وهذا دليل على إبطال التّقليد في العقائد والأصول، لأن الله ذمّهم على تقليد آبائهم، وتركهم النّظر فيما دعاهم إليه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
١٠- إن مقالتهم تلك تشبه مقالة من سبقهم من الأمم المكذبة لرسلها، فإنّ أهل التّرف والرؤساء فيهم اقتدوا بالآباء والأجداد دون دليل.
١١- إنهم مصرّون على الشرك والتّقليد الأعمى، حتى ولو جاءهم رسول الله من عند الله بأهدى وأرشد من ذلك الدّين الباطل.
١٢- إن المنتظر أمام هذا الإصرار على الكفر ما ذكره تعالى وهو الانتقام الشديد من الكافرين، وتدميرهم وإهلاكهم، وآثارهم ظاهرة للعيان، عبرة للمعتبر، فيا أهل مكة وأمثالكم انظروا في مصيركم المرتقب.
الرّد على تقليد الآباء، واختيار الأنبياء وبيان حال الدنيا
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٥]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوانُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
الإعراب:
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين، فحذف المضاف، وأراد ب الْقَرْيَتَيْنِ: مكة والطائف.
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً لِبُيُوتِهِمْ: بدل من لِمَنْ بإعادة الجار، بدل الاشتمال، وقرئ «سقفا» و «سقفا» فسقف: جمع سقف، نحو رهن ورهن. وسقف: واحد ناب مناب الجمع.
وَزُخْرُفاً إما منصوب بفعل مقدر، أي وجعلنا لهم زخرفا، أو معطوف على موضع قوله تعالى: مِنْ فِضَّةٍ. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ إِنْ: مخففة من الثقيلة، واسمها:
إما كُلُّ إلا أنه لما خففت نقصت عن شبه الفعل، فلم تعمل وارتفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، وإما بتقدير الهاء أي إنه كل ذلك، فحذف اسمها وهو الهاء وخففت، فارتفع كُلُّ بالابتداء، وجملة كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ.. من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر إِنْ. وهذا التقدير ضعيف لتأخير اللام في الخبر. ولَمَّا بمعنى إلا، ويصح أن تكون إِنْ نافية بمعنى ما. ويقرأ «لما» بالتخفيف، فتكون ما: زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف.
البلاغة:
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ كَلِمَةً: مجاز مرسل، والمراد بال كَلِمَةً: الجملة التي قالها، وهي: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم هذا، ليروا كيف تبرّأ من التقليد، وتمسّك بالدّليل. لِأَبِيهِ آزر. بَراءٌ بريء من عبادتكم أو معبوديكم، وهو مصدر نعت به، فيستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث، وقرئ «بريء» و «برآء» ككريم وكرماء.
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذي فطرني، أو متّصل على أن
«ما» تعمّ ما كانوا يعبدون وهو الله والأوثان، كأنه قال: إنني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني.
سَيَهْدِينِ يرشدني إليه، وهو مقرر لما قال مرة أخرى: يَهْدِيَنِ كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال.
وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحّد الله ويدعو إلى توحيده. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحّد، فيرجع عما كان عليه إلى دين إبراهيم أبي الأنبياء والمسلمين، وهو يشمل أهل مكة وغيرهم.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ أي هؤلاء المعاصرين للرسول من قريش وآباءهم، فاغتروا بذلك وانهمكوا في الشهوات، ولم أعاجلهم بالعقوبة. وقرئ «متعت» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً مبالغة في تعبيرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن ودعوة التوحيد.
وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بماله من المعجزات، أو مبين للتوحيد بالحجج والآيات المتضمنة الأحكام الشرعية، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن. هلا. مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين:
مكة والطائف. والرجلان هما: الوليد بن المغيرة من مكة، وكان يسمى ريحانة قريش، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. عَظِيمٍ زعيم ذي جاه ومال، فإن الرّسالة منصب خطير لا يليق إلا بعظيم، ولم يعلموا أن معيار اختيار الأنبياء هو التّحلي بالفضائل والكمالات الأدبية، لا بالاعتبارات الدنيوية.
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكّمهم، والرّحمة: النّبوة.
قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا جعلنا معيشتهم مقسومة فيما بينهم، فبعضهم غني، وبعضهم فقير، ويتفاوتون في مرتبتي الغنى والفقر. وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ جعلنا بينهم تفاوتا في الرّزق وغيره. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ وهو الغني. بَعْضاً وهو الفقير.
سُخْرِيًّا مسخرا في العمل بالأجرة، أي يستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم، والياء: للنسب، وقرئ بكسر السين «سخريا». وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي النّبوة وما يتبعها، أو الجنّة. خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي خشية أن يكون جميع الناس على ملّة واحدة وهي الكفر. سُقُفاً جمع سقف، وقرئ: «سقفا». وَمَعارِجَ ومصاعد جمع معرج كمنبر، وقرئ: «معاريج» جمع معراج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يصعدون ويعلون إلى السطوح.
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة. وَسُرُراً من فضة، جمع سرير. يَتَّكِؤُنَ يستندون.
وَزُخْرُفاً ذهبا أو زينة مزوقة، والمراد به الزينة كما قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ
[يونس ١٠/ ٢٤]، ومعنى الآية: لولا خوف الكفر على المؤمنين من إعطاء الكافر ما ذكر، لأعطيناه ذلك لاحتقار الدنيا عندنا.
لَمَّا بمعنى إلّا «١»، وإن نافية، وعلى قراءة التخفيف «لما» تكون ما زائدة. مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يتمتع به فيها ثم يزول. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي نعيم الآخرة وهو الجنة عند الله- عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان- لمن اتّقى الكفر والمعاصي.
سبب النّزول: نزول الآيتين (٣١- ٣٢).
تقدّم في سورة يونس في الآية (٢) سبب نزول الآيةنُزِّلَ..
وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن عباس «أن العرب قالوا: وإذا كان النّبي بشرا فغير محمد كان أحق بالرّسالة: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردّا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ».
وروى ابن المنذر عن قتادة «أن الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانة قريش- كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقّا لنزل عليّ أو على أبي مسعود، فقال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني النّبوة. فيضعونها حيث شاؤوا».
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتماد المشركين على التّقليد في العقائد والأصول، بيّن فساده بأسلوب المشركين أنفسهم، وهو أن إبراهيم الخليل عليه السلام
أبو العرب وأشرف آبائهم تبرأ من دين آبائه بالدّليل، وحكم بأن اتّباع الدّليل أولى من متابعة الآباء، فوجب تقليده في ترك تقليد الآباء وفي ترجيح الدّليل على التّقليد.
ثم أبان الله تعالى مفاسد اعتماد قريش على التّقليد وترك التّفكر في الحجة والدّليل، وهي: أولا- اغترارهم بالمهلة والمدّ في العمر والنّعمة، واشتغالهم بالتّنعم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد، وثانيا- تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفهم له بأنه ساحر كذاب، وثالثا- قولهم بأن الرّجل الشريف وهو كثير المال ورفيع الجاه هو الأحقّ بالنّبوة من محمد الفقير اليتيم.
فردّ تعالى عليهم بأنه هو الذي قسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، وأن التّفاوت في شؤون الدنيا هو الأصلح لنظام المجتمع، وأن ميزان الاصطفاء للنّبوة إنما يعتمد على القيم الأدبية والروحية والأخلاقية، وألا قيمة للدنيا وأمتعتها وزخارفها وثرواتها، ولولا خوف انتشار الكفر وشموله بين العالم، لجعل الله للكفار ثروات طائلة، وبيوتا ذات سقف وأبواب وسرر ومصاعد من فضة، وزينة في كل شيء، وإنما نعيم الآخرة للمتّقين الذين يتّقون الكفر والمعاصي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن إبراهيم الخليل إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأشرف آباء العرب عليه السلام بأنه تبرأ من دين الآباء بالحجة والدليل، فقال:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي واذكر أيها الرّسول لقومك قريش المعتمدين على تقليد الآباء والأجداد في عبادة الأصنام: حين تبرأ إبراهيم عليه السلام مما يعبد أبوه آزر، وقومه من الأصنام، إلا من عبادة خالقه وخالق الناس جميعا، والذي قال بأنه سيرشدني لدينه، كما أرشدني في الماضي، ويثبتني على الحق. وقوله: إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي
إما استثناء متّصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم، وإما منقطع، أي لكن الذي فطرني فهو يهديني، قال ذلك ثقة بالله، وتنبيها لقومه أن الهداية من ربّه.
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، فلا يزال فيهم- ولله الحمد- من يوحّد الله سبحانه، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة، فإنهم إذا ذكروه، تبعوه في ملّته الحنيفية، وتأثّروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة: «لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة».
ثمّ ندّد الله تعالى بموقف أهل مكة ووبّخهم على اغترارهم بالنّعمة وطول العمر واستمرار السّلطة والنّفوذ، فقال:
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي بل متّعت هؤلاء المشركين من أهل مكة وآبائهم من ذريّة إبراهيم بطول العمر والسّعة في الرّزق، وأنعمت عليهم في كفرهم، فاغتروا بالمهلة، وأكبّوا على الشّهوات وطاعة الشّيطان، وشغلوا بالتّنعم عن كلمة التّوحيد، إلى أن جاءهم الحق وهو القرآن العظيم، والرّسول المبين الذي أوضح مبدأ التّوحيد بالبراهين الساطعة، وشرع الله وأحكامه القاطعة، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وزاد في توبيخهم بإعراضهم عن رسالة الحقّ- رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم- فقال:
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، قالُوا: هذا سِحْرٌ، وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ أي حينما جاءهم القرآن والرّسول المؤيّد بالمعجزات دليلا على صدقه، وصفوا ما جاء به بأنه سحر وأباطيل، وليس بوحي من عند الله، وقالوا: إنّا بما أرسل به جاحدون مكابرة
وعنادا وحسدا وبغيا، فضمّوا إلى شركهم وضلالهم تكذيب الحق ورفضه، والاستهزاء به، والتّصريح بالكفر برسالته وإنكار نبوته.
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من الكفر وهو النّوع الرّابع من كفرياتهم المذكورة في هذه السورة «١»، فقال:
وَقالُوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أي وقال كفار قريش وأمثالهم: هلا أنزل القرآن على أحد رجلين عظيمين من مكة أو الطائف، وهما الوليد بن المغيرة ومسعود بن عروة الثقفي، فكل منهما عظيم المال والجاه، وسيد في قومه. المعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين. وهذا اعتراض منهم على الله الذي أنزل القرآن على رسوله.
فأبطل الله تعالى هذه الشّبهة من ثلاثة وجوه:
الأول- أَهُمْ «٢» يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي إن هؤلاء المشركين تجاوزوا حدودهم وأقدارهم، فأرادوا أن يجعلوا ما لله لأنفسهم، وليس الأمر مردودا إليهم، بل إلى الله عزّ وجلّ، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا وأشرفهم وأطهرهم أصلا. أيجوز لهم أن يقسموا رحمة ربّك وهي النّبوة، فيختاروا لها من يريدون؟ نحن الذين نقسم الأرزاق والحظوظ بين العباد، ونفضل بعضهم على بعض درجات في القوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، والغنى والفقر، لأنا لو سوّينا بينهم في هذه الأحوال لم يتعاونوا فيما بينهم، ولم يتمكنوا
(٢) الاستفهام هنا للإنكار والتّعجب.
من استخدام بعضهم بعضا، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض، وإلا فسد نظام العالم. وليس المعنى في الاستخدام أو الاستئجار أو الاستعمال على عمل شيء من الذّلّ والمهانة، لأن حقوق العامل مصونة في الإسلام، وعلى صاحب العمل واجبات خلقية ومادية كثيرة توجب عليه التّرفع عن الغبن والظلم والأذى والإساءة، فإن عجزوا عن تغيير نظام الدنيا، فكيف يعترضون على حكمنا بتخصيص النبوة والرّسالة في بعض العباد؟! والمعنى: إنكار أن الرّزق منهم، فكيف تكون النّبوة منهم؟! الوجه تكون النّبوة منهم؟! الوجه الثاني- وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي إن ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة خير مما يجمعون من الأموال وسائر متاع الدنيا، وإذا خصّ الله بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدّين، فهذه الرّحمة خير من أموال الدنيا كلها، لأن عرض الدنيا زائل، ورحمة الله وفضله باق دائم.
ثم أبان الله تعالى حقارة الدنيا، فقال:
الوجه الثالث- وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً
أي ولولا الخوف وكراهة أن يكون الناس كلهم على ملّة الكفر، ميلا إلى الدنيا وزخرفها، فلا يبقى في الأرض مؤمن، لأعطينا الكفار ثروات طائلة، وجعلنا سقف بيوتهم، وسلالمهم ومصاعدهم التي يرتقون ويصعدون عليها، وأبواب البيوت والسّرر التي يتكئون عليها من فضة خالصة، وذهب وزينة ونقوش فائقة، لهوان الدنيا عند الله تعالى.
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي ليس كل ذلك إلّا شيئا يتمتع به تمتعا قليلا في الدنيا، لأنها زائلة قصيرة الأجل، والآخرة بما فيها من أنواع النّعيم والجنان هي لمن اتّقى الشّرك والمعاصي، وآمن
بالله وحده، وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى، ونعيمها الدائم الذي لا يزول، وهي لهم خاصة، لا يشاركهم فيها أحد غيرهم.
أخرج التّرمذي، وابن ماجه والبغوي والطّبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء»
وفي رواية: «لو كانت الدنيا..»
وفي رواية الطبراني «أنه لما آلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم من نسائه، جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرآه على رمال حصير، قد أثّر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يا رسول الله، هذا كسرى وقيصر، هما فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متكئا، فجلس وقال: أو في شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا»
وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- لقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من عبادة الأصنام، وخرج على المألوف الفاسد بالحجة والدليل.
٢- إن ترك التّقليد في العقيدة والرّجوع إلى متابعة الدّليل واجب متعيّن على كلّ إنسان في أمر الدّين، وكذلك ترك التّقليد، واتّباع الدّليل هو الأولى في شؤون الدنيا أيضا، ليكون المرء على بيّنة من أمره، إلا فيما تتطلبه ظروف القيادة الحربية ونحوها للحفاظ على الأسرار، فيجب تنفيذ أمر القائد وطاعته، وإن لم يعرف الدّليل.
٣- جعل إبراهيم عليه السلام كلمة التّوحيد ومقالته السابقة: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ باقية في عقبه، وهم ذريته، ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة من عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب: من يأتي بعده.
٤- قال ابن العربي: كان لإبراهيم في الأعقاب دعوتان مجابتان:
إحداهما- في قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ١٢٤]، فقد قال له: نعم، إلا من ظلم منهم، فلا عهد له.
ثانيهما- قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم ١٤/ ٣٥].
وقيل: بدل الأولى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء ٢٦/ ٨٤]، فكلّ أمّة تعظّمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو في نوح «١».
٥- وقال ابن العربي أيضا: جرى ذكر العقب هاهنا موصولا في المعنى بالحقب، أي متّصلا مستمرا على ممرّ السنين، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى»
أو التّحبيس،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أبو داود والنسائي، عن جابر: «أيّما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» «٣»
، أي إن الهبات والأوقاف تشمل الدرجة الأولى من الأولاد ذكورا وإناثا، وولد الذّكور دون الإناث لغة وشرعا في الدرجة الثانية وما يليها، وهذا مذهب المالكية.
(٢) العمرى: تمليك الشيء مدة العمر.
(٣) أحكام القرآن، المرجع والمكان السابق.
وقال جماعة كابن عبد البرّ وغيره: إن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس (الأوقاف الذّرية أو الأهلية).
٦- عجبا لقريش وأمثالها متّعهم الله وآباءهم بوافر النّعم في الدنيا، ولما جاء الحقّ وهو القرآن المشتمل على التوحيد والإسلام الذي هو أصل دين إبراهيم، وكلمته الباقية في عقبه، وجاءهم الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، كفروا به وقالوا: إنه سحر لا وحي.
٧- وقالوا أيضا: هلا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من إحدى القريتين: مكة والطائف، إما الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل من مكة، وإما أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، ظانين أن النبوة لصاحب المنصب العالي والرجل الشريف وهو كثير المال، رفيع الجاه.
وفاتهم أن معيار الاصطفاء للنّبوة إنما هو القيم الرّوحية والأدبية والنّفسية.
وفاتهم أيضا أنهم يتدخلون في ولاية الله وسلطانه ومشيئته، فيضعون النّبوة حيث شاؤوا، وهذا افتئات على سلطان الله، فإن مرسل الرّسل هو الذي يختارهم، وفاتهم كذلك أن رحمة الله وفضله ونعمته في الآخرة وهي الجنة، ونعمته في الدنيا وهي النبوة أفضل مما يجمعون من الدنيا.
٨- إن الله سبحانه هو لا غيره الذي يقسم الأرزاق والحظوظ بين عباده، بمقتضى حكمته ومشيئته، فيفقر قوما ويغني آخرين، فإذا لم يكن أمر الدنيا لأحد من العباد، فكيف يفوّض أمر النّبوة إليهم؟! ٩- وإن الله تعالى هو الذي يفاضل بين عباده ويفاوت بينهم في مقومات الحياة وقيمها من القوة والضعف، والعلم والجهل، والحذاقة والبلاهة، والشهرة والخمول، لأن تحقيق المساواة في هذه الأمور يؤدي إلى الإخلال بنظام العالم،
ويفسد المصالح، ويعطّل المكاسب، فيعجز الواحد من تسخير غيره لخدمة أو عمل، مقابل أجر عادل.
١٠- ليس التّفوق المادي في الدنيا دليلا على صلاح أصحابه، إذ لا قيمة للدنيا وثرواتها في ميزان الله، ولولا كراهة أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطاهم الله ما وصف من زخارف الدنيا، لهوانها عند الله عزّ وجلّ. والخلاصة: ردّ الله تعالى على اقتراح العرب كون الرّسالة لأحد رجلين بوجوه ثلاثة: أولها- قوله على سبيل الإنكار: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النّبوة فيضعوها حيث شاؤوا، وثانيها- قوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ لأن الدنيا فانية، ودين الله باق لا يزول. وثالثها- قوله:
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً كما تقدّم تفسيرها «١».
١١- استدلّ ابن العربي بقوله تعالى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ، على أن السّقف لصاحب السّفل، ولا حقّ فيه لصاحب العلو، لأن الله تعالى جعل السّقوف للبيوت، كما جعل الأبواب لها، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى.
أما السّفل فاختلفوا فيه، فمنهم من قال: هو له، ومنهم من قال: ليس له في باطن الأرض شيء، والرّاجح ما
بيّنه حديث الإسرائيلي الصحيح: أنّ رجلا باع من رجل دارا، فبناها فوجد فيها جرّة من ذهب، فجاء بها إلى البائع، فقال: إنما اشتريت الدّار دون الجرّة، وقال البائع: إنما بعت الدّار بما فيها، وكلاهما تدافعها، فقضى بينهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يزوّج أحدهما ولده من بنت الآخر، ويكون المال بينهما.
قال ابن العربي وتبعه القرطبي: والصّحيح أن العلو والسّفل له، إلا أن
يخرج عنهما بالبيع، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين، فله منه ما ينتفع به، وباقية للمبتاع منه «١».
ثم استطرد القرطبي في بيان بعض أحكام العلو والسّفل، نجتزئ منها ما يلي «٢» :
أ- ليس لصاحب السّفل أن يهدم إلا لضرورة، ويكون هدمه أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو.
ب- وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضرّ بصاحب السّفل.
ج- ولو انكسرت خشبة من سقف العلو أدخل مكانها خشبة ليست أثقل منها، منعا من ضرر صاحب السّفل.
د- وباب الدار على صاحب السّفل.
هـ- ولو انهدم السّفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السّفل، فإن أبى صاحب السّفل من البناء قيل له: بع ممن يبني.
وإن إصلاح السّفل على صاحبه.
ز- ليس لصاحب السّفل أن يحدث ما يضرّ بصاحب العلو، فإن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب السّفل، ولصاحب العلو منعه من الضّرر، لحديث السفينة الذي أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما عن النعمان بن بشير:
«مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا- اقترعوا- على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٨٦.