آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷ

لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الِانْقِيَادَ لِحُكْمِهِمْ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ الْإِيجَابِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الِانْقِيَادِ فِي الظَّاهِرِ وَفِي الْقَلْبِ، وَذَلِكَ يَنْفِي صُدُورَ الْخَطَأِ عَنْهُمْ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣] وَأَنَّ فَتْوَاهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: ١] وَأَنَّ قَوْلَهُ:
عَبَسَ وَتَوَلَّى [عَبَسَ: ١] كُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي لَخَّصْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْإِلْزَامُ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ وَحُكْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَقْدِيمَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ عَلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ، وَقَوْلُهُ:
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى خَطَرَ بِبَالِهِ قِيَاسٌ يُفْضِي إِلَى نَقِيضِ مَدْلُولِ النَّصِّ فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْحَرَجُ فِي النَّفْسِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى ذَلِكَ الْحَرَجِ، وَيُسَلِّمَ النَّصَّ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا، وَهَذَا الْكَلَامُ قَوِيٌّ حَسَنٌ لِمَنْ أَنْصَفَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّه تعالى لزوم التَّنَاقُضُ، / وَذَلِكَ لَأَنَّ الرَّسُولَ إِذَا قَضَى عَلَى إِنْسَانٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الرِّضَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الرَّسُولِ. وَالرِّضَا بِقَضَاءِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَوْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَلَى خِلَافِ فَتْوَى الرَّسُولِ، فَلَوْ كَانَتِ الْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّه لَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِقَضَاءِ اللَّه، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه وَاجِبٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الرِّضَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ. لِأَنَّهُ قَضَاءُ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُمُ الرِّضَا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَضَاءِ الرَّسُولِ الْفَتْوَى الْمَشْرُوعَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَضَاءِ اللَّه التَّكْوِينُ وَالْإِيجَادُ، وَهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يُفْضِي إلى التناقض.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا لَوْ شَدَّدْنَا التَّكْلِيفَ عَلَى النَّاسِ، نَحْوَ أَنْ نَأْمُرَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَوْطَانِ لَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَمَا فَعَلَهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَّا عَلَى عِبَادِنَا بَلِ اكْتَفَيْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ فِي الْأُمُورِ السَّهْلَةِ، فَلْيَقْبَلُوهَا بِالْإِخْلَاصِ وَلْيَتْرُكُوا التَّمَرُّدَ وَالْعِنَادَ حَتَّى يَنَالُوا خَيْرَ الدارين، [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ بِضَمِّ النُّونِ فِي «أَنْ» وَضَمِّ وَاوِ «أَوْ»

صفحة رقم 129

وَالسَّبَبُ فِيهِ نَقْلُ ضَمَّةِ اقْتُلُوا وَضَمَّةِ اخْرُجُوا إِلَيْهِمَا، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّ الْوَاوِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَسْتُ أَعْرِفُ لِفَصْلِ أَبِي عَمْرٍو بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ خَاصِّيَّةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَمَّا كَسْرُ النُّونِ فَلِأَنَّ الْكَسْرَ هُوَ الْأَصْلُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَأَمَّا ضَمُّ الْوَاوِ فَلِأَنَّ الضَّمَّةَ/ فِي الْوَاوِ أَحْسَنُ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ وَاوَ الضَّمِيرِ. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى الضَّمِّ فِي وَاوِ الضَّمِيرِ نَحْوَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٦] وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: مَا فَعَلُوهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ضُرُوبُهُ، وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلٌ فَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (قَلِيلًا) بالنصب، وكذا هو في مصاحب أَهْلِ الشَّامِ وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، أَمَّا مَنْ نَصَبَ فَقَاسَ النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ كَلَامٌ تَامٌّ، كَمَا أَنَّ قَوْلَكَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ كَلَامٌ تَامٌّ فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَنْصُوبًا فِي الْإِثْبَاتِ فَكَذَا مَعَ النَّفْيِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُ الْمُسْتَثْنَى فَضْلَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ فَالسَّبَبُ أَنَّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ فِي فَعَلُوهُ وكذلك كل المستثنى مِنْ مَنْفِيٍّ، كَقَوْلِكَ: مَا أَتَانِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، بِرَفْعِ زَيْدٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحَدٍ، فَيُحْمَلُ إِعْرَابُ مَا بَعْدَ «إِلَّا» عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَكَذَلِكَ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ، كَقَوْلِكَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّفْعُ أَقْيَسُ، فَإِنَّ مَعْنَى مَا أَتَى أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا أَتَانِي إِلَّا زَيْدٌ وَاحِدٌ، فَكَمَا اتَّفَقُوا فِي قَوْلِهِمْ مَا أَتَانِي إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الرَّفْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: مَا أَتَانِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ بِمَنْزِلَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، وَكَتَبَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا الْقَتْلَ وَالْخُرُوجَ عَنِ الْوَطَنِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَحِينَئِذٍ يَصْعُبُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُ كُفْرُهُمْ، فَإِذَا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ كَلَّفْنَاهُمْ بِالْأَشْيَاءِ السَّهْلَةِ فَلْيَتْرُكُوا النِّفَاقَ وَلْيَقْبَلُوا الْإِيمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَتَبَ اللَّه عَلَى النَّاسِ مَا ذَكَرَ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْكَلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، رُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ نَاظَرَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَقَبِلْنَا ذَلِكَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُكُمْ بِالْقِتَالِ فَتَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ: يَا أَنْتَ لَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا أَمَرَنِي بِقَتْلِ نَفْسِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي»
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: واللَّه لَوْ أَمَرَنَا رَبُّنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا لَفَعَلْنَا وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي/ لَمْ يَأْمُرْنَا بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا يَغْلُظُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ، فَبِأَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يطيقون كان أولى، فيقال له: هذا لا زم عَلَيْكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَهُمْ بِهَا لَمَا فَعَلُوهَا، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوهَا لَوَقَعُوا فِي الْعَذَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنَ التَّكْلِيفِ إِلَّا الْعِقَابَ الدَّائِمَ، وَمَعَ

صفحة رقم 130

ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ، فَكُلُّ مَا تَجْعَلُهُ جَوَابًا عَنْ هَذَا فَهُوَ جَوَابُنَا عَمَّا ذَكَرْتَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا مَا كُلِّفُوا بِهِ وَأُمِرُوا بِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّكْلِيفُ وَالْأَمْرُ وَعْظًا، لَأَنَّ تَكَالِيفَ اللَّه تَعَالَى مَقْرُونَةٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَعْظًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوِ الْتَزَمُوا هَذِهِ التَّكَالِيفَ لَحَصَلَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَنَافِعِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ وَالتَّرْجِيحُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: «خَيْرٌ» يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
النَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى أَمْثَالِهَا، وَالْوَاقِعُ مِنْهَا فِي وَقْتٍ يَدْعُو إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَ وَأَبْقَى لِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْحَقُّ ثَابِتٌ بَاقٍ، وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ أَوَّلًا تَحْصِيلَ الْخَيْرِ، فَإِذَا حَصَّلَهُ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْحَاصِلُ بَاقِيًا ثَابِتًا، فَقَوْلُهُ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْإِخْلَاصَ فِي الْإِيمَانِ خَيْرٌ مِمَّا يُرِيدُونَهُ مِنَ النِّفَاقِ وَأَكْثَرُ ثَبَاتًا وَبَقَاءً، بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَعْقِبُ الْخَيِّرَاتِ الْعَظِيمَةِ وَهُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَ «إِذًا» جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ وَالتَّثْبِيتِ. فَقِيلَ: هُوَ أَنْ نُؤْتِيَهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، كَقَوْلِهِ: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٤٠].
وَأَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَرَائِنَ كَثِيرَةً، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْأَجْرِ. أَحَدُهَا:
أَنَّهُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بصيغة العظمة وهي قوله: لَآتَيْناهُمْ وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنَّا وَالْمُعْطِي الْحَكِيمُ إِذَا ذَكَرَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى عَظَمَةٍ عِنْدَ الْوَعْدِ بِالْعَطِيَّةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظَمَةِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنَّا وَهَذَا التَّخْصِيصُ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: ٦٥] وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْأَجْرَ بِالْعَظِيمِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي وَصَفَهُ أَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ بِالْعَظَمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ عَظِيمًا،
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ».
النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشُّورَى: ٥٢، ٥٣] وَالثَّانِي: أَنَّهُ الصِّرَاطُ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ مِنْ عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَالدِّينُ الْحَقُّ مقدم

صفحة رقم 131
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية