
سورة الجاثية
مكية
قوله تعالى: ﴿حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله﴾ - إلى قوله - ﴿مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾، قد تقدم ذكر الاختلاف في " حم ".
والمعنى هذا تنزيل القرآن من عند العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي السماوات والأرض لأيات لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: إن فيها لعبراً وحُججاً للمصدقين بها، أي: إن لها خالقاً لم يخلقها عبثاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، أي: وإن في خلقكم أيها الناس، وما ينشر الله تعالى في الأرض من دابة تدب عليها من غير

جنسكم آيات لقوم يوقنون بحقائق الخلق، وأن الله تعالى اخترع جميع ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، أي: وإن في تعاقب الليل والنهار، وما ينزل من السماء من مطر يكون عنه من النبات رزقكم. وسمي الماء رزقاً لأن عنه يتكون الرزق في الأرض.
وقوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، أي: أنزل الماء فاهتزت الأرض بالنبات بعد أن كانت لا نبات فيها.
ثم قال: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾، أي: وكون الرياح مرة شمالاً ومرة جنوباً، ومرة صبّا ومرة دَبُوراً، ونحو ذلك من اختلافها لمنافع الخلق.
﴿ءايات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، أي عبراً وحججاً لقوم يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه، فيتبعون رسله، ويفهمون عنهم وحيه.
وقوله: ﴿وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات﴾ النصب في " ءايات " حسن على معنى: وإن في

خلقكم آيات. وحسن ذلك لإعادة حرف الجر مع خلقكم.
ويجوز الرفع من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن (تعطفها على الموضع) مثل قراءة الجماعة: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة﴾ [الجاثية: ٣٢] بالرفع، عطف على موضع ﴿وعْدَ﴾.
والوجه الثاني: ترفع " الآيات " بالابتداء، وما قبلها خبرها. وتكون قد عطفت (جملة على) جملة منقطعة كما تقول إن زيداً خارج، وأن أجيئك غداً.
والوجه الثالث: أن ترفع على الابتداء والخبر والجملة في موضع الحال. مثل قوله: ﴿يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٤].

وأما قوله: ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ - إلى قوله - ﴿ءايات﴾، فالرفع حسن على ما تقدم من الأوجه.
والنصب عند سيبويه (والأخفش والكسائي) جائز على العطف على عاملين وهما " إن " وحرف الجر لأنك لم تُعِدْ " في مع " الاختلاف " كما أعدت أولا " في " مع " خلقكم ". فصرت تعطف بالواو على ما عملت فيه " إن " وعلى ما عمل فيه حرف الجر. فتخفض " الاختلاف " وتنصب " الآيات ".
ونظير هذا من الكلام قولك: في الدار والحجرة عمرو فتعطف بالواو على ما عملت فيه " في " وعلى ما عمل فيه الابتداء فتخفض الحجرة وترفع عمراً، فتعطف على عاملين (بحذف واحد.
ولو أعدت " في " لم يكن عطف

على عاملين.
ومنع المبرد القراءة بالنصب وقال: لا يجوز العطف على عاملين.
وكان الزجاج يحتج لسيبويه بأن قال: إن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله رفع فهو أيضاً عطف على عاملين لأنه عطف " واختلاف " على " خلقكم " وعطل " آيات " على موضع " آيات " الأولى.
قال: / فقد صار العطف على عاملين إجماعاً.
وهذا، لا يلزم، لأن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله خبر.
وحكى الفراء رفع " الاختلاف " ورفع " الآيات ". جعل " الآيات " هو " الاختلاف ". وهذا وجه حسن ظاهر لولا أن القراءة سنة.
وإنما بعد العطف على عاملين (عند المبرد وغيره لأن حرف العطف إنما أتى به لينوب مناب العامل للاختصار. فلم يقرأ أن يجعل ينوب مناب عاملين مختلفين،

ولو جاز أن ينوب مناب عاملين) لجاز أن ينوب مناب ثلاثة وأكثر (وهذا لا يقوله أحد) لأنه لو ناب مناب رافع وناصب لكان [رافعاً (ناصباً) في حال، وللزوم أن ينوب مناب رافع وناصب وجار فيكون] ناصباً ورافعاً جاراً في حال. وهذا محال ظاهر على أنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز إذا تأخر المجرور، نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة، وإنما أجازه من أجازه إذا كان المجرور يلي حرف العطف. وهذا تحكم بغير علة.
ثم قال تعالى: ﴿تَلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق﴾، أي: تلك حجج الله نتلوها عليك يا محمد، أي: نخبرك عنها بالحق لا الباطل كما يخبر مشركو قريش عن آلهتهم بالباطل يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣].

ثم قال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ﴾، أي: فبأي حديث يا محمد بعد قرآن الله تعالى وكتابه وآياته يؤمن هؤلاء المشركون.
ومن قرأ بالتاء فمعناه: فبأي حديث بعد قرآن الله سبحانه تؤمنون أيها المشركون.
ثم قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً﴾؟
روي أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يخلف النبي ﷺ في مجلسه ويحدث قريشاً. بأخبار ملوك العجم ويقول: أنا أحسن حديثاً من محمد ﷺ.
فالمعنى: الواد سائل من صديد أهل جهنم لكل كذاب، ذي إثم سامع

لآيات الله تُقرأ عليه ثم يتمادى وتجبره على ربه سبحانه، فلا يذعن لأمره ونهيه كأن لم يسمع ما قرئ عليه ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾
[لقمان: ٧]، أي: صمماً، فلا يسمع شيئاً لإصراره على كفره.
فبشره يا محمد بعذاب مؤلم، أي: موجع يوم القيامة. قال ابن عباس نزلت في الحارث بن كلدة ".
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً﴾، أي: وإذا علم عذا الأفاك الأثيم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً، أي: يسخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم﴾ [الدخان: ٤٣ و ٤٤]، إذ دعا بزبد (وثمر) فقال: تزقموا من هذا، فما يفزعكم محمد إلا بهذا.

ثم قال: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، أي: لهم في الآخرة عذاب يهينهم، ويذلهم في نار جهنم.
وجمع في قوله: ﴿أولئك﴾ رداً على قوله: ﴿لِّكُلِّ أَفَّاكٍ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾، أي: أمامهم جهنم.
﴿وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم﴾ من عذابها. ﴿مَّا كَسَبُواْ﴾ في الدنيا من الأموال والأولاد شيئاً.
﴿وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ﴾ أي: ولا تغني عنهم آلهتهم التي اتخذوها أولياء من دون الله فعبدوها، ولا رؤساؤهم الذين أطاعوهم في الكفر فاتخذوهم أولياء على ذلك من عذاب الله شيئاً.
ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، يعني: نار جهنم وما فيها من أصناف العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿هذا هُدًى والذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾، أي: هذا القرآن الذي أنزلنا هدى لمن وفقه الله إلى الإيمان به والعمل بما فيه. والذين جحدوا آيات ربهم ولم يؤمنوا بها، لهم عذاب مؤلم من الرجز.
قال المبرد: " الرجز: أغلظ العذاب وأشده ".