
في ساعة واحدة.
جاء في الخبر: «ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار».
والخلاصة: ذكر الله تعالى ست صفات ليوم القيامة: وهي كونه يوم التلاق، وكون الخلق بارزين ظاهرين فيه، ولا يخفى على الله منهم شيء، ويظهر فيه الملك التام لله الواحد القهار، وتجزى فيه كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا ظلم في الحساب الذي هو سريع الإجراء والتنفيذ وتحقيق المطلوب.
أوصاف أخرى هائلة رهيبة ليوم القيامة
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
الإعراب:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ إِذِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ الذي هو مفعول به ل أَنْذِرْهُمْ لا ظرف، لأن الإنذار لا يكون يوم الآزفة. والْقُلُوبُ مبتدأ، ولَدَى الْحَناجِرِ خبر. وكاظِمِينَ

حال من ضمير لَدَى أو حال من أصحاب القلوب. و: من في مِنْ حَمِيمٍ زائدة، تقديره:
ما للظالمين حميم ولا شفيع. ويُطاعُ جملة فعلية صفة ل شَفِيعٍ.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا.. فَيَنْظُرُوا إما منصوب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن» أو مجزوم عطفا على يَسِيرُوا وكَيْفَ في موضع نصب، لأنها خبر كانَ وعاقِبَةُ: اسم كان المرفوع، وفي كَيْفَ ضمير يعود على العاقبة. ويجوز جعل كانَ تامة، فلا تحتاج إلى خبر، فيكون كَيْفَ ظرفا ملغى لا ضمير فيه. وكذلك كانُوا في قوله: الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ يجوز فيها الوجهان، ويكون أَشَدَّ إذا جعلت كانَ بمعنى «وقع» حالا. وقُوَّةً تمييز. وجملة كان واسمها وخبرها مفعول: ينظروا. وكانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً جواب كَيْفَ.
البلاغة:
ما لِلظَّالِمِينَ أي الكفار، فيه وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بهم، وإنه لظلمهم.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ استفهام إنكاري.
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة، سميت بها لأزوفها، أي قربها، يقال: أزف الرحيل يأزف أزفا: قرب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ ترتفع خوفا عند الحناجر أي الحلوق، جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى. لِلظَّالِمِينَ الكفار كاظِمِينَ ممتلئين غما حَمِيمٍ قريب نافع أو محب وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ مشفع أي تقبل شفاعته، ولا مفهوم للوصف: يُطاعُ إذ لا شفيع لهم أصلا كما قال تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٠٠] أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا.
يَعْلَمُ الله خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة، كالنظرة الثانية إلى الحرام، واستراق النظر إليه، فالمراد الأعين الخائنة: وهي التي تختلس النظر إلى المحرّم وتسارقه وَما تُخْفِي الصُّدُورُ القلوب، أي ما تكتمه الضمائر. والجملة خبر خامس للقلوب، للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلّق العلم والجزاء.

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق، فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون، أي كفار مكة مِنْ دُونِهِ أي الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فكيف يكونون شركاء لله؟ وهذا تهكم بهم، لأن الجماد لا يقال فيه: إنه يقضي أو لا يقضي إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم، وهذا تعليل وتقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق، ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، وتعريض بحال ما يدعونه من دونه.
عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ من قلاع ومصانع وقصور ومدائن حصينة فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أهلكهم واقٍ حافظ يدفع عنهم السوء أو العذاب.
بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والأحكام الواضحة إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ ليس هناك عقاب أشد منه.
المناسبة:
بعد بيان كون الأنبياء ينذرون الناس يوم التلاق، أتى بأوصاف هائلة رهيبة أخرى ليوم القيامة، لتخويف الكفار بعذاب الآخرة، ثم خوفهم بعذاب الدنيا المماثل لإهلاك الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل.
التفسير والبيان:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ أي خوف أيها الرسول الكفار يوم القيامة، ليؤمنوا ويقلعوا عن الشرك، ذلك اليوم الذي لكأن القلوب تزول من مواضعها من الخوف، وترتفع حتى تصير إلى الحلوق، حال كون أصحابها مكروبين ممتلئين غما.
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي وحال كون أولئك الكافرين ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع مشفع تقبل شفاعته لهم.
والمقصود بالآية تخويف الكفار وترويعهم من شدة الخوف وأهوال يوم

القيامة. وفي الآية إشارة إلى أن الكفار يوم القيامة يشتد خوفهم، حتى لكأن قلوبهم لدى حلوقهم، وفيها تصريح بعدم جدوى شفاعة الأصنام كما زعموا وتأملوا.
والقيامة وإن طال زمانها في تقدير الناس إلا أنها آتية من غير أي شك فيها، وكل آت قريب، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر ٥٤/ ١] وقال جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء ٢١/ ١] وقال سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل ١٦/ ١] وقال عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً، سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك ٦٧/ ٢٧].
ثم أعلمهم تعالى بشمول علمه وضبطه ودقته، فقال:
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي إن الله يعلم النظرة الخائنة التي ينظرها العبد إلى المحرّم، ويعلم ما تسرّه الضمائر من أمور خيّرة أو شريرة، حتى حديث النفس أو خواطر النفس. وهذا يعني أن علم الله تام محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها، ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حق الحياء، ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة، وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر، أي مضمرات القلوب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمرّ به وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطّلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها «١».

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي والله يحكم بالحكم العادل، فيجازي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة، ويجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي والذين يعبدونه من الأصنام من غير الله، لا يتمكنون من القضاء بشيء، أي فلا يحكمون بشيء، ولا يملكون شيئا، لأنهم لا يعلمون شيئا، ولا يقدرون على شيء، فالذي تجب عبادته هو القادر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فإن الله سميع لأقوال خلقه، بصير بأفعالهم، فيجازيهم عليه يوم القيامة.
وهذا وعيد لهم على أقوالهم وأفعالهم وأنه يعاقبهم عليه، وتصريح بعدم جدوى عبادة الأصنام والأوثان والأنداد وغيرها من المعبودات، وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضي أو لا يقضي.
هذه موجبات التخويف من عذاب الآخرة، ثم خوفهم الله تعالى بعذاب الدنيا، فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي أرشدهم الله تعالى إلى الاعتبار بغيرهم، والمعنى: أفلم يمش هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد، فينظروا مآل حال الذين مضوا من الكفار المكذبين بالأنبياء، وما حل بهم من العذاب والنكال، مع أنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من كفار مكة وأمثالهم، وأبقى آثارا في الأرض، بما عمروا فيها من الحصون والقصور، وأقاموا من المدن والحضارات.
فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وما كان لهم من دافع يدفع عنهم العذاب، وللكافرين أمثالها. وهذا تحذير واضح للكافرين في كل زمان بما حل بالأمم الغابرة.

ونظير بعض الآية: قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف ٤٦/ ٢٦] وقال سبحانه: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الروم ٣٠/ ٩].
ثم ذكر الله تعالى علة إهلاكهم وتدميرهم، فقال:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَكَفَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أي ذلك الأخذ والإهلاك بسبب أن رسلهم كانوا يأتونهم بالحجج الواضحة على الإيمان الحق، فكفروا بما جاءوهم به، فأهلكهم الله ودمّر عليهم، إن الله ذو قوة عظيمة وبطش شديد، يفعل كل ما يريده، لا يعجزه شيء، وعقابه أليم شديد وجيع لكل من عصاه، فيا أيها الكفار والعصاة اعتبروا واتعظوا بغيركم، فالسعيد من وعظ بغيره.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات شيئان: التخويف من عذاب الآخرة، والتحذير من عذاب الدنيا.
أما عذاب الآخرة: فقد ذكر الله تعالى ثمانية أسباب موجبة للخوف وهي «١» :
١- أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من العذاب لمن أذنب.
٢- أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن زال القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة.
٣- لا يمكنهم أن ينطقوا لشدة ما اعتراهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب القلق والاضطراب.
٤- ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع يطاع فيهم، فتقبل شفاعته.