آيات من القرآن الكريم

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

وقرأ أبي «لينذر يوم» ببناء ينذر للفاعل ورفع يوم على الفاعلية مجازا. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح «لينذر» مبنيا للمفعول «يوم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه «لتنذر» بالتاء الفوقية فقيل: الفاعل فيه ضمير الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: ضمير الروح لأنها تؤنث وقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل: فما يكون حينئذ؟ فقيل: يقال: لِمَنِ الْمُلْكُ إلخ، وقوله تعالى:

صفحة رقم 310

الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ أي من النفوس البرة والفاجرة بِما كَسَبَتْ أي من خير أو شر لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع حسابه إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن فيصل إلى المحاسب من النفوس ما يستحقه سريعا. روي عن ابن عباس أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها من تتمة الجواب جيء به لبيان إجمال فيه، والتذييل لتعليل ما قبله.
والمنادي بذلك سؤالا وجوابا واحد.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: «يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط ولم يخطأ فيها فأول ما يتكلم أن ينادي مناد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فأول ما يبدؤون به من الخصومات الدماء» الحديث
، وهو عند الحسن الله نفسه عزّ وجلّ، وقيل: ملك، وقيل: السائل هو الله تعالى أو ملك والمجيب الناس.
وذكر الطيبي تقريرا لعبارة الكشاف أن قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى إلخ تعليل فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عزّ وجلّ، فإنه سبحانه لما سأل لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ وأجاب هو سبحانه بنفسه لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ كان المقام موقع السؤال وطلب التعليل فأوقع الْيَوْمَ تُجْزى جوابا عنه يعني إنما اختص الملك به تعالى لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس بما كسبت وله العدل التام فلا يظلم أحدا وله التصرف فلا يشغله شأن عن شأن

صفحة رقم 311

فيسرع الحساب، ولو أوقع لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ جوابا عن أهل المحشر لم يحسن هذا الاستئناف انتهى، وفيه ما فيه.
والحق أن قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ إلخ إن كان من كلام المجيب كما هو ظاهر حديث ابن مسعود بعد أن يكون من الناس، وجوز فيه أن لا يكون من تتمة الجواب بل هو حكاية لما سيقوله تعالى في ذلك اليوم عقيب السؤال والجواب. وأيا ما كان فتخصيص الملك به تعالى في ذلك اليوم إنما هو بالنظر إلى ظاهر الحال من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وظهور ذلك للكفرة والجهلة. وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما. وذهب محمد بن كعب القرظي إلى أن السؤال والجواب منه تعالى ويكونان بين النفختين حين يفني عزّ وجلّ الخلائق. وروي نحوه عن ابن عباس.
أخرج عبد بن حميد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية عنه رضي الله تعالى عنه قال: «ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»
والسياق ظاهر في أن ذلك يوم القيامة فلعله على تقدير صحة الحديث يكون مرتين. ومعنى جزاء النفوس بما كسبت أنها تجزى خيرا إن كسبت خيرا وشرا إن كسبت شرا. وقيل:
إن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا فإذا قامت قيامتها وزالت العوائق أدركت ألمها ولذتها. والظاهر أن هذا قول باللذة والألم الروحانيين ونحن لا ننكر حصولهما يومئذ لكن نقول:
إن الجزاء لا ينحصر بهما بل يكون أيضا بلذة وألم جسمانيين. فالاقتصار في تفسير الآية على ذلك قصور.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة كما قال مجاهد وقتادة وابن زيد، ومعنى الْآزِفَةِ القريبة يقال: أزف الشخوص إذا قرب وضاق وقته، فهي في الأصل اسم فاعل ثم نقلت منه وجعلت اسما للقيامة لقربها بالإضافة لما مضى من مدة الدنيا أو لما بقي فإن كل آت قريب، ويجوز أن تكون باقية على الأصل فتكون صفة لمحذوف أي الساعة الآزفة، وقدر بعضهم الموصوفة الخطة بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وهي القصة والأمر العظيم الذي يستحق أن يخط ويكتب لغرابته، ويراد بذلك ما يقع يوم القيامة من الأمور الصعبة وقربها لأن كل آت قريب، والمراد باليوم الوقت مطلقا أو هو يوم القيامة، وقال أبو مسلم: يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم المنية وحضور الأجل.
ورجح بأنه أبعد عن التكرار وأنسب بما بعده ووصف القرب منه أظهر إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ والْحَناجِرِ جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى وهي كما قال الراغب: رأس الغلصمة من خارج وهي لحمة بين الرأس والعنق، والكلام كناية عن شدة الخوف أو فرط التألم، وجوز أن يكون على حقيقته وتبلغ قلوب الكفار حناجرهم يوم القيامة ولا يموتون كما لو كان ذلك في الدنيا.
كاظِمِينَ حال من أصحاب القلوب على المعنى فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها فهو من باب وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: ٤٧] فكأنه قيل: إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمين عليها، وهو من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها، فالمعنى ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج مع النفس فإن كاظم القربة كاظم على الماء ممسكها عليه لئلا يخرج امتلاء. وفيه مبالغة عظيمة، وجوز كونه حالا من ضمير الْقُلُوبُ المستتر في الخبر أعني لَدَى الْحَناجِرِ وعلى رأي من يجوز مجيء الحال من المبتدأ كونه حالا من الْقُلُوبُ نفسها.
وجمع جمع العقلاء لتنزيلها منزلتهم لوصفها بصفتهم كما في قوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ

صفحة رقم 312

[الشعراء: ٤] والمعنى حال كون القلوب كاظمة على الغم والكرب، ومنه يعلم أنه لا يجوز أن يكون لَدَى الْحَناجِرِ ظرف كاظِمِينَ لفساد المعنى والحاجة إلى تقدير محذوف مع الغنى عنه، وكذلك على قراءة كاظمون للأول فقط فيتعين كون لَدَى الْحَناجِرِ خبرا وكاظمون خبرا آخر وبذلك يترجح كون الحال من القلوب، وقدر الكواشي هم كاظمون ليوافق وجه الحالية من الأصحاب، وجوز كونه حالا من مفعول أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم.
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب مشفق من احتم فلان لفلان احتد فكأنه الذي يحتد حماية لذويه ويقال لخاصة الرجل حامته ومن هنا فسر الحميم بالصديق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي ولا شفيع يشفع فالجملة في محل جر أو رفع صفة شَفِيعٍ والمراد نفي الصفة والموصوف لا الصفة فقط ليدل على أن ثم شفيعا لكن لا يطاع فالكلام من باب:
لا ترى الضب بها ينجحر ولم يقتصر على نفع الشفيع بل ضم إليه ما ضم ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة فيكون ذلك الضم إزالة لتوهم وجود الموصوف حيث جعل انتفاؤه أمرا مسلما مشهورا لا نزاع فيه لأن الدليل ينبغي أن يكون أوضح من المدلول، وهذا كما تقول لمن عاتبك على القعود عن الغزو ما لي فرس أركبه وما معي سلاح أحارب به فليفهم، والضمائر المذكورة من قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ إلى هنا إن كانت للكفار كما هو الظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم، وإن كانت عامة لهم ولغيرهم فليس هذا من باب وضع الظاهر موضع الضمير وإنما هو بيان حكم للظالمين بخصوصهم، والمراد بهم الكاملون في الظلم وهم الكافرون لقوله تعالى:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة كالنظرة إلى غير المحرم واستراق النظر إليه وغير ذلك- فخائنة- صفة لموصوف مقدر، وجعل النظرة خائنة إسناد مجازي أو استعارة مصرحة أو مكنية وتخييلية بجعل النظر بمنزلة شيء يسرق من المنظور إليه ولذا عبر فيه بالاستراق، ويجوز أن يكون خائنة مصدرا كالكاذبة والعاقبة والعافية أي يعلم سبحانه خيانة الأعين، وقيل: هو وصف مضاف إلى موصوفه كما في قوله:
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا أي يعلم سبحانه الأعين الخائنة ولا يحسن ذلك لقوله تعالى: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي والذي تخفيه الصدور من الضمائر أو إخفاء الصدور لما تخفيه من ذلك لأن الملاءمة واجبة الرعاية في علم البيان وملائم الأعين الخائنة الصدور المخفية، وما قيل في عدم حسن ذلك من أن مقام المبالغة يقتضي أن يراد استراق العين ضم إليه هذه القرينة أولا فغير قادح في التعليل المذكور إذ لا مانع من أن يكون على مطلوب دلائل ثم لولا القرينة لجاز أن تجعل الأعين تمهيدا للوصف فالقرينة هي المانعة وهذه الجملة على ما في الكشاف متصلة بأول الكلام خبر من أخبار هو في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على معنى هو الذي يريكم إلخ وهو يعلم خائنة الأعين ولم يجعله تعليلا لنفي الشفاعة على معنى ما لهم من شفيع لأن الله تعالى يعلم منهم الخيانة سرا وعلانية قيل: لأنه لا يصلح تعليلا لنفيها بل لنفي قبولها فإن الله تعالى هو العالم لا الشفيع والمقصود نفي الشفاعة، ووجه تقرير هذا الخبر في هذا الموضع ما فيه من التخلص إلى ذم آلهتهم مع أن تقديمه على الَّذِي يُرِيكُمْ لا وجه له لتعلقه بما قبله أشد التعلق كما أشير إليه وكذلك على رَفِيعُ الدَّرَجاتِ لاتصاله بالسابق وأمر المنيبين بالإخلاص ولما فيه من النبو من توسيط المنكر الفعلي بين المبتدأ وخبره المعرف الأسمى، وأما توسيطه بين القرائن الثلاث فبين العصا ولحائها فلا موضع له أحق من

صفحة رقم 313

هذا ولا يضر البعد اللفظي في مثل ذلك كما لا يخفى، وظن بعضهم ضرره فمنهم من قال: الجملة متصلة بمجموع قوله عزّ وجل: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إلى آخره، وذلك أنه سبحانه لما أمر بإنذار ذلك اليوم وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم وذكر تعالى أن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ولا من يشفع له ذكر جل وعلا اطلاعه على جميع ما يصدر من العبد وأنه مجازي بما عمل ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله تعالى مطلع على أعماله وإلى هذا ذهب أبو حيان.
وقال ابن عطية: هي متصلة بقوله تعالى: سَرِيعُ الْحِسابِ لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي لعلمه تعالى الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون، وحكى رحمه الله تعالى عن فرقة أنها متصلة بقوله تعالى: لا يخفى على الله منهم شيء ثم قال: وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه البعد وكثرة الحائل، وجعلها بعض متصلة بنفي قبول الشفاعة الذي تضمنه قوله تعالى: وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فإن يُطاعُ المنفي بمعنى تقبل شفاعته على أنها تعليل لذلك أي لا تقبل شفاعة شفيع لهم لأن الله تعالى يعلم منه الخيانة سرا وعلانية وليست تعليلا لنفي الشفاعة ليرد ما قيل، ولا يخفى ما فيه، ولعمري إن جار الله في مثل هذا المقام لا يجارى.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه سبحانه عن الظلم، وتقديم المسند إليه للتقوى، وجوز أن يكون للحصر وفائدة العدول عن المضمر إلى المظهر والإتيان بالاسم الجامع عقيب ذكر الأوصاف ما أشير إليه من إرادة الموصوف بتلك الصفات.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ تهكم بآلهتهم لأن الجماد لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي، وجعله بعضهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء، واختير الأول قيل لأن التهكم أبلغ لأنه ليس المقصود الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإلهية.
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه. وهشام «تدعون» بتاء الخطاب على الالتفات، وجوز أن يكون على إضمار قل فلا يكون التفاتا وإن عبر عنه بالغيبة قبله لأنه ليس على خلاف مقتضى الظاهر إذ هو ابتداء كلام مبني على خطابهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور وقضاؤه سبحانه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه عزّ وجلّ، وفيه إشارة إلى أن القاضي ينبغي أن يكون سميعا بصيرا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أي ما حال الذين كذبوا الرسل عليهم السلام قبلهم كعاد. وثمود، و (ينظروا) مجزوم على أنه معطوف على يَسِيرُوا، وجوز أبو حيان كونه منصوبا في جواب النفي كما في قوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم وتعقب بأنه لا يصح تقديره بأن لم يسيروا ينظروا. وأجيب بأن الاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي فيكون جواب نفي النفي كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا من التصرفات، والضمير المنفصل تأكيد للضمير المتصل قبله، وجوز كونه ضمير فصل ولا يتعين وقوعه بين معرفتين فقد أجاز الجرجاني وقوع المضارع بعده كما في قوله تعالى:
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: ١٣] نعم الأصل الأكثر فيه ذلك، على أن أفعل التفضيل الواقع بعده من الداخلة على المفضل عليه مضارع للمعرفة لفظا في عدم دخول أل عليه ومعنى لأن المراد به الأفضل باعتبار أفضلية معينة.
وجملة كانُوا إلخ مستأنفة في جواب كيف صارت أمورهم. وقرأ ابن عامر «منكم» بضمير الخطاب على

صفحة رقم 314

الالتفات. وَآثاراً فِي الْأَرْضِ عطف على قوة أي وأشد آثارا في الأرض مثل القلاع المحكمة والمدائن الحصينة، وقد حكى الله تعالى عن قوم منهم أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.
وجوز كونه عطفا على أَشَدَّ بتقدير محذوف أي وأكثر آثارا فتشمل الآثار القوية وغيرها، وهو ارتكاب خلاف المتبادر من غير حاجة يعتد بها، وقيل: المراد بهذه الآثار آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم وليس بشيء أصلا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي وليس لهم واق من الله تعالى يقيهم ويمنع عنهم عذابه تعالى أبدا، فكان للاستمرار والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ومن الثانية زائدة ومن الأولى متعلقة بواق، وقدم الجار والمجرور للاهتمام والفاصلة لأن اسم الله تعالى قيل: لم يقع مقطعا للفواصل. وجوز أن تكون من الأولى للبدلية أي ما كان لهم بدلا من المتصف بصفات الكمال واق وأريد بذلك شركاؤهم، وأن تكون ابتدائية تنبيها على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدىء من جهته سبحانه واقية لم يكن لهم باقية ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والأحكام الواضحة فَكَفَرُوا ريثما أتتهم رسلهم بذلك فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده عزّ وجلّ غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ لا يعتد بعقاب عند عقابه سبحانه، وهذا بيان للإجمال في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إن كانت الباء هناك سببية وبيان لسبب الأخذ إن كانت للملابسة أي أخذهم ملابسين لذنوبهم غير تائبين عنها فتأمل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي معجزاته عليه السلام وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة قاهرة ظاهرة، والمراد بذلك قيل ما أريد بالآيات ونزل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين فعطف الثاني على الأول، وقيل: المراد به بعض من آياته له شأن كالعصا، وعطف عليها تفخيما لشأنه كما عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة.
وتعقب بأن مثله إنما يكون إذا غير الثاني بعلم أو نحوه أما مع إبهامه ففيه نظر، وحكى الطبرسي أن المراد بالآيات حجج التوحيد وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام، وقيل الآيات المعجزات والسلطان ما أوتيه عليه السلام من القوة القدسية وظهورها باعتبار ظهور آثارها من الإقدام على الدعوة من غير اكتراث. وقرأ عيسى «سلطان» بضم اللام إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وزير فرعون، وزعم اليهود أنه لم يكن لفرعون وزير يدعى هامان وإنما هامان ظالم جاء بعد فرعون بزمان مديد ودهر داهر نفي جاءهم من اختلال أمر كتبهم وتواريخ فرعون لطول العهد وكثرة المحن التي ابتلوا بها فاضمحلت منها أنفسهم وكتبهم.
وَقارُونَ قيل هو الذي كان من قوم موسى عليه السلام، وقيل: هو غيره وكان مقدم جنود فرعون، وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانتهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع.
وفي ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى تسلية لرسول الله ﷺ وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبل وأقربهم زمانا ولذا خص ذلك بالذكر، ولا بعد في كون فرعون وجنوده أشد من عاد فَقالُوا ساحِرٌ أي هو يعنون موسى عليه السلام ساحر فيما أظهر من المعجزات كَذَّابٌ في دعواه أنه رسول من رب العالمين فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وبلغهم أمر الله تعالى غير مكترث بقولهم ساحر كذاب قالُوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه بهم أولا كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام، فالأمر بالقتل والاستحياء وقع مرتين. المرة الأولى حين أخبرت الكهنة والمنجمون في قول فرعون بمولود من بني إسرائيل يسلبه ملكه، والمرة الثانية هذه، وضمير قالُوا لفرعون ومن معه.

صفحة رقم 315

وقيل: إن قارون لم يصدر منه هذه المقالة لكنهم غلبوا عليه وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع من ضلت الدابة إذا ضاعت، والمراد أنه لا يفيدهم شيئا فالعاقبة للمتقين، واللام إما للعهد والإظهار في موقع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا، والجملة اعتراض جيء به في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة.
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى كان إذا هم بقتله كفّوه بقولهم: ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله وأنك إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، والظاهر أنه لعنه الله تعالى استيقن أنه عليه السلام نبي ولكن كان فيه خب وجربزة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقتل من أحسن منه بأنه الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك فقوله: ذَرُونِي إلخ كان تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هو الفزع ويرشد إلى ذلك قوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لأن ظاهره الاستهانة بموسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أنه كان يرعد فرائصه من دعاء ربه فلهذا تكلم به أول ما تكلم وأظهر أنه لا يبالي بدعاء ربه وما هو إلا كمن قال: ذروني أفعل كذا وما كان فليكن وإلا فما لمن يدعى أنه ربهم إلا على أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير حالكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام وكان عليه اللعنة قد أمرهم بنحتها وأن تجعل شفعاء لهم عنده كما كان كفار مكة يقولون: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨] ولهذا المعنى أضافوا الآلهة إليه في قولهم: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: ١٢٧] فهي إضافة تشريف واختصاص وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، وقال ابن عطية: الدين السلطان ومنه قول زهير:

لئن حللت بحي من بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي إني أخاف أن يغير سلطانكم ويستذلكم أَوْ أَنْ يُظْهِرَ إن لم يقدر على تغيير دينكم بالكلية فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب ويهلك الناس قتلا وضياعا فالفساد الذي عناه فساد دنياهم، فيكون حاصل المعنى على ما قرر أولا أني أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل وهما أمران كل منهما مر، ونحو هذا يقال على المعنى الثاني للدين، وعن قتادة أن اللعين عنى بالفساد طاعة الله تعالى: وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو و «وأن» الواو الواصلة.
وقرأ الأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص يُظْهِرَ بفتح الياء والهاء «الفساد» بالرفع. وقرأ مجاهد «يظّهّر» بتشديد الظاء والهاء «الفساد» بالرفع. وقرأ زيد بن علي «يظهر» بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول «الفساد» بالرفع.
وَقالَ مُوسى لما سمع بما أجراه اللعين من حديث قتله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ قاله عليه السلام مخاطبا به قومه على ما ذهب إليه غير واحد، وذلك أنه لما كان القول السابق من فرعون خطابا لقومه على سبيل الاستشارة وإجالة الرأي لا بمحضر منه عليه السلام كان الظاهر أن موسى عليه السلام أيضا خاطب قومه لا فرعون وحاضريه بذلك، ويؤيده قوله تعالى: وفي [الأعراف: ١٢٨] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا في هذه القصة بعينها، وقوله تعالى هنا: وَرَبِّكُمْ فإن فرعون ومن معه لا يعتقدون ربوبيته تعالى واردة أنه تعالى كذلك في نفس الأمر لا يضر في كونه مؤيدا لأن التأييد مداره الظاهر، وصدر الكلام بأن تأكيدا وتنبيها على أن

صفحة رقم 316

السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ، والتربية وأضافه إليه وإليهم حثا لهم على موافقته في العياذ به سبحانه والتوجه التام بالروح إليه جل شأنه لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة، وهذا هو الحكمة في مشروعية الجماعة في العبادات، ومِنْ كُلِّ على معنى من شر كل واردا بالتكبير الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة نفسه وعلى فرط ظلمه وعسفه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم الجزاء ليكون أدل وأدل، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله تعالى وعباده ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، واختير المنزل دون منه سلوكا لطريق التعريض لأنه كلام وارد في عرضهم فلا يلبسون جلد النمر إذا عرض عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على علة الاستعاذة ورعاية حتى تربية اللعين له عليه السلام في الجملة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «عت» بإدغام الذال المعجمة في التاء بعد قلبها تاء وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قيل كان قبطيا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل: كان إسرائيليا، وقيل: كان غريبا ليس من الفئتين، ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفا، ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار، وقيل: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ على القولين متعلق بقوله تعالى:
يَكْتُمُ إِيمانَهُ والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه، ولا بأس على هذا في الوقت على مؤمن. واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال: كتمت فلانا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: ٤٢] وقال الشاعر:

كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا وهمين هما مستكنا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها وورد هموم لن يجدن مصادرا
وأراد على ما في البحر كتمتك أحاديث نفس وهمين، وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضا قال في المصباح كتم من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من في المفعول الأول فيقال: كتمت من زيد الحديث كما يقال: بعته الدار وبعتها منه. نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه بمحذوف وقع صفة ثانية لرجل، والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعد ما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل: شمعان بشين معجمة، وقيل: خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة، وقيل: حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة، وقيل: حبيب.
وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل وحمزة بن القاسم عن أبي عمروة «رجل» بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب، وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أي لأن يقول ذلك وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ الشاهدة على صدقه من المعجزات، والاستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة بمعونة المقام. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: رَبِّيَ اللَّهُ مع أنه قد جاءكم بالبينات مِنْ رَبِّكُمْ أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده، وهذا استدراج إلى الاعتراف وفي أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ- إلى- مِنْ رَبِّكُمْ نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم: ربنا فرعون كيف وقد جعل ربه من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه، وجوز الزمخشري كون أَنْ يَقُولَ على تقدير مضاف أي

صفحة رقم 317

وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره، ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك، وفيه إن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام. ثم إن الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف به الاحتجاج فقال: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به أو يعدكموه، وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا، وقيل: المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم، وقيل:
بعض بمعنى كل وانشدوا لذلك قول عمرو القطامي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وذهب الزجاج إلى أن بَعْضُ فيه على ظاهره، والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه فالبيت كالآية على الوجه الأول، وأنشدوا لمجيء بعض بمعنى كل قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ قرى في بعضها خللا
ولا يتعين فيه ذلك كما لا يخفى، وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضا وأنشد قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد، والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه، والمعنى لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، وقال الزمخشري:
إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، وفيه مبالغة في الرد إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ احتجاج آخر ذو وجهين. أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات. وثانيهما إن كان كذلك خذله الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به المعنى الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم وعرض لفرعون بأنه مسرف أي في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة، فالجملة مستأنفة متعلقة معنى بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين عالين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ من أخذه وعذابه سبحانه إِنْ جاءَنا أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، فالفاء في- فمن- إلخ فصيحة والاستفهام إنكاري، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسؤهم من مجيء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم وإيذانا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع ذلك ما أُرِيكُمْ أي ما أشير عليكم إِلَّا ما أَرى إلا الذي أراه وأستصوبه من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله وهو الذي تقولونه غير صواب وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب والصلاح أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني

صفحة رقم 318

أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب عدو الله فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام لكنه كان يتجلد ولولا استشعاره لم يستشر أحدا، وعن معاذ بن جبل والحسن أنهما قرءا «الرشّاد» بشد الشين على أنه فعال للمبالغة من رشد بالكسر كعلام من علم أو من رشد بالفتح كعباد من عبد.
وقيل: هو من أرشد المزيد كجبار من أجبر، وتعقب بأن فعالا لم يجىء من المزيد إلا في عدة أحرف نحو جبار ودراك وقصار وسار ولا يحسن القياس على القليل مع أنه ثبت في بعضه كجبار سماع الثلاثي فلا يتعين كونه من المزيد فقد جاء جبره على كذا كأجبره وقصار كجبار عند بعض لا يتعين كونه من أقصر لمجيء قصر عن الشيء كأقصر عنه، وحكي عن الجوهري أن الإقصار كف مع قدرة والقصر كف مع عجز فلا يتم هذا عليه، وأما دراك وسآر فقد خرجا على حذف الزيادة تقديرا لا استعمالا كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل وأورس الرمث فهو وارس، قال ابن جني: وعلى هذا خرج الرشاد فيكون من رشد بمعنى أرشد تقديرا لا استعمالا فإن المعنى على ذلك، ثم قال: فإن قيل إذا كان المعنى على أرشد فكيف أجزت أن يكون من رشد المكسور أو من رشد المفتوح؟ قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد لأنه إذا رشد أرشد لأن الإرشاد من الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب انتهى، وقيل: أجيز ذلك لأن المبالغة في الرشد تكون بالإرشاد كما قرروا في قيوم وطهور.
وقال بعض المحققين: إن رشد بمعنى اهتدى فالمعنى ما أهديكم إلا سبيل من اهتدى وعظم رشده فلا حاجة إلى ما سمعت، وإنما يحتاج إليه لو وجب كون المعنى ما أهديكم إلا سبيل من كثر إرشاده ومن أين وجب ذلك؟ وجوز كون فعال في هذه القراءة للنسبة كما قالوا: عواج لبياع العاج وبتات لبياع البت وهو كساء غليظ، وقيل: طيلسان من خز أو صوف، وأنكر بعضهم كون القراءة على صيغة فعال في كلام فرعون وإنما هي في قول الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد، فإن معاذ بن جبل كان كما قال أبو الفضل الرازي وأبو حاتم يفسر سَبِيلَ الرَّشادِ على قراءته بسبيل الله تعالى وهو لا يتسنى في كلام فرعون كما لا يخفى، وستعلم إن شاء الله تعالى أن معاذا قرأ كذلك في قول المؤمن فلعل التفسير بسبيل الله عزّ وجلّ كان فيه دون كلام فرعون والله تعالى أعلم.
وَقالَ الَّذِي آمَنَ الجمهور على أنه الرجل المؤمن الكاتم إيمانه القائل: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ قوى الله تعالى نفسه وثبت قلبه فلم يهب فرعون ولم يعبأ به فأتى بنوع آخر من التهديد والتخويف فقال: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ إلى آخره، وقالت فرقة: كلام ذلك المؤمن قد تم، والمراد بالذي آمن هنا هو موسى نفسه عليه السلام، واحتجت بقوة كلامه، وعلى الأول المعول أي قال ناصحا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم في تكذيب موسى عليه السلام والتعرض له بالسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية، واليوم واحد الأيام بمعنى الوقائع وقد كثر استعمالها بذلك حتى صار حقيقة عرفية أو بمعناها المعروف لغة، والكلام عليه على حذف مضاف أي مثل حادث يوم الأحزاب.
وأيا ما كان فالظاهر جمع اليوم لكن جمع الأحزاب المضاف هو إليه مع التفسير بما بعد أغنى عن جمعه، والمعنى عليه ورجح الأفراد بالخفة والاختصار، وقال الزجاج: المراد يوم حزب حزب بمعنى أن جمع حزب مراد به شمول أفراده على طريق البدل وهو تأويل في الثاني وما تقدم أظهر.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ أي مثل جزاء دأبهم أي عادتهم الدائمة من الكفر وإيذاء الرسل، وقدر المضاف لأن المخوف في الحقيقة جزاء العمل لا هو، وجاء هذا من نصب مِثْلَ الثاني على أنه عطف بيان لمثل الأول لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت: أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بيان

صفحة رقم 319

لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة.
وقال ابن عطية: هو بدل من مِثْلَ الأول، والاحتياج إلى تقدير المضاف على حاله وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي فما فعل سبحانه بهؤلاء الأحزاب لم يكن ظلما بل كان عدلا وقسطا لأنه عزّ وجلّ أرسل إليهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وتحزبوا عليهم فاقتضى ذلك إهلاكهم، وهذا أبلغ من قوله تعالى:
وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] من حيث جعل المنفي فيه إرادة الظلم لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدا كان عن الظلم نفسه أبعد، وحيث نكر الظلم كأنه نفي أن يريد ظلما ما لعباده، ويجوز الزمخشري أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧] أي لا يريد سبحانه لهم أن يظلموا يعني أنه عزّ وجلّ دمرهم لأنهم كانوا ظالمين، ولا يخفى أن هذا المعنى مرجوح لفظا ومعنى، ثم لا حجة فيه للمعتزلة لثبوت الفرق بين أراده منه وأراده له فلو سلم أنه سبحانه لا يريد لهم أن يظلموا لم يلزم أن لا يريده منهم والممتنع عند أهل السنة هو هذا فلا احتياج إلى صرف الآية عن الظاهر عندهم أيضا.
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ خوفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي، والتناد مصدر تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا، ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكي في سورة الأعراف أو لأن الخلق ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩] والكافر لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الحاقة: ٢٥].
وعن ابن عباس أن هذا التنادي هو التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا، وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم
، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة.
وقرأت فرقة «التناد» بسكون الدال في الوصل اجراء له مجرى الوقف. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي والزعفراني وابن مقسم «التنادّ» بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: ٣٤] الآية،
وفي الحديث أن الناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربا.
وقيل: المراد به يوم الاجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ بدل من يوم التناد أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، وقيل: فارين من النار، فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فلا ينفعهم الهرب، ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطا بقوله تعالى:
ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدي، وقال قتادة: أي ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر، وهذا ما يقال على المعنى الأول- ليوم تولون مدبرين- وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير تُوَلُّونَ.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى طريق النجاة أصلا، وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك ثم وبخهم على تكذيب الرسل السالفين فقال: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب عليهما السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ الأمور الظاهرة الدالة على صدقه فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ بالموت قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا غاية لقوله. فَما زِلْتُمْ وأرادوا بقولهم لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا تكذيب رسالته ورسالة غيره أي لا رسول فيبعث فهم بعد الشك بتوا بهذا التكذيب فيكون ذلك ترقيا.

صفحة رقم 320

ويجوز أن يكون الشك في رسالته على حاله وبتهم إنما هو بتكذيب رسالة غيره من بعده، وقيل: يحتمل أن يكونوا أظهروا الشك في حياته حسدا وعنادا فلما مات عليه السلام أقروا بها وأنكروا أن يبعث الله تعالى من بعده رسولا وهو خلاف الظاهر، ومجيء يوسف بن يعقوب عليهما السلام المخاطبين بالبينات قيل: من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وكذلك نسبة الأفعال الباقية إليهم، وجوز كون بعض الذين جاءهم يوسف عليه السلام حقيقة حيا ففي بعض التواريخ أن وفاة يوسف عليه السلام قبل مولد موسى عليه السلام بأربع وستين سنة فيكون من نسبة حال البعض إلى الكل، واستظهر في البحر أن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى عليه السلام، وذكر عن أشهب عن مالك أنه بلغه أنه عمر أربعمائة وأربعين سنة، والذي ذكره أغلب المؤرخين أن فرعون موسى اسمه الريان وفرعون يوسف اسمه الوليد.
وذكر القرطبي أن فرعون الأول من العمالقة وهذا قبطي، وفرعون يوسف عليه السلام مات في زمنه، واختار القول بتغايرهما، وأمر المجيء وما معه من الأفعال على ما سمعت، وقيل: المراد بيوسف المذكور هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق أرسله الله تعالى نبيا فأقام فيهم عشرين سنة وكان من أمرهم ما قص الله عزّ وجلّ. ومن الغريب جدا ما حكاه النقاش والماوردي أن يوسف المذكور في هذه السورة من الجن بعثه الله تعالى رسولا إليهم، نقله الجلال السيوطي في الإتقان ولا يقبله من له أدنى إتقان. نعم القول بأن للجن نبيا منهم اسمه يوسف أيضا مما عسى أن يقبل كما لا يخفى.
وقرىء «ألن يبعث» بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة.
كَذلِكَ أي مثل ذلك الإضلال الفظيع يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في العصيان مُرْتابٌ في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ من الموصول الأول- أعني من- أو بيان أو صفة له باعتبار معناه كأنه قيل: كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين، وجوز نصبه بأعني مقدرا، وقوله تعالى شأنه: بِغَيْرِ سُلْطانٍ على الأوجه المذكورة متعلق- بيجادلون- وقوله سبحانه: أَتاهُمْ صفة سُلْطانٍ والمراد بإتيانه إتيانه من جهته سبحانه وتعالى إما على أيدي الرسل عليهم السلام فيكون ذاك إشارة إلى الدليل النقلي، وإما بطريق الإفاضة على عقولهم فيكون ذاك إشارة إلى الدليل العقلي، وقد يعمم فيكون المعنى يجادلون بغير حجة صالحة للتمسك بها أصلا لا عقلية ولا نقلية.
وقوله سبحانه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا تقرير لما أشعر به الكلام من ذمهم وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، وفاعل كَبُرَ ضمير راجع إلى الجدال الدال عليه يُجادِلُونَ على نحو من كذب كان شرا له أي كبر الجدال في آيات الله بغير حجة مقتا عند الله إلخ، أو إلى الموصول الأول وأفرد رعاية للفظه، واعترض عليه بأنه حمل على اللفظ من بعد الحمل على المعنى، وأهل العربية يجتنبونه.
وقال صاحب الكشف: هذا شيء نقله ابن الحاجب ولم يساعده غيره وهو غير مسلم أي كبر المسرف المرتاب المجادل في آيات الله بغير حجة مقتا أي كبر مقته وعظم عند الله تعالى وعند المؤمنين كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الفظيع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق وجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة كَبُرَ خبره لكن على حذف مضاف هو المخبر عنه حقيقة أي جدال الذين يجادلون كبر مقتا، وأن يكون الَّذِينَ مبتدأ على حذف المضاف وبِغَيْرِ سُلْطانٍ خبر المضاف المقدر أي جدال الذين يجادلون في آيات الله تعالى كائن بغير سلطان، وظاهر كلام البعض أن الَّذِينَ

صفحة رقم 321

مبتدأ من غير حذف مضاف وبِغَيْرِ سُلْطانٍ خبره، وفيه الأخبار عن الذات والجثة بالظرف وفاعل كَبُرَ كذلك على مذهب من يرى اسمية الكاف كالأخفش أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله تعالى: يَطْبَعُ إلخ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم، ولا يخفى ما في ذلك من العدول عن الظاهر، وفي البحر الأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وخبره كَبُرَ والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يُجادِلُونَ أي الذين يجادلون كبر جدالهم مقتا فتأمل.
وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والأعرج بخلاف عنه «قلب» بالتنوين فما بعده صفته، ووصفه بالكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني، وجوز أن يكون ذاك على حذف مضاف أي كل ذي قلب متكبر جبار، وجعل الصفتين لصاحب القلب لتتوافق القراءتان هذه وقراءة باقي السبعة بلا تنوين، وعن مقاتل المتكبر المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبار المتسلط على خلق الله تعالى، والظاهر أن عموم كل منسحب على المتكبر والجبار أيضا فكأنه اعتبر أولا إضافة «قلب» إلى ما بعده ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي الطرق كما روي عن السدي، وقال قتادة: الأبواب وهي جمع سبب ويطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء أَسْبابَ السَّماواتِ بيان لها، وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.
فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى بالنصب على جواب الترجي عند الكوفيين فإنهم يجوزون النصب بعد الفاء في جواب الترجي كالتمني، ومنع ذلك البصريون وخرجوا النصب هنا على أنه في جواب الأمر وهو ابْنِ كما في قوله:

يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
وجوز أن يكون بالعطف على خبر لعلى بتوهم أن فيه لأنه كثيرا ما جاءنا مقرورنا بها أو على الْأَسْبابَ على حد:
ولبس عباءة وتقر عيني وقال بعض: إن هذا الترجي تمن في الحقيقة لكن أخرجه اللعين هذا المخرج تمويها على سامعيه فكان النصب في جواب التمني، والظاهر أن البصريين لا يفرقون بين ترج وترج. وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على أَبْلُغُ قيل: ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه، وهذا يدل على أنه مقر بالله عزّ وجلّ وإنما طلب ما يزيل شكه في الرسالة، وكان للعين وأهل عصره اعتناء بالنجوم وأحكامها على ما قيل.
وهذا الاحتمال في غاية البعد عندي، وقيل: أراد أن يعلم الناس بفساد قول موسى عليه السلام: إني رسول من رب السماوات بأنه إن كان رسولا منه فهو ممن يصل إليه وذلك بالصعود للسماء وهو محال فما بنى عليه مثله، ومنشأ ذلك جهله بالله تعالى وظنه أنه سبحانه مستقر في السماء وأن رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره، وهو عزّ وجلّ منزه عن صفات المحدثات والأجسام ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه رسل الملوك رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهذا نفي لرسالته من الله تعالى ولا تعرض فيه لنفي الصانع المرسل له، وقال الإمام: الذي عندي في تفسير الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنّا لا نرى شيئا

صفحة رقم 322

نحكم عليه بأنه إله العالم فلا يجز إثبات هذا الإله، أما أنا لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه، وللمبالغة في بيان عدم الإمكان قال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً فما هو إلا لإظهار عدم إمكان ما ذكر لكل أحد، ولعل لا تأبى ذلك لأنها للتهكم على هذا وهي شبهة في غاية الفساد إذ لا يلزم من انتفاء أحد طرق العلم بالشيء انتفاء ذلك الشيء، ورأيت لبعض السلفيين أن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو أو بأنه سبحانه في السماء فحمله على معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين فقال ما قال تهكما وتمويها على قومه، وللإمام في هذا المقام كلام رد به على القائلين بأن الله تعالى في السماء ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة، والبحث في ذلك طويل المجال والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه، وقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً يحتمل أن يكون عني به كاذبا في دعوى الرسالة وأن يكون عني به كاذبا في دعوى أن له الها غيري لقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨].
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكا الا يرعوي عنه بحال وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي عن سبيل الرشاد، فالتعريف للعهد والفعلان مبنيان للمفعول والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، ولم يفعل سبحانه كلا من التزيين والصدر إلا لأن فرعون طلبه بلسان استعداده واقتضى ذلك سوء اختياره ويدل على هذا أنه قرئ «زيّن» مبنيا للفاعل ولم يسبق سوى ذكره تعالى دون الشيطان.
وجوز أن يكون الفاعل الشيطان ونسبة الفعل إليه بواسطة الوسوسة، وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو «وصدّ» بالبناء للفاعل وهو ضمير فرعون على أن المعنى وصد فرعون الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، ويؤيده وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي في خسار لأنه يشعر بتقدم ذكر للكيد وهو في هذه القراءة أظهر، وقرأ ابن وثاب «وصدّ» بكسر الصاد أصله صدد نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها، وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن ابن أبي بكرة «وصدّ» بفتح الصاد وضم الدال منونة عطفا على سُوءُ عَمَلِهِ، وقرىء «وصدوا» بواو الجمع أي هو وقومه وَقالَ الَّذِي آمَنَ هو مؤمن آل فرعون، وقيل: فيه نظير ما قيل في سابقه أنه موسى عليه السلام وهو ضعيف كما لا يخفى يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دللتكم عليه أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ سبيلا يصل به سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. وقرأ معاذ بن جبل كما في البحر الرَّشادِ بتشديد الشين وتقدم الكلام في ذلك فلا تغفل يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي تمتع أو متمتع به يسير لسرعة زواله وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها ودوام ما فيها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلَّا مِثْلَها عدلا من الله عزّ وجلّ، واستدل به على أن الجنايات تغرم بمثلها أي بوزانها من غير مضاعفة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ الذين عملوا ذلك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه تعالى ورحمة، وقسم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والاحتياط في الشمول لاحتمال نقص الإناث، وجعل الجزاء في جزاء أعمالهم جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع تفضيل الثواب وتفصيله تغليبا للرحمة وترغيبا فما عند الله عزّ وجلّ، وجعل العمل عمدة وركنا من القضية الشرطية والإيمان حالا للدلالة على أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه لأن الأحوال قيود وشروط للحكم التي وقعت فيه، ويتضمن ذلك الإشارة إلى عظيم شرفه ومزيد ثوابه، وقرأ الأعرج. والحسن. وأبو جعفر. وعيسى. وغير واحد من السبعة «يدخلون» مبنيا للمفعول وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ كرر نداءهم ايقاظا لهم عن

صفحة رقم 323

سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به دعوته، وترك العطف في النداء الثاني وهو يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إلخ لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد فإنها التحذير من الإخلاد إلى الدنيا والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه ولم يترك في هذا النداء لأنه ليس بتلك المثابة وذلك لأنه للموازنة بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وليس ذلك من تفسير الهداية في شيء بل ذلك لتحقيق أنه هادوا أنهم مضلون وأن ما عليه هو الهدى وما هم عليه هو الضلال فهو عطف على النداء الأول أو المجموع، وقيل: هو عطف على النداء الثاني داخل معه في التفسير لما أجمل في النداء الأول تصريحا وتعريضا، ولكل وجه وفي الترجيح كلام.
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل من تدعونني إلى النار أو عطف بيان له بناء على أنه يجري في الجمل كالمفردات أو جملة مستأنفة مفسرة لذلك، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ أي بكونه شريكا له تعالى في المعبود أو بربوبيته وألوهيته عِلْمٌ ونفي العلم هنا كناية عن نفي المعلوم، وفي إنكاره للدعوة إلى ما لا يعلمه إشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها.
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران وخص هذان الوصفان بالذكر وإن كانا كناية عن جميع الصفات لاستلزامهما ذلك كما أشير إليه لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء المناسب لحاله وحالهم لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ سياقه على مذهب البصريين أن لا رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه هاهنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عزّ وجلّ به وجَرَمَ فعل ماضي بمعنى ثبت وحق كما في قوله:

ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وأن مع ما في حيزها فاعلة أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلا يعني أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضا إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه إظهارا لدعوة ربهم عزّ وجلّ وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية أصلا لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا أنشأه الله تعالى فيها حيوانا تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق أن ليس لآلهتكم دعوة أصلا فليست بآلهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وإن مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعا، وقيل: جَرَمَ اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقا، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى:
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إلخ، ولا جَرَمَ على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض، ومن ثم قيل: المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر، ونقل هذا القول عن الفراء، وعنه أن ذلك هو أصل لا جَرَمَ لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقا فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك. وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم، وهذه اللغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضا فليتذكر.

صفحة رقم 324

ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى، وجوز أن يكون لنسبتها إلى المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم في الآية دعاءهم إياها في معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها، فالمعنى أن ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلا أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه. فالكلام إما على حذف المضاف أو على حذف الموصوف، وجوز التجوز فيه بالدعوة فعن استجابتها التي تترتب عليها، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان وهو من باب المشاكلة عند بعض وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي مرجعنا إليه تعالى بالموت، وهذا عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه، وكذا قوله تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ وفسر ابن مسعود ومجاهد الْمُسْرِفِينَ هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضا بما افتتح به تصريحا في قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا.
وعن قتادة أنهم المشركون فإن الإشراك إسراف في الضلالة، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون، وقيل: كل من غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن العاصي أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود.
فَسَتَذْكُرُونَ وقرئ فَسَتَذْكُرُونَ بالتشديد أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب ما أَقُولُ لَكُمْ من النصائح وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرس من يلوذ به سبحانه منهم من المكاره، وهذا يحتمل أن يكون جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر: ٣٧] أو من قوله سبحانه: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ويحتمل أن يكون متاركة والتفريع في فَسَتَذْكُرُونَ على قوله الأخير: يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إلخ، وجعله من جعل ذلك معطوفا على يا قَوْمِ الثاني تفريعا على جملة الكلام، وما في ما مَكَرُوا مصدرية و (السيئات) الشدائد أي فوقاه الله تعالى شدائد مكرهم وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ أي بفرعون وقومه، فاستغنى بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك، ويجوز أن يكون آل فرعون شاملا له عليه اللعنة بأن يراد بهم مطلق كفرة القبط كما قيل في قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: ١٣] أنه شامل لداود عليه السلام، وكانوا على ما حكى الأوزاعي ولا أعتقد صحته ألفي ألف وستمائة ألف.
وعن ابن عباس أن هذا المؤمن لما أظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب إلى جبل فبعث في طلبه ألف رجل فمنهم من أدركه يصلي والسباع حوله فلما هموا ليأخذوه ذبت عنه فأكلتهم، ومنهم من مات في الجبل عطشا، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا فاتهمه وقتله وصلبه، فالمراد بآل فرعون هؤلاء الألف الذين بعثهم إلى قتله أي فنزل بهم وأصابهم سُوءُ الْعَذابِ الغرق على الأول وأكل السباع والموت عطشا والقتل والصلب على ما روي عن ابن عباس والنار عليهما ولعله الأولى، وإضافة سُوءُ إلى الْعَذابِ لأمية أو من إضافة الصفة للموصوف، وقوله تعالى: النَّارُ مبتدأ وجملة قوله تعالى: يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا خبره والجملة تفسير لقوله تعالى: وَحاقَ إلخ.
وجوز أن تكون النَّارُ بدلا من سُوءُ الْعَذابِ ويُعْرَضُونَ في موضع الحال منها أو من الآل، وأن تكون النار خبر مبتدأ محذوف هو ضمير سُوءُ الْعَذابِ كأنه قيل: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، وجملة يُعْرَضُونَ تفسير على ما مر، وفي الوجه الأول من تعظيم أمر النار وتهويل عذابها ما ليس في هذا الوجه كما ذكره صاحب الكشاف، ومنشأ التعظيم على ما في الكشف الإجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعا من التهويل. الأولى الإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب. والثانية النار المعروض عليها غدوا وعشيا.

صفحة رقم 325

والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه دون ما تضمن تفسير سُوءُ الْعَذابِ وبيان كيفية التعذيب أنك إذا فسرت سُوءُ الْعَذابِ بالنار فقد بالغت في تعظيم سوء العذاب. ثم استأنفت بيعرضون عليها تتميما لقوله تعالى:
وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ من غير مدخل للنار فيما سيق له الكلام، وإذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وإن أحدهما تفسير للآخر فقد قصدت بالنار قصد الاستقلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة بيانا وإيضاحا للأولى كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوأ منه أعني النار على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وهاهنا كذلك على ما لا يخفى، والتركيب أيضا يفيد التقوى على نحو زيد ضربته.
ومن هنا قال صاحب الكشف: هذا هو الوجه، وأيد بقراءة من نصب النَّارُ بناء على أنها ليست منصوبة بأخص أو أعني بل بإضمار فعل يفسره يُعْرَضُونَ مثل يصلون فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف قتلوا به، وهو من باب الاستعارة التمثيلية بتشبيه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه، وفي ذلك جعل النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك، وهذا العرض لأرواحهم.
أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور تخلق لهم من صور أعمالهم، وقيل: ذاك من باب التمثيل وليس بذاك، وذكر الوقتين ظاهر في التخصيص بمعنى أنهم يعرضون على النار صباحا مرة ومساء مرة أي فيما هو صباح ومساء بالنسبة إلينا، ويشهد له ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى من النار، والفصل بين الوقتين إما بترك العذاب أو بتعذيبهم بنوع آخر غير النار.
وجوز أن يكون المراد التأبيد اكتفاء بالطرفين المحيطين عن الجميع، وأيا ما كان ففي الآية دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب البرزخ لأنه تعالى بعد أن ذكر ذلك العرض قال جل شأنه:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ وهو ظاهر في المغايرة فيتعين كون ذلك في البرزخ، ولا قائل بالفرق بينهم وبين غيرهم فيتم الاستدلال على العموم،
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى»
ويَوْمَ على ما استظهره أبو حيان معمول لقول مضمر، والجملة عطف على ما قبلها أي ويوم تقوم الساعة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشدّ من بعض، وعن بعض أشد العذاب هو عذاب الهاوية، وقيل: هو معمول أَدْخِلُوا.
وقيل: هو عطف على عَشِيًّا فالعامل فيه يُعْرَضُونَ وأَدْخِلُوا على إضمار القول وهو كما ترى، وقرأ علي كرم الله وجهه والحسن وقتادة وابن كثير، والعربيان وأبو بكر «أدخلوا» على أنه أمر لآل فرعون بالدخول أي ادخلوا يا آل فرعون، وقوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ معمول لا ذكر محذوفا أي واذكر وقت تخاصمهم في النار، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة لا على مقدر تقديره اذكر ما تلى عليك من قصة موسى

صفحة رقم 326
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية