
سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما واللَّه إنّ اللَّه ليعلم منى الصدق، لو أمرنى محمد أن أقتل نفسي لقتلتها. وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنّ من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «١». وروى عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أنه قال: واللَّه لو أمرنا ربنا لفعلنا، والحمد للَّه الذي لم يفعل بنا ذلك، فنزلت الآية في شأن حاطب، ونزلت في شأن هؤلاء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بنى إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فَعَلُوهُ إِلَّا ناس قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذا توبيخ عظيم. والرفع على البدل من الواو في: (فَعَلُوهُ). وقرئ: إلا قليلا، بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في عاجلهم وآجلهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً
لإيمانهم وأبعد من الاضطراب فيه وَإِذاً جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت، فقيل:
وإذاً لو ثبتوا لَآتَيْناهُمْ لأن إذاً جواب وجزاء مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً كقوله: (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) في أنّ لمراد العطاء المتفضل به من عنده وتسميته أجراً، لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته (وَلَهَدَيْناهُمْ) وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
الصديقون: أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم كأبى بكر الصديق رضى اللَّه

عنه وصدقوا في أقولهم وأفعالهم. وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة، حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد اللَّه إلى اللَّه وأرفعهم درجات عنده وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجب كأنه قيل:
وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرئ: وحسن، بسكون السين. يقول المتعجب:
حسن الوجه وجهك! وحسن الوجه وجهك! بالفتح والضم مع التسكين. والرفيق: كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفرداً، بين به الجنس في باب التمييز.
وروى أنّ ثوبان مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان شديد الحب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول اللَّه، ما بى من وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة، فخفت أن لا أراك هناك، لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا، فنزلت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين «١».» وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ صفته ومِنَ اللَّهِ الخبر، ويجوز أن يكون ذلك مبتدأ، والفضل من اللَّه خبره، والمعنى: أنّ ما أعطى المطيعون من الأجر «٢» العظيم
(٢). قال محمود: «والمعنى أن ما أعطى المطيعون من الأجر... الخ» قال أحمد: عقيدة أهل السنة: أن المطيع لا يستحق على اللَّه بطاعته شيئا، وأنه مهما أثيب به من دخول الجنة والنجاة من النار، فذاك فضل من اللَّه لا عن استحقاق ثابت، فهم يقرون هذه الآية في رجائها، وأما القدرية: فيزعمون أن المطيع يستوجب على اللَّه ثواب الطاعة، وأن المقابل لطاعته من الثواب أجر مستحق كالأجرة على العمل في الشاهد، ليس بفضل، وإنما الفضل ما يزاده العبد على حقه من أنواع الثواب وصنوف الكرامة، فلما وردت هذه الآية ناطقة بأن جملة ما يناله عباد اللَّه فضل من اللَّه، اضطر الزمخشري إلى ردها إلى معتقده، فجعل الفضل المشار إليه هو الزيادة التابعة للثواب، يعنى المستحق، ثم اتسع في التأويل فذكر وجهها آخر وهو: أن يكون المشار إليه، مزايا هؤلاء المطيعين في طاعتهم وتمييزهم بأعمالهم، وجعل معنى كونها فضلا من اللَّه أنه وفقهم لاكتسابها ومكنهم من ذلك لا غير، يعنى وأما إحداثها فبقدرهم. وهذا من الطراز الأول، والحق أن الكل أيضا فضل من اللَّه بكل اعتبار، لأن معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق اللَّه تعالى وفعله، وأن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم، بل اللَّه عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها، فالطاعة إذاً من فضله وثوابها من فضله، فله الفضل على كل حال والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل اللَّه ورحمته» قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه، قال «ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه بفضل منه ورحمة» قل بفضل اللَّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا. اللهم اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة»