
يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْإِنْذَارِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ لَهُمْ مِمَّا لَا ممندوحة لَهُمْ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ مَا رَدَّ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَوْله: بَلى (١) [الْأَحْقَاف: ٣٣] وَمَا يَرُدُّونَ فِي عِلْمِ أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِمْ: بَلى وَرَبِّنا. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَحْقَاف: ٣٣] إِلَخْ. وَأَوَّلُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ قَوْلُهُ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ لِأَنَّهُ مَقُولُ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيُقَالُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ
يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ فِي الْأَذْهَانِ.
وَذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ بِدَلِيل قَوْله بعده قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ وَتَنْدِيمٌ عَلَى مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجَزَاءَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ، وَقَالُوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: ٥٩]، وَإِنَّمَا أَقْسَمُوا عَلَى كَلَامِهِمْ بِقَسَمِ وَرَبِّنا قَسَمًا مُسْتَعْمَلًا فِي الندامة والتغليظ لِأَنْفُسِهِمْ وَجَعَلُوا الْمُقْسَمَ بِهِ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ تَحَنُّنًا وَتَخَضُّعًا.
وَفَرَّعَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهَانَةِ.
[٣٥]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِهِمُ الْقُرْآنَ مُفْتَرًى وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
[الْأَحْقَاف: ٧]، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِعَادٍ. فَأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِالرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ.
_________
(١) فِي المطبوعة: فَلهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَصِيحَةً. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَعَلِمْتَ كَيْفَ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَانْتَصَرْنَا بِرُسُلِنَا فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا.
وَأولُوا الْعَزْمِ: أَصْحَابُ الْعَزْمِ، أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ. وَالْعَزْمُ: نِيَّةٌ مُحَقَّقَةٌ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ دُونَ تَرَدُّدٍ. قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: ١٥٩] وَقَالَ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٥]. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَعْنِي نَفْسَهُ:
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ | وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبًا |
وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّبْرِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ بِصَبْرِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِثْلُهُمْ لِأَنَّهُ ممتثل أَمر رَبِّهِ، فَصَبْرُهُ مَثِيلٌ لِصَبْرِهِمْ، وَمَنْ صَبَرَ صَبْرَهُمْ كَانَ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَأَعْقَبَ أَمْرَهُ بِالصَّبْرِ بِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، أَيْ لَا تَطْلُبْ مِنَّا تَعْجِيلَهُ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يُنَافِي الْعَزْمَ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ تَطْوِيلًا لِمُدَّةِ صَبر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْبِ عَزْمِهِ قُوَّةً.
وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، تَقْدِيرُهُ: الْعَذَابُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لَامُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ لِأَجْلِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا تَسْتَعْجِلْ لِهَلَاكِهِمْ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ صفحة رقم 67

عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ بِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُقُوعِهِ تَطْوِيلُ أَجْلِهِ وَلَا تَعْجِيلُهُ، قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَ قَوْلَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً | إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ |
ومِنْ نَهارٍ وَصْفُ السَّاعَةِ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّ سَاعَةَ النَّهَارِ تَبْدُو لِلنَّاسِ قَصِيرَةً لِمَا لِلنَّاسِ فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ بِخِلَافِ سَاعَةِ اللَّيْلِ تَطُولُ إِذْ لَا يَجِدُ السَّاهِرُ شَيْئًا يَشْغَلُهُ. فَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا
فِي حَدِيثِ الْجُمُعَة قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ»
، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَالسَّاعَةُ جُزْءٌ مِنَ الزَّمَنِ.
بَلاغٌ.
فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ لِيَعْلَمَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ:
بَلاغٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا بَلَاغٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعُنْوَانِ وَالطَّالِعِ نَحْوِ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الظَّهِيرِ: «ظَهِيرٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ»، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي أَعْلَى الصُّكُوكِ نَحْوِ: «إِيدَاعُ وَصِيَّةٍ»، أَوْ مَا يُكْتَبُ فِي التَّأْلِيفِ نَحْوِ مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» «وُقُوتُ الصَّلَاةِ». وَمِنْهُ مَا يُكْتَبُ فِي أَعَالِي الْمَنْشُورَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ كَلِمَةُ: «إِعْلَانٌ».
وَقَدْ يَظْهَرُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢]، وَقَوْلِ سِيبَوَيْهٍ: «هَذَا بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ»، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٦].
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالتَّحْصِيلِ مِثْلُ جُمْلَةِ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: ١٩٦]، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [الْبَقَرَة: ١٣٤]. صفحة رقم 68

فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ.
فَرْعٌ عَلَى جُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ إِلَى مِنْ نَهارٍ، أَيْ فَلَا يُصِيبُ الْعَذَابُ إِلَّا الْمُشْرِكِينَ أَمْثَالَهُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الْبَقَرَة: ١٣٠].
وَمَعْنَى التَّفْرِيعِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ مِمَّا سَمِعْتَ أَنَّهُ لَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩]، وَقَوله: لتنذر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَحْقَاف: ١٢، ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَاف: ٢٧] الْآيَةَ.
وَالْإِهْلَاكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِيمَا مَضَى بَعْضُهُ إِهْلَاكٌ حَقِيقِيٌّ مِثْلُ مَا فِي قِصَّةِ عَادٍ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى، وَبَعْضُهُ مُجَازِيٌّ وَهُوَ سُوءُ الْحَالِ، أَيْ عَذَابُ الْآخِرَةِ: وَذَلِكَ فِيمَا حُكِيَ مِنْ عَذَابِ الْفَاسِقِينَ.
وَتَعْرِيفُ الْقَوْمُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُفِيدٌ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فَيَعُمُّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الْقُرْآنُ فَكَانَ لِهَذَا التَّفْرِيعِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ يُهْلَكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِتَغْلِيبِ إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي لَمَّا يَقَعْ عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيِ الْقَوْمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ الْآيَةَ، فَيَكُونُ إِظْهَارًا فِي
مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ إِهْلَاكِهِمْ أَنَّهُ الْإِشْرَاكُ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا الْفِسْقُ عَنِ الْإِيمَانِ وَهُوَ فِسْقُ الْإِشْرَاكِ. وَأَفَادَ الِاسْتِثْنَاءُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَهْلِكُونَ هَذَا الْهَلَاكَ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٤٧- سُورَةُ مُحَمَّدٍسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَلِكَ فِي التَّفَاسِيرِ قَالُوا: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِتَالِ.
وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالْأَشْهُرُ الْأَوَّلُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا اسْم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهَا فَعُرِفَتْ بِهِ قَبْلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٤] الَّتِي فِيهَا وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَة الْقِتَال فَلِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، مَعَ مَا سَيَأْتِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [مُحَمَّد: ٢٠] أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْقِتَالِ تَسْمِيَةً قُرْآنِيَّةً.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ «الْإِتْقَانِ». وَعَنِ النَّسَفِيِّ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَلَعَلَّه وهم ناشىء عَمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ [مُحَمَّد: ١٣] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى حِرَاءٍ، أَيْ فِي الْهِجْرَةِ. قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَعُدَّتِ السَّادِسَةَ وَالتِسْعِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَقَبْلَ سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَآيُهَا عُدَّتْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ. صفحة رقم 71