
وهذا دليل قاطع على أن القرآن اشتمل على أصول العقيدة والإيمان ودلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة، كما اشتمل في مواضع أخرى على الأحكام الفقهية الجزئية في العبادات، والمعاملات، وأحكام الأسرة، والدولة، والأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والحكم، وغير ذلك.
وعيد المكذبين بآيات اللَّه وجزاؤهم
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٧ الى ١١]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
الإعراب:
لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أَلِيمٌ بالرفع: صفة عَذابٌ ويقرأ بالجر: صفة رِجْزٍ.
البلاغة:
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ من صيغ المبالغة على وزن فعّال وفعيل.
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكمي، لأن استعمال البشارة التي تكون عادة بالخير في الشر تهكم.
يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها تشبيه مرسل، أي كأنه لم يسمع آيات القرآن.
هذا هُدىً وصف القرآن بالمصدر الذي هو هدى للمبالغة، كأنه لوضوح حجته عين الهدى.

المفردات اللغوية:
وَيْلٌ كلمة عذاب أَفَّاكٍ كذاب، أي كثير الكذب والإفك أَثِيمٍ كثير الإثم والمعصية آياتِ اللَّهِ القرآن ثُمَّ يُصِرُّ على كفره، والإصرار على الشيء: ملازمته مُسْتَكْبِراً متكبرا متعاظما عن الإيمان بالآيات، وثُمَّ لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات.
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه لم يسمعها، فخففت وحذف ضمير الشأن، والجملة في موقع الحال، أي يصرّ مثل غير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره، والبشارة للتهكم مِنْ آياتِنا القرآن اتَّخَذَها هُزُواً أي مهزوءا بها أُولئِكَ أي الأفاكون لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة، أي عذاب مخز مذل.
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي أمامهم وقدامهم، لأنهم متوجهون إليها، أو من خلفهم، لأنه بعد آجالهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ لا يدفع عنهم ما كَسَبُوا من المال والأولاد والفعال شَيْئاً من عذاب اللَّه وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام أَوْلِياءَ نصراء وأعوان وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يتحملونه.
هذا هُدىً أي هذا القرآن هاد من الضلالة لَهُمْ عَذابٌ لهم حظ من العذاب مِنْ رِجْزٍ الرجز: أشد العذاب أَلِيمٌ موجع.
سبب النزول: نزول الآية (٨) :
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ: نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه.
المناسبة:
بعد بيان الآيات للكفار، وبيان أنهم إن لم يؤمنوا بها مع ظهورها، فلا يؤمنوا بعدها بشيء، أتبعه تعالى بوعيد عظيم بالعذاب الشديد لكل من كذب بتلك الآيات، ثم أصر على كفره بها، ثم ذكر أن جزاءهم جهنم، دون أن تنفعهم أصنامهم شيئا، وأن القرآن العظيم هو الهدى فقط من الضلالة.

التفسير والبيان:
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي الهلاك وأشد العذاب لكل كذاب بآيات اللَّه، كثير الإثم والمعاصي، ولهذا الأفاك حالتان:
الأولى- الإصرار والاستكبار: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي إن هذا الأفاك إذا سمع آيات القرآن تتلى على مسامعه، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية اللَّه وقدرته، ووعده ووعيده، بقي مصرا على كفره، وأقام على ما كان عليه إقامة بقوة وشدة، ولم يتعظ بما يسمع من كلام اللَّه، وتكبر وتعاظم عن الإيمان بالآيات، معجبا بنفسه، وكأنه لم يسمعها، مشبها حاله بحال غير السامع في عدم الالتفات إليها، فأخبره بأن له عند اللَّه عذابا شديد الإيلام، جزاء إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات.
والتعبير عن هذا الخبر المحزن بالبشرى تهكم شديد واحتقار لهم.
ونظير الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام ٦/ ١].
الحال الثانية- الاستهزاء بالآيات: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي وإذا علم هذا الأفاك من آيات اللَّه شيئا، اتخذ ذلك الشيء هزوا، أي موضوعا للسخرية والتندر مما حوته من المعاني، أولئك الأفاكون الذين سبقت صفاتهم لهم عذاب موصوف بالإهانة والذل والخزي بسبب إصرارهم واستكبارهم عن سماع آيات اللَّه واتخاذها موضوع استهزاء واستهانة بالقرآن. والعذاب المهين: هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.
روي- كما تقدم- أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد إلا

شهدا- عسلا- وحين سمع قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي على النار قال:
إن كانوا تسعة عشر، فأنا ألقاهم وحدي.
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب المهين، فقال:
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة، لأنهم متوجهون إليها مثل قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم ١٤/ ١٦] أي من أمامه، أو إن وراء تعززهم بالدنيا وتكبرهم عن الحق جهنم، فإنها خلفهم وستدركهم، ولا يدفع شيئا من العذاب عنهم ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمران ٣/ ١٠، ١١٦]، ولا ينفعهم أي نفع، ولا تنفعهم أيضا الأصنام التي اتخذوها آلهة يعبدونها من دون اللَّه، يرجون منها النفع، ودفع الضرر، ولهم عذاب عظيم دائم مؤلم في جهنم التي هي من ورائهم. وكل ما توارى عنك فهو وراء، تقدّم أو تأخر، كما ذكر في غرائب القرآن.
وسبب التفرقة بين قوله لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وقوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أن الوصف الأول يدل على حصول الإهانة مع العذاب، والوصف الثاني يدل على كونه بالغا أقصى المراتب في كونه ضررا.
ثم وصف اللَّه تعالى القرآن بقوله:
هذا هُدىً، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي هذا القرآن والآيات المتقدمة في هذه السورة هي هادية إلى الحق، ومرشدة إلى الصواب، وموجهة إلى النور من الظلمة والضلال، والذين كفروا بآيات اللَّه القرآنية لهم أشد العذاب يوم القيامة.
فقوله هذا هُدىً أي كامل في كونه هدى، والرجز: أشد العذاب

لقوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [البقرة ٢/ ٥٩] وقوله سبحانه: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف ٧/ ١٣٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- توعد اللَّه تعالى بوعيد شديد كل من ترك الاستدلال بآيات اللَّه بالرغم من وضوحها التام، ثم كفر بها وكذب بما جاءت به، وتمادى في كفره، متعظما في نفسه عن الانقياد لها، وجحد بها استكبارا وعنادا.
والآية عامة في مثل هؤلاء، وإن كان سبب نزولها الخاص هو النضر بن الحارث، أو الحارث بن كلدة، أو أبو جهل وأصحابه.
٢- يتضمن الوعيد أيضا حال كل من استهزأ بآيات اللَّه، وتحدى قدرة اللَّه، فوصف الزقوم بأنه الزبد والتمر، وقال في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر، فأنا ألقاهم وحدي.
٣- وصف اللَّه تعالى نوع عذاب هؤلاء (لأفاكين الكذابين الآثمين الكفرة المعاندين بأوصاف أربعة هي: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
٤- احتاط اللَّه تعالى لحرمة كتابه القرآن، فلم يعرضه للاستهانة والاستهزاء به، ولهذا
روى مسلم في صحيحة عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: «نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو».
٥- لن يغني ولن يفيد هؤلاء الكافرين في تخليصهم من ذلك العذاب كل