
وهذه الآيات تعقيب ثان على أقوال الكفار في صورة تذكير بإبراهيم عليه السلام، فقد قال لأبيه وقومه: إني نابذ ما تعبدون من أصنام وبريء منها ولائذ بالذي خلقني وحده فهو الذي يهديني إلى طريق الحق القويم. وقد جعل إبراهيم هذا الأمر وصية دائمة لأنساله من بعده حتى يسيروا عليه ويتذكر من يضلّ منهم فيعود عن ضلاله إليه.
والآيات قد تلهم أنه أريد بها تذكير العرب السامعين بطريقة ووصية من يعرفون ويعترفون بأنه أبوهم الأكبر على سبيل التنديد والإفحام. فإذا كانوا يريدون التمسك بتقاليد الآباء فهذا هو تقليد أبيهم الأكبر وعليهم أن يعودوا عن ضلالهم إليه. وقد شرحنا ما كان يتداوله العرب العدنانيون من تقليد بنوتهم لإبراهيم عليه السلام في سورة الأعلى فلا نرى حاجة إلى الإعادة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
. (١) متعت: هنا بمعنى يسرت لهم الأسباب والوسائل.
(٢) القريتين: كناية عن مدينتي مكة والطائف.
(٣) سخريا: من التسخير والسخرة بمعنى الاستخدام لقضاء المصالح.
احتوت الآيات صورة أخرى من صور الجدل واللجاج بين النبي ﷺ وزعماء الكفار:
١- فالله قد أنعم على السامعين وآبائهم من قبل ويسّر لهم وسائل الحياة

ورغدها فاغتروا وانحرفوا عن جادة الحق فأرسل إليهم رسوله بالحق فظلوا في انحرافهم.
٢- وقابلوا الدعوة بالجحود ووصفوها بالسحر وكفروا بها.
٣- ثم قالوا إن القرآن لو كان حقا من عند الله لأنزل على عظيم من عظماء مكة أو الطائف.
٤- وقد ردت الآية الأخيرة على هذا القول منددة منكرة في صيغة التساؤل عما إذا كانوا يتحكمون في قسمة رحمة الله وتوزيعها وتعيين من هو الأحق بعطف الله واصطفائه لقرآنه، ثم دعمت الردّ بتقرير كون الله هو الذي قسم بينهم معيشتهم، وكون ما هو قائم بينهم من الفروق وارتفاع بعضهم فوق بعض إنما هو مظهر من مظاهر الحياة الدنيا وطبيعتها ليتمكن الناس من استخدام بعضهم لبعض وانتفاع بعضهم من بعض في المصالح والحاجات، وكون رحمة الله وعطفه هما خير مما يجمعه الناس ويتمتعون به من مال وجاه وبسطة عيش، فلا يحظى بهما إلّا الذين يصطفيهم الله ويراهم أهلا لهما.
والآيات متصلة بالسياق من حيث احتواؤها صورة لمواقف زعماء الكفار وعقائدهم وأقوالهم التي ما فتئت فصول السورة تذكرها.
تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) والآية التالية لها
والمتبادر من الآيات أن زعماء الكفار كانوا يرون أنفسهم أحقّ بالنبوة ومهمة الدعوة لأنهم أصحاب الحول والمكانة في بيئتهم. أو أن بعضهم كان يرى نفسه أحقّ بذلك لأنهم كانوا على شيء من العلم بالأديان والمعارف السابقة بالإضافة إلى حوله ومكانته في بيئته. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين بعض الأسماء التي كان المشركون يقصدونها من عظماء مكة والطائف مثل الوليد بن المغيرة أو

عتبة بن ربيعة من مكة وحبيب بن عمرو بن عمير أو عروة بن مسعود أو ابن عبد ياليل من الطائف. ولقد روى أن النضر بن الحرث بن كلدة أحد زعماء الكفار كان يعرف كثيرا من تاريخ الفرس وغيرهم وكان واقفا على شؤون الأديان السابقة فكان يقول على سبيل الصدّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن حديثه ليس أطلى من حديثي، وإنه إنما يحدثكم بأساطير الأولين فتعالوا إليّ وأنا أحدثكم عن رستم وإسفنديار بحديث أطلى مما يحدثكم «١». وقد احتوت الآيات ردا عليهم ثم تنويها بالنبي ﷺ وتقريرا لأهليته لاصطفاء الله له لمهمة الرسالة العظمى.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية وموضوعية فإنها تحتوي تلقينا جليلا عاما بأفضلية الصلاح الروحي والخلقي، على البهرج المادي وكثرة الثروة واتساع الجاه في الدنيا. وإلى هذا فإن الآيات تدل على أن الوجاهة والزعامة كانتا تلعبان دورا كبيرا في بيئة النبي ﷺ وعصره. وعلى أن النبي ﷺ لم يكن زعيما ذا شأن نافذ، وتنطوي على سبب من أسباب امتناع زعماء الكفار من الاستجابة إلى دعوته ومناوأتها، وهو الاعتداد والاستكبار والأنفة والغيظ من اختصاصه بالنبوة والقرآن دونهم. وهو ما انطوى في آيات سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣)، وآية سورة ص هذه: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨).
تعليق على جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
ولقد قلنا في شرح الآيات: إن جملة وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا هي بسبيل التنبيه على أن ذلك مظهر من مظاهر الحياة