكذب فيها مهما أعطينا من الرشوة ولو كان الحق على أقاربنا أو كانت المسألة تخصّ أقاربنا.
(٤) فإن عثر على أنهما استحقا إثما: فإن تبين وعرف أنهما اقترفا إثما بكتمهم الشهادة أو كذبهم فيها.
(٥) يقومان مقامهما: يخلفانهما في مقام الشهادة.
(٦) من الذين استحق عليهم الأوليان: بمعنى نالهم ضرر الإثم والحلف الكاذب في الشهادة من أولياء الميت وورثته.
(٧) أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم: بمعنى أن يخافوا أن يرد حق اليمين والشهادة إلى غيرهم فيكون في ذلك تكذيب وفضيحة لهم.
في هذه الآيات تشريع بشأن الوصية والإشهاد عليها وتحقيق صحتها في حال الاشتباه. وقد احتوت الآيتان الأوليان منها على ما يلي:
١- أمر المسلمون بأنه إذا شعر أحد منهم بقرب أجله وكان في سفر بعيد عن أهله فعليه أن يشهد على وصيته وتركته شاهدين عدلين من المسلمين أو غير المسلمين.
٢- فإذا وقع قضاء الله في الموصي وجاء الشاهدان ليسلما أهل الميت التركة أو يبلغا الوصية وارتاب هؤلاء في صحة أقوالهما فلهم أن يطلبوا منهم يمينا على صدقهما وعدم كتمانهما شيئا لأي سبب كان سواء أمن أجل منفعتهما الخاصة أم من أجل صالح قريب من أقاربهما.
٣- وعلى النبي ﷺ والمسلمين أن يحجزوا الشاهدين ليؤديا اليمين والشهادة بعد الصلاة.
٤- فإذا ظهر بعد يمينهما وشهادتهما أنهما كاذبان أو أنهما جنفا وخانا فيهما فيصحّ أن يتقدم اثنان من أولياء الميت الذين يقع عليهم الحيف وضرر الشهادة الكاذبة فيخلفاهما في مقام الشهادة ويشهدا بما يريانه الحق ويقسما بالله على أن

شهادتهما أحقّ من شهادة الشاهدين الأولين. وأنهما لم يجنفا ولم يعتديا فيهما.
وحينئذ تقبل هذه الشهادة وتنقض الشهادة الأولى.
وقد احتوت الآية الثالثة (١) تعليلا بأن هذه الطريقة التي جعلت بها شهادة أولياء الميت حجة مقبولة ضد شهادة الشاهدين الأصليين من شأنها أن تجعلهما يتحريان الحق ويلتزمانه ويصدقان في شهادتهما خشية التكذيب والفضيحة من جراء ردّ شهادتهما وجعل حق لأولياء الميت في الشهادة بدلا منهما. (٢) وتحذيرا للمسلمين. فعليهم أن يتقوا الله في حقوق بعضهم. وأن يسمعوا ويطيعوا أوامره.
فإن الله لا يوفق الفاسقين عن أوامره ونواهيه.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وصور وتلقين
والآيات كما يبدو فصل جديد. ولعلّها نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها أو لعلّها وضعت في مكانها للتناسب التشريعي الملموح بينها وبين سابقاتها.
ولقد روى البخاري والترمذي حديثا في صدد هذه الآيات عن ابن عباس جاء فيه «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب فأحلفهما رسول الله ﷺ ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من عدي وتميم. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية» «١».
وقد روى الطبري هذه الرواية مع شيء من الزيادة والبيان خلاصته أن اسم السهمي بديل وأنه كان في رحلة تجارية في الشام وأن تميم الداري وعدي بن بداء

سافرا معه وكانوا على دين النصرانية حينئذ. وإنه لما مرض وشعر بدنوّ أجله كتب قائمة بمتاعه ودسّها فيه وعهد إلى رفيقيه المذكورين بتسليم متاعه إلى أهله وإنهما فتشا متاعه بعد موته فوجدا فيه الإناء المخوّص بالذهب فأخذاه لنفسهما وسلّما بقية المتاع لأهله. ثم باعاه في مكة. وفتح أهل الميت المتاع فوجدوا القائمة وسألوا الرفيقين فأنكراه. ثم وجدوا الإناء في يد شخص في مكة فقال إنه اشتراه منهما فراجعوا النبي ﷺ فعقد مجلسا بعد صلاة العصر وحلّف الرجلين فأصرّا على الإنكار وفي رواية ادّعيا أن الإناء لهما فتقدم اثنان من أولياء الميت فحلفا أنه لقريبهم فقضى النبي ﷺ لهم وفي رواية إن الشاهدين بعد أن حلفا تركا وشأنهما ثم إن تميما أسلم وتأثّم من عمله فأخبر أهل الميت بالحقيقة وردّ إليهم ما أخذه من ثمن الإناء فراجعوا النبي وأظهروا استعدادهم للشهادة فاستشهدهما ثم حكم على عدي بردّ ما قبضه من ثمن الإناء فانتزع منه ولم تلبث الآيات أن نزلت. وليس في هذا البيان ما يمنع صحته ولا ما يتعارض مع حديث ابن عباس. وهناك رواية تذكر أن النبي ﷺ نظر في المسألة وحكم فيها بعد نزول الآيات وفاقا لها. وحديث ابن عباس يذكر أن الآيات نزلت بعد النظر والحكم وسنده أقوى. وفي هذه الحالة يكون النبي ﷺ نظر وحكم في المسألة بإلهام رباني ثم نزلت الآيات بإقرار ذلك وبأسلوب يجعل الأسلوب الذي نظره وحكم به النبي ﷺ تشريعا عاما في الحالات المماثلة. ومثل هذا قد تكرر ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله وعلماء التابعين وتابعيهم فيما احتوته الآيات من معان وأحكام. وقد استوعبها الطبري أكثر من غيره «١». وهذا إيجاز لها:
١- هناك من أوّل جملة مِنْ غَيْرِكُمْ بمعنى أهل الكتاب أو بمعنى غير المسلمين إطلاقا. وهناك من قال إنها تعني من أسرة غير أسرة المتوفى أو حيّه أو عشيرته من المسلمين. وروي عن الزهري في صدد تأييد الرأي الثاني قوله إن السنة

مضت على عدم جواز شهادة كافر على مسلم لا في حضر ولا في سفر وإن الجملة هي في المسلمين فيما بينهم. ومعظم الأقوال بأنها تعني من غير المسلمين إطلاقا.
ويدخل في ذلك المجوس والمشركون والوثنيون مع أهل الكتاب. وقد صوّب الطبري هذا وفنّد صرف جملة مِنْ غَيْرِكُمْ إلى عشيرة أهل الميت أو حيّه لأن الخطاب موجّه للمؤمنين. وهو تصويب في محلّه. وقد يرد أن القسم بالله لا يتوقع الصدق فيه إلّا من مسلم. ويرد على هذا أن الكتابيين والمشركين كانوا يؤمنون بالله ويحلفون به حيث يكون توقع الصدق واردا منهم أيضا.
٢- ومن أصحاب الرأي الثاني من قال: (أولا) إن إشهاد غير المسلمين في مثل هذا الموقف مشروط بأن لا يكون هناك مسلمون يمكن إشهادهم. ومنهم من قال إن (أو) للتخيير حيث يصح إشهاد مسلمين وغير مسلمين. والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه مع تنبيه أو استدراك. فالآية تجعل صفة العدل مما يجب توفره في الشاهد بحيث يصحّ أن يقال إن للموصي إذا لم يطمئن لاستقامة وأمانة من حضره من المسلمين أن يوصي من يطمئن باستقامته وأمانته ممن حضره من غيرهم. والله أعلم. (وثانيا) إن أصحاب هذا الرأي قالوا إن إشهاد غير المسلمين إنما يجوز في السفر لأن في هذه الحالة فقط يتوقع عدم وجود مسلمين للشهادة.
وقد يكون هذا متسقا مع نصّ الآيات وظرف نزولها. غير أن تعذر وجود شهود من المسلمين في بعض الظروف المستعجلة والحرجة يكون واردا. وروح الآيات تسوغ كما هو المتبادر لنا استشهاد غير المسلمين في غير السفر إذا تعذّر وجود مسلمين والله تعالى أعلم. (وثالثا) هناك من قال إن شهادة غير المسلمين كانت مقبولة في البدء ثم نسخت بآية البقرة [٢٨٢] التي نزلت بعد هذه الآيات والتي قصرت الشهادة على المسلمين في جملة مِنْ رِجالِكُمْ وهناك من قال إنها محكمة لم تنسخ. والمتبادر أن هذا هو الأوجه، لأن تعذّر وجود شهود من المسلمين وارد في كل ظرف. (ورابعا) إن هناك من قال إن شهادة غير المسلم على المسلم لا تجوز إلا في قضية وصية. ويبدو مما أورده الطبري من أقوال عديدة أن هذا مجمع عليه. ولم يرد في الأقوال ما ينقضه. ولكن مما يرد على البال أن يكون

هناك حقّ لمسلم على مسلم ولا يكون لصاحب الحقّ شاهد أو شاهد عدل أمين إلّا غير مسلم. فهل يصحّ أن يقال إنه لا مانع من ضياع حقّ المسلم في مثل هذه الحالة؟ ونحن نميل إلى القول إن ذلك لا يصحّ.
وورود الآية في مقام الوصية ليس من شأنه أن ينفي ذلك أو يحصره فيها.
ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة في سياق تفسير سورة البقرة المذكورة وألمعنا إلى ما ذكره رشيد رضا عزوا إلى ابن القيم وانتهينا إلى ترجيح صحة شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن إثبات حق المسلم إلا بها. فنكتفي بهذا التنبيه. والله أعلم.
٣- هناك من قال إنه إذا تقدم مسلمان فشهدا خلاف ما شهد به غير المسلمين أخذ بشهادتهما وأبطلت شهادة غير المسلمين إطلاقا. ويتبادر لنا أن هذا مناف لنصّ الآيات. فالآيات تنصّ على قبول شهادة الشاهدين على الوصية إطلاقا ولو كانا غير مسلمين إذا ما تعذر وجود مسلمين وعدم ردّ شهادتهما والأخذ بشهادة غيرهما إلّا إذا ظهر أنهما أثما في شهادتهما أو ادعي أنهما آثمان وأريد إثبات ذلك. والله تعالى أعلم.
٤- وفي صدد الصلاة المذكورة في الآيات فإنّ هناك من قال إنها صلاة يصليها الشاهد مسلما أم غير مسلم لتكون شهادته عقبها أدعى إلى الاطمئنان وهناك من قال إنها صلاة العصر حيث كان النبي ﷺ يعقد مجالسه بعدها لأنها قريبة من الغروب. وأكثر الأقوال في جانب هذا. ونراه هو الأوجه ولقد صرف أكثر المؤولين جملة الصلاة الوسطى في الآية [٢٢٨] من سورة البقرة إلى صلاة العصر على ما شرحناه في سياق تفسيرها حيث يتبادر أن وقتها كان مساعدا في المدينة لاجتماع الناس من حيث الطقس ومن حيث الفراغ فحثّت الآية على المحافظة عليها بصورة خاصة.
٥- والمتفق عليه أن النبي ﷺ هو الذي روجع وحلّ المسألة على اعتباره وليّ أمر المؤمنين وصاحب السلطان فيهم بالإضافة إلى نبوّته الشريفة. والمسألة