
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٦ الى ٣٥]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ أخلصكم وخصصكم. بِالْبَنِينَ نظيره قوله تعالى:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً «١».
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا يعني البنات. دليلها في النّحل ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ من الحزن والغيظ.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل. أي يربي غيرهم يَنْشَؤُا بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين، أي ينبت ويكبر.
فِي الْحِلْيَةِ في الزينة، يعني النساء. قال مجاهد: رخّص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي، حلّ لأناثهم» [١٩٣] «٢».
(٢) فتح الباري: ١٠/ ٢٥٠، منتخب مسند عبد بن حميد: ١٩٣.

وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ للحجة من ضعفهنّ وسفههنّ. قال قتادة في هذه الآية: قلما تتكلم امرأة بحجّتها إلّا تكلمت الحجة عليها، وفي مصحف عبد الله (وهو في الكلام غير مبين).
وقال بعض المفسرين: عني بهذه الآية أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها ويجلّونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس. قال ابن زيد: هذه تماثيلهم الّتي يضربونها من فضة وذهب، وينشئونها في الحلية يتعبدونها. في محلّ من ثلاثة وجوه: الرفع على الابتداء. والنصب على الإضمار، مجازه: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا يجعلونه ربّا أو بنات الله، والخفض ردّا على قوله: مِمَّا يَخْلُقُ وقوله:
بما صرت...
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة عباد الرحمن بالألف والياء!، وأختاره أبو عبيد قال: لأن الإسناد فيها أعلى ولأنّ الله تعالى إنما كذبهم في قوله: «بنات الله» فأخبر إنّهم عبيده وليسوا بناته، وهي قراءة ابن عباس.
أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا هيثم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إنّه قرأها عِبادُ الرَّحْمنِ.
قال سعيد: فقلت لابن عباس: إنّ في مصحفي عبد الرّحمن. فقال: امسحها واكتبها عِبادُ الرَّحْمنِ، وتصديق هذه القراءة، قوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «١»، وقرأ الآخرون عند الرّحمن بالنون واختاره أبو حاتم، قال: لأن هذا مدح، وإذا قلت: عِبادُ الرَّحْمنِ وتصديقها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «٢».
أَشَهِدُوا أحضروا خَلْقَهُمْ حتّى يعرفوا إنّهم أناث، وقرأ أهل المدينة أُشْهِدُوا على غير تسمية الفاعل أي أحضروا. خَلْقَهُمْ حين خلقوا. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة إنّهم بنات الله وَيُسْئَلُونَ عنها.
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد: يعني الأوثان، وإنّما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها. قال الله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فيما يقولون إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون.
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا القرآن. فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ دين. وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وقراءة العامة (أُمَّةٍ) بضم الألف، وهي
(٢) سورة الأعراف: ٢٠٦.

الدين والملة، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد أِمَّةٍ بكسر الألف واختلفوا في معناها، فقيل:
هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت، وقيل: هي النعمة. قال عدي بن زيد: ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ مستنون متبعون.
قالَ قراءة العامة على الأمر، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم.
أَوَلَوْ جاءَكُمْ بالألف أبو جعفر. الباقون جِئْتُكُمْ على الواحد. بِأَهْدى بدين أصوب. مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء، ولا يثنّى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنّه مصدر وضع موضع النعت، وفي قراءة عبد الله (بريء) بالياء. مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، ومجاز الآية: إِنَّنِي بَراءٌ من كلّ معبود إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ إلى دينه. وَجَعَلَها يعني هذه الكلمة والمقالة كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال مجاهد وقتادة: يعني لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وقال القرظي: يعني وجعل وصية إبراهيم الّتي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي الّتي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «١»، وقال ابن زيد: يعني قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «٢» وقرأ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «٣».
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ في الدّنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن، وقال الضحاك:
الإسلام. وَرَسُولٌ مُبِينٌ يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد صلّى الله عليه وسلم.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنّهما مكّة والطائف، واختلفوا في الرجلين من هما. قال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكّة وكان يسمى ريحانة قريش، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف.
وقال مجاهد: عتبة بن الربيع من مكّة وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف. قتادة: هما الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، وقال السدي: الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير.
(٢) سورة البقرة: ١٣١.
(٣) سورة الحج: ٧٨.

قال الله سبحانه وتعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا ملكا وهذا مملوكا، وقرأ ابن عباس وابن يحيى (معايشهم) وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي ليسخّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدّنيا، هذا بماله وهذا بأعماله هذا قول السدي وابن زيد، وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا فهذا عبد هذا، وقيل: يسخر بعضهم من بعض، وقيل: يتسخر بعضهم بعضا.
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني الجنّة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ في الدنيا من الأموال وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الكفر فيصيروا كلّهم كفّارا. هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: يعني: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً في طلب الدّنيا واختيارها على العقبى.
لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب سَقْفاً بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع اعتبارا بقوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «١»، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع. يقال سقف وسقّف مثل رهن ورهّن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما، وقيل: هو جمع سقيف، وقيل: هو جمع سقوف وجمع الجمع. وَمَعارِجَ أي مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم، وقرأ أبو رجاء العطاردي (ومعاريج) وهما لغتان واحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح.
عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون ويرتقون ويصعدون بها، ظهرت على السطح إذا علوته. قال النابغة الجعدي:
بلّغنا السماء مجدنا وسناؤنا | وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا «٢» |
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة وَسُرُراً من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً أي ولجعلنا لهم مع ذلك وَزُخْرُفاً وهو الذهب نظير بيت مزخرف، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب.
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا شدده عاصم وحمزة على معنى وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «٣»، وخففه الآخرون على معنى. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «٤» فتكون [لغة] الواصلة وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ للمؤمنين.
(٢) لسان العرب: ٤/ ٥٢٩،
(٣) سورة الزخرف: ٣٥.
(٤) سورة آل عمران: ١٤.