
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) معنى قتل النفس تعريضها للتلف من غير أمل في النجاة، ويكون في ذلك إعلاء للحق، ونصر للفضيلة ورفع شأنها، كهذا الذي ينطق بكلمة الحق أمام سلطان جائر ويتأكد أنه سيقتله إن قالها! ولذلك قال النبي - ﷺ -: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله " (١)! ومن هذا أيضا أن يحمل على النطق بالكفر، فيمتنع فيقتل! نعم إن الله سبحانه وتعالى قال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ)، فرخص له بالنطق بكلمة الكفر، ولكن الأفضل ألا يقول، وهو مثوب إذا أصر ولم يقل، ففي هذه الأحوال يكون التعرض للقتل فضيلة مشكورة، لأنه إعلان للناس بأن للحق أنصارا يفتدونه بأنفسهم، وفي ذلك تحريض على تأييده وهو دعوة صارخة له. ومعنى الخروج من الديار: الهجرة من البلد منصرفين للجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك إذا لم يكونوا مستضعفين في الأرض، محكومين بغير المسلمين.
ومعنى النص الكريم: لو ثبت أننا فرضنا عليهم أن يعرضوا أنفسهم للتلف من غير أمل في النجاة، أو يخرجوا من موضع استقرارهم وأمنهم في ديارهم، إلى حيث المشقة الشديدة والعمل الكادح، ما استجاب لهذه الفريضة إلا عدد قليل من الناس، وهذا يشير إلى أمرين:
أولهما: أن التكليفات الشرعية لَا تكون إلا فيما يطاق من غير مشقة
مجهدة، لأن الله - تعالى - يقول: (لا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...)، والتعبير بـ (لو) يدل على أن التكليف لَا يقع على هذا؛ لأن (لوْ) كما يقول العلماء تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب، فالله تعالى لو يكلف ذلك التكليف لثقل التكليف إلا على عدد قليل منهم.
الثاني: أن في كل طائفة عددا يقوم بذلك الأمر الشاق، فهؤلاء المؤمنون الأولون قد صبروا على أذى المشركين في مكة من غير وهن ولا ضعف، ومنهم
________
(١) سبق تخريجه.

من مات تحت حرّ العذاب الشاق، ثم هاجروا وخرجوا من ديارهم، وهؤلاء أصحاب الأخدود الذين آذوا المؤمنين، فصبروا، وهم يلقون في النيران وقد قال سبحانه وتعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨).
(وَلَوْ أَنَهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) وإذا كان الله سبحانه لَا يكلف ما يشق أداؤه، ولا يمكن احتماله، إلا لعدد من الأقوياء جعلوا منار الهدى أمام الناس في كل العصور، فإنه سبحانه يكلف الناس ما فيه خيرهم وتثبيتهم على الحق.
ومعنى النص السامي (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ): لو ثبت أنهم فعلوا ما يكلفونه من تكليفات محتملة بينت لهم فيها نتائجها وثمراتها، لكان فيها الخير لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يكون الثواب العظيم والنعيم المقيم، وفي الدنيا يكون العدل والفضيلة، والمصلحة الحقيقية، وهذه الأمور هي خير الدنيا. فالشرع الإسلامي بني على هذه الأمور الثلاثة: الأول الفضيلة المهذبة للنفس، الموجهة إلى توثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعبد وربه، والسعي نحو الكمال الإنساني، والمنزلة الرفيعة. والثاني العدالة التي هي الميزان في العلائق الإنسانية التي ينتظم بها معاشهم ومعادهم، والثالث المصلحة الحقيقية، فما من مصلحة حقيقية ليست هوى ملحا ولا شهوة جامحة - إلا دعا إليها الإسلام، وما من حكم جاء به التكليف الإلهي إلا طويت فيه المصلحة، وكانت نتيجة وثمرة للأخذ به.
ومعنى قوله تعالى: (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) أي يكون في الأخذ بالتكليف الذي يطاق تثبيت على الحق، هو أشد تثبيت وأقواه. وكان في التكليف الذي يطاق تثبيت للحق، لأنه يمكن الاستمرار عليه، والاستمرار على فعل ما هو حق يثبته ويقرب الغاية منه، ولذلك كان النبي - ﷺ - يدعو إلى المداومة على الخير ولو كان

قليلا، وقد قال - ﷺ -: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (١). وإن الاستمرار على طاعة الله يؤدي إلى مثلها، وإن الاستمرار على السهل يجعل المكلف قادرا على الصعب، ثم على الأصعب، وهكذا حتى يصل إلى أعلى درجات التكليف مشقة، فيكون بعد هذه الخطوات أمرا مستطاعا. وإذا وصل إلى ذلك يكون الأجر العظيم، لذا قال سبحانه:
* * *
________
(١) سبق تخريجه.