
بِهِ»
ولكنهم يريدون الركون إلى الضلال إذ لم تؤثر فيهم الآيات الرامية إلى الهدى «وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» (٦٠) عن الحق مستمرا دائما فوق ضلالهم فلو أمروا بالجنوح عنه لما فعلوا
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» تحاكموا «إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ» ليحكم بينكم بكتاب الله فهو أعدل وأحق للحق «رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ» يا سيد الرسل «صُدُوداً» (٦١) وأيّ صدود صدود مع أنفة عما تدعوهم إليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي ننطلق إلى محمد، وقال المنافق ننطلق إلى كعب بن الأشرف، وهذا هو الذي سماه الله بالطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا عند رسول الله، فلما رأى المنافق ذلك، أتى معه إلى الرسول، فقضى عليه، فلما خرجا قال المنافق انطلق بنا إلى عمر، فذهب معه، فقال لعمر اختصمت معه إلى الرسول فقضى لي عليه فلم يرض فقال عمر للمنافق أن كذلك؟ قال نعم، فأصلت سيفه وضرب المنافق حتى برد، وقال هكذا أقضي بمن لم يرض بقضاء الله، فنزلت هذه الآية، وقال جبريل لمحمد إن عمر فرق بين الحق والباطل، ومن ذلك اليوم سمي الفاروق، قال تعالى «فَكَيْفَ» يكون حال هؤلاء المنافقين «إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» مثل قتل بشر هذا «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» وهو أولا اختيار بتحكيم كعب على تحكيمك وثانيا عدم رضائه بحكمك «ثُمَّ جاؤُكَ» أهل القتيل المذكور «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا» ما أردنا بطلب إعادة المحاكمة عند غيرك «إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» (٦٢) ليطمئن المحكوم عليه بأن قضاءك هو الحق ولنوفق بينهما عليه لا عدم رضى بحكمك «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من النفاق والكذب «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ» يا أكمل الرسل باللسان وازجرهم عن النفاق والكذب وخوفهم من طلب المحاكمة إلى الطاغوت وعذاب الآخرة المترتب عليه ولا تعاقبهم «وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» يؤثر في قلوبهم مملئه التخويف والتهديد «وَ» اعلم يا سيد الرسل أنا «ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» فيما يأمر وينهى ويحكم «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا

أَنْفُسَهُمْ»
بطلب المحاكمة إلى الطاغوت «جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ» مما أقدموا عليه «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» لأنه يقبل عذر من اعتذر إليه والله لا يرد شفاعته «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً» عليهم «رَحِيماً» (٦٤) بهم ومن هنا والآيتين ٣٨ من المائدة الآتية و ٥٧ من الإسراء المارة في ج ١ أخذ جواز التوسل بحضرة الرسول، راجع تفسير الآيتين المذكورتين. وتشير إلى أن الاعتراف بالذنب أمام حضرة الرسول واستغفاره له قد يؤدي لعفو الله عنه، وعليه فإن المذنب إذا اعترف أمام العالم الذي هو نائب عن حضرة الرسول وتاب توبة نصوحا ودعى له بقبولها قد يؤدي لذلك والله أعلم. «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ» حقا ولا يسمون مؤمنين «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» رغبة فيك وحبا في سماع كلامك وشوقا بحكمك «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً» ضيقا وحنقا وعدم رضى «مِمَّا قَضَيْتَ» به عليهم بل يتلقونه بطيب نفس ويعلمون أنه الحق الواجب اتباعه «وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (٦٥) مطلقا وينقادوا له انقيادا رضائيا لا شك ولا تردد فيه ظاهرا وباطنا ولا تخيير فيه أبدا راجع الآية ٢٦ من سورة الأحزاب المارة، روى البخاري ومسلم عن عروة ابن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحمه (الشراج سيل الماء النازل من الجبل إلى السهل والحمة الأرض الحمراء المتلبسة بالحجارة السوداء) التي يسقون بها النخيل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما إلى رسول الله فقال صلّى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله إن كان ابن عمتك (أي قضيت له لهذه القرابة لا بحق رأيته قاتله الله) فتلون وجه النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك، زاد البخاري فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير أن يتسامح مع الأنصاري سعة له فلما احتفظ الأنصاري أي استوعى أي استوفى للزبير حقه (وذلك إن من كانت أرضه في فم الوادي فهو أولى بتمام السقي) وروى البغوي أنهما لما خرجا مرا على المقداد فقال لمن قضى، لمن كان القضاء قال الأنصاري لابن عمته ولوى شدقه

ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى يريد سلفهم
فدعا موسى إلى التوبة منه فقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين الفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا، فلما سمعه ثابت بن قيس بن شماس قال أما والله إن الله يعلم مني الصدق، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت. هذا وإن ما جاء في الحديث وإن كان يدل على حادثة الزبير وخصمه إلا أنه لا يدل على نزول الآية فيها والآية متصلة بما قبلها وتابعة للسبب الأول، والله تعالى أعلم، لأن الزبير لم يقطع بقوله إنها نزلت في حادثة الأنصاري بل قال احسب بأنها نزلت في ذلك تدبر. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ» هؤلاء المنافقين «أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» لتقبل توبتكم كما فرضنا على بني إسرائيل قبل «أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» كما أمرناهم بالخروج من مصر مع نبيهم «ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» رياء وسمعة لأن المنافقين ظاهرهم غير باطنهم، وإن ثابتا المشار إليه من القليل، وقيل لما نزلت هذه الآية، قال عمر وعمار وابن مسعود من أصحاب رسول الله والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ هذا رسول الله فقال إن من أمّتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي، وهؤلاء أيضا من القليل، اللهم اجعلنا منهم واحشرنا معهم. «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ» وانقادوا لحكم الرسول «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» في الدارين «وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (٦٦) لإيمانهم وأقرب للتودد لرسولهم «وَإِذاً» لو فعلوا ذلك اتباعا لأمرنا ونزولا لحكمنا الذي نطق به رسولنا «لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً» (٦٧) على انقيادهم ورضاهم بحكم الرسول «وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (٦٨) لا يزالون متمسكين به حتى يوصلهم الجنة، كان صلّى الله عليه وسلم رأى مولاه ثوبان متغيرا فقال ما غير لونك؟ وكان شديد الحياء شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه، فقال يا رسول الله ما بي مرض إلا أني أستوحش إذا لم أرك وأخاف أن لا أراك في الآخرة لعلو مقامك، فأنزل الله «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ