
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (٣١٠) سبب نزولها: أن رجلاً من اليهود قال: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها. فقال ثابت بن قيس بن الشماس: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
قال الزجاج: «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جاءني زيد لجئته. والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ أبو عمرو: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بكسر النون، «أو اخرجوا» بضم الواو. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي: «أن اقتلوا» «أو اخرجوا» بضم النون والواو. وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما. والمعنى: لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر: «إِلا قليلاً» بالنصب. وَلَوْ أَنَّهُمْ يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يذكرون به من طاعة الله، والوقوف مع أمره، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وأثبت لأمورهم. وقال السّدّيّ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي: تصديقا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٣١١) أحدها: أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد المحبّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فرآه رسول الله يوما
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٣٤ م عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي متروك متهم، لكن ورد بنحو هذا السياق من حديث عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ... الآية. أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٤٨٠ و «الصغير» ٥٢ والضياء المقدسي في «صفة الجنة» كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٥٣٥. وقال ابن كثير: قال الحافظ الضياء المقدسي: لا أرى بإسناده بأسا ووافقه ابن كثير.
- وقال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٧: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة اه.
- وفي الباب أيضا من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٢٥٥٩ وفي إسناده عطاء بن السائب، وقد اختلط كذا قال الهيثمي. لكن يصلح شاهدا لما قبله. وفي الباب أحاديث أخرى، انظر «الدر المنثور» ٢/ ٣٢٤ فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم، راجع «أحكام القرآن» ٥١٨ بتخريجنا.

فعرف الحزن في وجهه، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٣١٢) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فانك إِذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.
(٣١٣) والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون، فقال: ما لي أراك محزوناً؟ فقال: يا رسول الله غداً ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إِليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن جبير.
قال ابن عباس: ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السُنن. قال ابن قتيبة: والصدّيق:
الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وشرّيب، وخمّير، وسكيت، وفجّير، وعشّيق، وضلّيل، وظلّيم: إِذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة. فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله. وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال: أحدها:
لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة، قاله ثعلب. والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده. والثالث:
لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي. والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد الله.
فأما الصالحون، فهو اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه. والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين عام في جميع من هذه صفته. وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة.
قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً قال الزجاج: «رفيقاً» منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء، قال الشاعر:
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عظامُها | فبيضٌ وأَمّا جلدُها فصليب «١» |
في حلقكم عظم وقد شجينا «٢» يريد: في حلوقكم عظام. ذلِكَ الْفَضْلُ الذي أعطى المذكورين مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالمقاصد والنيات.
مرسل. أخرجه الطبري ٩٩٢٩ عن سعيد بن جبير مرسلا، وهو شاهد قوي لما تقدم.
__________
(١) البيت لعلقمة بن عبدة «الكتاب» ١/ ١٠٧ وقد تقدم.
(٢) هو عجز بيت للمسيب بن زيد مناة الغنوي وصدره: لا تنكر القتل وقد سبينا.