
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ... (٥٩)
* * *
طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، فإطاعة الرسول إطاعة لله، وإطاعة الله إطاعة للرسول أو تقتضيها، فقد قال الله تعالى: (... وَمَا آتَاكمُ الرَّسُولُ فَخُذوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهوا...). وأولو الأمر هم الذين بيدهم الْحَلِّ والعَقْدِ وبيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها وشئونها وإرشادها وتوجيهها. وقد قال بعض الحكام إنهم الفقهاء والذين يستطيعون استنباط الأحكام، ولكن الأكثرين على أن ولاة الأمر هم الحكام وأهل الْحَلِّ والعَقْدِ.

ونلاحظ هنا أمرين:
أحدهما - أن القرآن الكريم يصرح بأن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا من المؤمنين، ولذلك يقول سبحانه " منكم "، فلا طاعة مطلقا لمن يغلبون على شئون المسلمين ممن ليسوا من أهل الإيمان، فأُولئك المنحرفون من بعض أهل الهوى الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويزعمون أن الإنجليز أيام حكمهم كانوا من ولاة الأمور الذين يوجب النص طاعتهم - قد ضلوا ضلالا بعيدا، وهم بهذا وبغيره خارجون عن حكم الإسلام.
ثانيهما - أن الله قرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، فوجب أن تكون طاعتهما من جنس طاعة الله تعالى ورسوله، بأن تكون في سبيل العدل، ولا تخرج عن حدوده. وإنه باقتران هذه الآية بالآية السابقة يستبين أن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم هم العادلون؛ لأن الأولى أوجبت العدل، والثانية أمرت بالطاعة، فلو كانوا غير عدول لكانت الطاعة مسايرة لهم على الظلم. وقد نهينا عنه. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه:
" المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمراء الجور - الله ورسوله بريئان منهم - فلا يُعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل، واختيار الحق، والأمر بهما، والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين. وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وعن أبي حازم أن سلمة بن عبد الملك قال: ألستم أُمرتم بطاعتنا في قوله تعالى: (وَأولِي الأَمْرِ مِنكمْ) قال: أليس قد نُزِعَتْ عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِن تَنَازَعْتمْ فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ). وعن النبي - ﷺ - أنه قال:

" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني " (١).
ولكي تكون طاعة أولياء الأمر في سبيل الحق والعدل، ومقترنة بطاعة الله ورسوله، وجب الرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسُّنة، ولذا قال سبحانه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) لقد ثبت بإجماع العلماء الذي لَا مماراة فيه أن طاعة أولياء الأمر إنما تكون فيما فيه طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله الأمين كما نوهنا، وأنه ليس لوليِّ الأمر طاعة في معصية، لقوله - ﷺ -: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (٢)، ولقوله - ﷺ -: " إنما الطاعة في المعروف " (٣)، والمعصية منكر لَا طاعة فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " على المرء المسلم السمع والطاعة، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (٤)، ولِمَا قررنا من أن طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، وأنه
_________
(١) رواه البخاري: الأحكام - قول الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (٣١٣٧)، ومسلم: الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في المعصية وتحريمها في المعصية (٨٣٥ ١) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه القضاعي في مسند الشهاب ج ٢، ص ٥٥ (٨٧٣) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، والبغوي في شرح السنة عن النواس بن سمعان، كما في مشكاة المصابيح ج ٤، ص ٢٣٨. كما رواه أحمد في مسنده وعن الحكم بن عمرو الغفارى وعمران بن حصين (٢٠١٣٠)، وعن علي رضي الله عنه (١٠٩٨)، ولفظه عَنْ عَلِى عَنْ النَبِي - ﷺ - قَالَ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوق فِى مَعْصِيَةِ اللهِ عَز وَجَل ". وهو عند البخاري بسنده عن علي.
(٣) متفق عليه. وراجع التخريج السابق.
(٤) متفق عليه رواه البخاري: الأحكام - السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (٧١٤٤)، ومسلم: الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (١٨٣٩) ولفظه عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ " ولفظ البخاري عن نَافِع عَن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أي ابن عمر حيث الرواية عن نافع) عَنْ النَبِي - ﷺ - قَالَ: " السمْعُ وَالطاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِم فِيمَا أحَبَ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ فَإِذَا أمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلا سَمع وَلا طَاعَةَ ".

ليس من المعقول أن يفهم من الآية أن ولي الأمر يطاع حيث يعصى الله ورسوله، وهما مقترنتان، وولي الأمر منَّا حقا وصدقا لَا يخالف الله ورسوله، وإلا كان متغلبا طاغيا.
وإذا كانت طاعة ولي الأمر لَا تكون إلا في دائرة الكتاب والسنة، فلا بد أن يكونا هما المرجع في الوفاق والخلاف معا، فإن اتفق أهل الحَل والعقد على أمر مشتق من كتاب الله وسنة رسوله، وغير خارج عنهما ولا عن أصولهما المقررة، فهو الحجة الواضحة، كما كان يفعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد كانا يعرضان الأمر الذي لَا يعرفان له حكما من كتاب ولا سنة على الصحابة، وأحيانا على كل أهل المدينة، فما يثبت أنه ورد فيه قرآن أو سنة خضع الجميع له، وإلا فإنهم ينظرون مجتهدين فيما يكون من جنس ما يأمر به الكتاب أو السُّنَّة، فإن اتفقوا عليه نفذوه. وإذا كان اختلاف، فإنه لَا حكَم في الاختلاف إلا الكتاب والسُّنة أيضا، وهذا موضع قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتمْ) وليس التنازع هو المحاربة، إنما التنازع هو الاختلاف في طلب الحق في الأمر، وقد جاء في تفسير معنى التنازع في مفردات الراغب: " نزع الشيء جذبه.. والتنازع والمنازعة المجاذبة، ويعبر بهما عن المخالفة والمجادلة ". وكأن كل واحد من المختلفين يجذب من الآخر الحجة لدليله، ويجعل الحق في جانبه بجذب الحجة على مخالفه، ومن هذا قول النبي - ﷺ -: " ما لي أنَازعُ القرآن " (١)! وذلك أن بعض المأمومين جهر
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: «هَلْ قَرَأَ مَعِيَ أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي أَقُولُ مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟»، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " َ [رواه الترمذي: الصلاة - ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام (٣١٢)، والنسائي: الافتتاح - ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به (٩١٩)، وأبو داود: الصلاة - من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام (٨٢٦)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها - إذا قرأ الإمام فأنصتوا (٨٤٩)، وأحمد: مسند المكثرين (٧٢٢٨).

خلفه، فنازعه القراءة فشغله، فنهى - عليه الصلاة والسلام - عن الجهر بالقراءة خلفه في الصلاة.
ويجب بهذا النص عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وذلك بالتماس ما يكون من الأحكام متفقا مع المقاصد والغايات التي جاء بها الكتاب والسُّنة، وإن لعلماء الإسلام في ذلك منهاجين: أحدهما: أن يبحث في الأصلين عن حكم منصوص عليه يشبه في سبب الحكم الحادثة التي لَا يجدون فيها نصا، وهذا يسمى القياس الفقهي، وهو ما تسير عليه الكثرة الكبرى من الفقهاء. والمنهاج الثاني. أن ينظر إلى المقاصد العامة للشريعة، وهي مصالح الناس، الثابت الأخذ بها من مجموع النصوص لَا من نص بعينه، فإذا كان في الأمر المتنازع فيه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، من غير مخالفة أي نص، أخذ بها، وهذا المنهاج أخذ به الإمام مالك، وأحمد، وزَيْد.
ولكن يرد هنا سؤالان: من الذين يجري بينهم التنازع؛ ومن الذين يتولون رد الأمر إلى الكتاب والسُّنَّة؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن الذين يجري بينهم الخلاف هم أهل الحَل والعقد، وذلك يقتضي أن تكون هناك جماعة مصطفاة مختارة تتولى سن النظم ووضع القوانين المشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهم رجال الشورى الذين ترتضيهم الأمة.
والجواب عن السؤال الثاني - أن الذين يردون الأمر المختلف فيه، يجب أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وغاياتها، وهم علماء الإسلام المتفقهون في أحكامه. ولذلك يجب أن يكون في أهل الحَل والعقد، أو بجوارهم يعملون معهم، رجال من فقهاء الإسلام المخلصين المؤمنين بحقائقه، الذين لا يغلب عليهم الهوى، ولا يخضعون لهوى الحكام، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.

وإن الله تعالى يقرر - تعالت كلماته - أن ذلك وهو الرد إلى الكتاب شأن أهل الإيمان بالله حقا وصدقا، والذين لَا تغلبهم الدنيا ومتعها العاجلة، ولذلك يقول (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي إن كنتم تذعنون للحق الذي شرعه الله تعالى لكم وتصدقون وتؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب، ولم تستول عليكم الدنيا بأهوائها وشهواتها، فإنكم بلا ريب سترجعون إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - ﷺ -، ذلك أن المؤمن حقا ومصدقا بالله واليوم الآخر لا تستهويه شهوات الدنيا، فيظنها مصالح، بل يذعن لحكم الله دائما، ولا يكون كأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠).
وإن اتباع القرآن والسُّنَّة في الحكم فيه الخير وحسن المآب، ولذا قال سبحانه:
(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا) إن ذلك الرجوع إلى الكتاب والسُّنة، في الفرقان والافتراق، خير لكم في الدنيا؛ لأن فيه مصلحتكم الحقيقية، وفيه بعد عن الهوى، وفيه خضوع لله تعالى. وأحسن تأويلا أي مآلا ونهاية، وفهمًا لأمور هذه الحياة، فإن شئون الحياة معقدة، تختلط فيها الشهوات بالمصالح، فلا يمكن فهمها على حقيقتها إذا تشبابكت إلا بالرجوع إلى شرع الله، ففيه الفهم الصحيح، وفيه الغاية السامية، وفيه المآل الذي لَا شر فيه. فاللهم وفق أمتك للأخذ بِشرعَتِك واجعلنا من الذين لَا يحرِّفون الكلم عن مواضعه، إنك سميع الدعاء.
* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (٦٣)
* * *
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أئزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)