آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ

والله قادر على ذلك العذاب لا يعجزه شيء ولا يفوته، حكيم في تدبيره شؤون خلقه وفي إيعاده عباده.
وأما المؤمنون: فثوابهم محقق أيضا ومقطوع به يقينا، له مظاهر عديدة، منها التمتع بجنان الخلد، والتزوج بالحور العين، والاستظلال بظلّ كثيف لا شمس فيه، ولا يدخله ما يدخل ظلّ الدّنيا من الحرّ والسّموم «١» ونحو ذلك.
منهاج الحكم الإسلامي أداء الأمانات والحقوق إلى أهلها والحكم بالعدل وإطاعة الله والرسول وولاة الأمور
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
الإعراب:
أَنْ تُؤَدُّوا وأَنْ تَحْكُمُوا في موضع نصب لأن التقدير: بأن تؤدوا وبأن تحكموا، فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فاستحق النصب.

(١) السّموم: الريح الحارة، تؤنث، وجمعها سمائم.

صفحة رقم 120

البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ إيراد الأمر بصيغة الإخبار وتأكيده ب إِنَّ للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال وتكرار الاسم الجليل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لغرس المهابة في النفس.
المفردات اللغوية:
الْأَماناتِ جمع أمانة: وهي ما يؤتمن الشخص عليه، وفي عرف الناس: هي كل ما أخذته بإذن صاحبه. وتعمّ جميع الحقوق المتعلّقة بالذّمة، لله أو للناس أو لنفسه، ويسمى حافظها أمينا وحفيظا ووفيّا، ومن لا يحفظها ولا يؤدّيها خائنا.
بِالْعَدْلِ إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب طريق. نِعِمَّا فيه إدغام ميم «نعم» في «ما» النكرة الموصوفة أي نعم الشيء يَعِظُكُمْ بِهِ تأدية الأمانة والحكم بالعدل. تَأْوِيلًا مآلا وعاقبة.
سبب النزول:
نزول الآية (٥٨) :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ:
عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: أرني المفتاح، فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس، فقال: بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هات المفتاح يا عثمان، فقال: هاك بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بردّ المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة، فأعطاه المفتاح، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حتى فرغ من الآية.
وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج، وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فناوله المفتاح.
قال:

صفحة رقم 121

وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية، فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك
، قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة.
نزول الآية (٥٩) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا..:
روى البخاري عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النّبي صلّى الله عليه وسلّم في سرية.
قال الداودي: هذا وهم يعني الافتراء على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب، فأوقد نارا، وقال: اقتحموا، فامتنع بعض، وهمّ بعض أن يفعل، قال: فإن كانت الآية نزلت قبل، فكيف يخصّ عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهم:
«إنما الطاعة في المعروف» وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟
وأجاب الحافظ ابن حجر بأن المقصود من قصته: فإن تنازعتم في شيء، فإنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة والتوقف، فرارا من النار، فتناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر بعض تلك الأعمال وأجلّها وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وإطاعة الله والرسول وأولي الأمر.
التفسير والبيان:
إن السبب الخاص الذي نزلت آية أداء الأمانات من أجله لا يخصص عموم اللفظ، وإنما العبرة عادة في كل آي القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي

صفحة رقم 122

أمر عام بأداء الأمانات إلى أهلها لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده، ويتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان، سواء أكان ذلك في حق نفسه، أم في حق غيره من العباد، أم في حق ربه.
فرعاية الأمانة في حقوق الله: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واستعمال مشاعره وأعضائه فيما يقربه من ربه.
ذكر أبو نعيم في الحلية حديثا مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها» أو قال: «كل شيء إلا الأمانة»
والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. وقال جمع من الصحابة (ابن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وأبي بن كعب) : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا موسر أن يمسك الأمانة. وقال ابن عمر: خلق الله فرج الإنسان، وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها.
ورعاية الأمانة في حق النفس: ألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة، وأ لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب المرض، ويعمل بقواعد علم الصحة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
وقوله في الحديث الصحيح: «إن لنفسك عليك حقا».
ورعاية الأمانة في حق الآخرين: رد الودائع والعواري، وعدم الغش في المعاملات، والجهاد والنصيحة، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم.
ووردت آيات وأحاديث كثيرة في حفظ الأمانة، منها قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب ٣٣/ ٧٢]. ومنها: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ

صفحة رقم 123

راعُونَ
[المؤمنون ٢٣/ ٨] ومنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال ٨/ ٢٧].
وقال صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أحمد وابن حبان عن أنس-: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»
وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وأداء الأمانات واجب، ولا سيما عند طلبها من صاحبها، ومن لم يؤدها في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة،
كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء».
وإذا هلكت الأمانة أو ضاعت أو سرقت، فإن كان ذلك بتعد أو تقصير أو إهمال ضمنت، وإلا فلا تضمن.
وبعد استقرار الأمانات يأتي دور الحكم بالعدل بين الناس، لذا أمر الله تعالى به، فالأمانة هي أساس الحكم الإسلامي، والعدل هو الأساس الثاني، والمخاطب بالأمرين هم جمهور الأمة.
والعدل: أساس الملك، وأمر تقتضيه الحضارة والعمران والتقدم، وتشيد به كل العقول، وأصل من أصول الحكم في الإسلام، ولا بد للمجتمع منه حتى يأخذ الضعيف حقه، ولا يبغي القوي على الضعيف، ويستتب الأمن والنظام، وأجمعت الشرائع السماوية على وجوب إقامة العدل، فعلى الحاكم وأتباعه من الولاة والموظفين والقضاة التزام العدل، حتى تصل الحقوق لأهلها، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالعدل، منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل ١٦/ ٩٠] ومنها: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى

صفحة رقم 124

[الأنعام ٦/ ١٥٢] ومنها: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة ٥/ ٨] ومنها:
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ [المائدة ٥/ ٨] وأمر الله به داود:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص ٣٨/ ٢٦].
وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال هذه الأمة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت».
وندد الله تعالى بالظلم والظالمين في آيات عديدة منها: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم ١٤/ ٤٢] ومنها: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات ٣٧/ ٢٢]. ومن أخطر أنواع الظلم: الحكم بغير ما أنزل الله، وظلم الحكام: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل ٢٧/ ٥٢] وظلم القضاة.
وتحاشي الظلم من القاضي يكون بفهم الدعوى أولا، ثم عدم التحيز إلى أحد الخصمين، ومعرفة حكم الله، وتولية الأكفاء.
وفي قوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ إشارة إلى أنه لا بد من إقامة حاكم يحكم بين الناس بالحق.
ثم بيّن الله تعالى فائدة الأمر بالعدل وأداء الأمانة، فقال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يبصر ما يحدث منكم من أداء الأمانة وخيانتها، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس، فيحاسبكم ويجازيكم، فهو أعلم بالمسموعات والمبصرات.
ثم أمر الله تعالى بما يدعو إلى أداء الأمانة والتزام العدل وهو الأساس الثالث للحكم الإسلامي، وهو إطاعة الله بتنفيذ أحكامه، وإطاعة الرسول المبيّن حكم ربه، وإطاعة ولاة الأمور.

صفحة رقم 125

ومن هم أولو الأمر؟ ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم الحكام أو أمراء السرايا. وذهب آخرون إلى أنهم العلماء الذين يبينون للناس الأحكام الشرعية.
وذهب الشيعة الإمامية إلى أنهم الأئمة المعصومون.
والظاهر إرادة الجميع، فتجب طاعة الحكام والولاة في السياسة وقيادة الجيوش وإدارة البلاد، وتجب إطاعة العلماء في بيان أحكام الشرع، وتعليم الناس الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن العربي: والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم.
وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب «١».
ويرى الفخر الرازي أن المراد من أولي الأمر: أهل الحل والعقد، ليستدل بالآية على حجية الإجماع الصادر من العلماء.
فإن حدث تنازع واختلاف بينكم وبين أولي الأمر منكم في شيء من أمور الدين، ولم يوجد نص في القرآن ولا في السنة، يرد الأمر المتنازع فيه إلى القواعد العامة المقررة في القرآن والسنة، فيؤخذ بما يوافقهما، ويرد ما يخالفهما، وهذا ما يسمى في علم أصول الفقه بالقياس.
وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم العمل بالقياس، فحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال له: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة نبي الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله».

(١) أحكام القرآن: ١/ ٤٥٢
(٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي.

صفحة رقم 126

وأشعر قوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أن المتنازع فيه مما لا نص فيه، وإلا كان واجب الطاعة، غير محل للنزاع.
وردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله، كما أنه يقصد الآخرة ورضوان الله أكثر من حرصه على الدنيا. وهذا وعيد من الله لكل من حاد عن طاعة الله ورسوله، والرد إليهما عند الاختلاف، وهو في معنى قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء ٤/ ٦٥]
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني».
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا إشارة إلى ما أمروا به من طاعة الله ورسوله والرد إليهما عند التنازع، وذلك أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
آية الأمانة والعدل من أمهات آيات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع. والأظهر أن الآية خطاب عام لجميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الأقضية.
وهي تدل على أساسين من أسس الحكم في الإسلام، ويتبع الأفراد الحكام:
الأول- أداء الأمانات إلى أهلها. أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب.
وأما اللقطة فتعرّف سنة ثم تستهلك وتضمن إن جاء صاحبها، والأفضل أن يتصدق بها. وأما المأجور والعارية فيلزم ردهما إلى صاحبهما بعد انقضاء عمله، قبل أن يطلبهما، وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إلى الدائن دينه.

صفحة رقم 127

الثاني- الحكم بالعدل بين الناس.
والخطاب في الحكمين كما أوضحت للولاة والأمراء والحكام، ويدخل معهم جميع الخلق.
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو: «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا»
وقال أيضا: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» «١».
فجعل النبي في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكّاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم لأنه إذا أفتى، حكم وقضى، وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى، وحكم يقضى.
والله تعالى سميع وبصير، يسمع ويرى، كما قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه ٢٠/ ٤٦] يسمع الأحكام الصادرة فيجازي بها، ويبصر وقائع أداء الأمانات وخيانتها، فيحاسب عليها.
ولما أمر الله الولاة والحكام بأداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل، أمر الرعية بطاعته عز وجل أولا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، لكن تجب طاعة الأمراء أو السلطان فيما فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية.
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته.

(١) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.

صفحة رقم 128

وكذلك تجب طاعة أهل القرآن والعلم أي الفقهاء والعلماء في الدين. وقال ابن كيسان: هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس. والأصح الرأي الأول لأن أصل الأمر من العلماء والحكم إليهم. والعقل وإن كان مؤيدا للدين وعمادا للدنيا، فلا يتفق مع ظاهر اللفظ.
فإن حدث التنازع بين الأمة وبين الأمراء، رد الحكم إلى كتاب الله، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وذلك نظير قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء ٤/ ٨٣] وقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور ٢٤/ ٦٣] ومدعاة ذلك: الإيمان بالله وباليوم الآخر، وعاقبة الرجوع إلى القرآن والسنة ومآله أو مرجعه هو خير من التنازع.
واستنبط العلماء من هذه الآية أن مصادر التشريع الأصلية أربعة وهي:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس لأن الأحكام إما منصوصة في كتاب أو سنة، وذلك قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ والسنة: هي ما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، وإما مجمع عليها من أهل الحل والعقد من الأمة بعد استنادهم إلى دليل شرعي اعتمدوا عليه، وذلك قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها، وهذه سبيلها الاجتهاد والقياس: وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة، وذلك قوله:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
وأما المصادر التبعية الأخرى كالاستحسان الذي يقول به الحنفية، والمصالح المرسلة التي يقول بها المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية، فهي في الحقيقة راجعة إلى المصادر الأربعة الأصلية.

صفحة رقم 129
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية