آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ

النهي عن كثرة السؤال فيما لم ينزل به وحي
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
الإعراب:
عَنْ أَشْياءَ هي ممنوعة من الصرف لأن الألف في آخرها للتأنيث، وهي اسم للجمع، وليست بجمع شيء. وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كبيت وأبيات. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه جمع شيء. بالتخفيف مثل طبيب وأطباء، وشريف وشرفاء. فال ابن الأنباري: والمختار هو الأول.
المفردات اللغوية:
إِنْ تُبْدَ تظهر تَسُؤْكُمْ تزعجكم لما فيها من المشقة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها قد عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن مسألتكم فلا تعودوا قَدْ سَأَلَها أي الأشياء قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي سأل عنها جماعة سابقون أنبياءهم، فأجيبوا ببيان أحكامها ثُمَّ أَصْبَحُوا صاروا.
سبب النزول:
تعددت أسباب نزول هذه الآية، منها سؤال اختبار وتعجيز، وتعنت واستهزاء وسخف، ومنها سؤال استفهام واسترشاد عن تكرار بعض الفرائض. فمن الأول:
ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول عن أنس بن مالك قال: خطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.
وروي أيضا عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون

صفحة رقم 79

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته:
أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ حتى فرغ من الآية كلها. وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة.
وأخرج البخاري أيضا عن أنس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: «النار» فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: «أبوك حذافة».
ومن الثاني:
ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم».
وفي رواية: «فأنزل الله هذه الآية».
ومثل ذلك
روى أحمد والترمذي والحاكم عن علي قال: «لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ فسكت، قالوا:
يا رسول الله، في كل عام؟ قال: لا، ولو قلت: نعم، لوجبت، فأنزل الله:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»
.
وأخرج الطبري مثله عن أبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر: لا مانع أن تكون نزلت في الأمرين، وحديث ابن عباس في ذلك أصح إسنادا. وقال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه: من أبوه؟ ومسألة سائله إذ قال: إن الله فرض عليكم الحج، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل.

صفحة رقم 80

المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أن مهمة الرسول مجرد البلاغ، ومهمة المبلّغين هي تنفيذ التكاليف والانقياد له، دون أن يكثروا عليه السؤال عما لم يبلغه لهم، ناسب أن ينهاهم صراحة عن السؤال فيما لا تكليف فيه، لئلا يكون ذلك سببا للإلزام بتكاليف ثقيلة، ومطالب جديدة شديدة.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله: لا تسألوا عن أشياء غيبية أو خفية أو لا فائدة منها، أو عن أمور دقيقة في الدين، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة.
وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة والشائكة أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن، يظهرها الله لكم على لسان رسوله. وقال ابن كثير: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق،
وقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرّم من أجل مسألته»
ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة، فسألتم عن بيانها، بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.
أي أن المسؤول عنها إما التكاليف الصعبة المنهي عن السؤال فيها، أو عن غيرها مما فيه لكم حاجة وقد نزل بها الوحي.
وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل

صفحة رقم 81

وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» ورواه مسلم أيضا عن أبي هريرة بلفظ آخر.
قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال» التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف.
يفهم من ذلك أن السؤال لإيضاح المجمل الغامض من القرآن مباح، مثل السؤال عن البيان الشافي في تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة. أما السؤال عما لا يفيد أو عن حكم مسألة لم تحرّم أو لم يكلف بها المسلمون، أو عما لا حاجة إلى السؤال فيه وكان في الإجابة عنه زيادة كلفة ومشقة، فهو حرام.
عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي عفا الله عما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا الله عنه وسكت عليه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب، حليم لا يعاجلكم بالعقوبة على ما فرطتم أو قصّرتم فيه.
روى الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
ثم بيّن الله تعالى حالة بعض الأقوام السابقين مثل قوم صالح الذين سألوا عن مسائل ثم أهملوا حكمها، فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم، فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي بسببها، والمعنى: أني بينت لهم، فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم».

صفحة رقم 82

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية تنهى وتحرم كل أنواع الأسئلة «١» ما عدا السؤال عما ينفعهم أو يحتاجون إليه أو عن توضيح المجمل في القرآن أثناء تنزل الوحي، وقد نزلت جوابا عن جميع الأسئلة التي سئل عنها النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إما امتحانا له، وإما استهزاء.
وقد التزم الصحابة بعدئذ هذا الأدب فامتنعوا عن السؤال، واقتصروا على ما يبلغهم إياه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة ٢/ ٢١٧] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة ٢/ ٢٢٢] وشبهه، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
أما الأسئلة الشرعية اليوم فجائزة للعلم والبيان، قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم، ونفى الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العيّ السؤال ومن سأل متعنتا غير متفقة ولا متعلم، فهو الذي لا يحلّ قليل سؤاله ولا كثيره «٢»

(١) وهي السؤال عما لا ينفع في الدين مثل: من أبي؟ والسؤال الزائد عن الحاجة كالسؤال عن الحج: أكل عام؟ والسؤال عن صعاب المسائل كما جاء في النهي عن الأغلوطات، والسؤال عن علة الحكم في التعبدات كالسؤال عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، وسؤال التكلف والتشدد في الدين كسؤال بني إسرائيل عن أحوال البقرة، وسؤال التعنت والإفحام، والسؤال عن المتشابهات مثل السؤال عن استواء الله.
(٢) تفسير القرطبي: ٦/ ٣٢٣

صفحة رقم 83

ومن أمثلة الأسئلة عما كانوا بحاجة إليه: أنه تعالى بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يذكر عدة المرأة التي لا حيض لها ولا حامل، فسألوا عنها فنزل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق ٦٥/ ٤] فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، فأما ما مسّت الحاجة إليه فلا. وبهذا يوفق بين أول الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.. وبين الجملة التالية: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فأول الآية نهي عن السؤال، والجملة التالية تبيح السؤال، والمعنى: وإن تسألوا عن غيرها فيما مسّت الحاجة إليه. فحذف المضاف، ولا يصحّ حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في عَنْها ترجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٢] يعني آدم، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً [المؤمنون ٢٣/ ١٣] أي ابن آدم لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم، دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال. والمعنى:
وإن تسألوا عن أشياء مما أنزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مسّت حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم «١».
وقد عفا الله عن الأسئلة التي سلفت منهم قبل هذا النهي، فضلا من الله ورحمة، وإن كرهها النّبي صلّى الله عليه وسلّم فلا تعودوا لأمثالها.
وتغلب المقارنة والتذكير والعبرة في آي القرآن وسرد أحكامه كما فعل هنا بقوله: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وقوم موسى رؤية الله جهرة، وأصحاب عيسى المائدة. وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم.

(١) المرجع والمكان السابق.

صفحة رقم 84
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية