الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالتَّفَاوُتِ فِي إِبْصَارِ الْمُبْصَرَاتِ وَسَمَاعِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ كَانَ مُمْكِنًا لَكَانَ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ هُوَ وَقْتُ حُكْمِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ لَا جَرَمَ قَالَ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً فَمَا أَحْسَنَ هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع.
[سورة النساء (٤) : آية ٥٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرُّعَاةَ وَالْوُلَاةَ بِالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِطَاعَةِ الْوُلَاةِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَلِهَذَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ لَا مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةِ. لَنَا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ طَاعَةٌ، إِنَّمَا النِّزَاعُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَمْ لَا؟ فَإِذَا دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مُرَادًا ثَبَتَ حِينَئِذٍ أَنَّ الطَّاعَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ مُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اللَّه قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّه وَخَبَرَهُ قَدْ تَعَلَّقَا بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوجَدُ مِنْ أَبِي لَهَبٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْعِلْمُ وَهَذَا الْخَبَرُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُمَا وَانْقِلَابُهُمَا جَهْلًا، وَوُجُودُ الْإِيمَانِ مُضَادٌّ وَمُنَافٍ لِهَذَا الْعِلْمِ وَلِهَذَا الْخَبَرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، فَكَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْ أَبِي لَهَبٍ مُحَالًا. واللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهِ مُحَالًا، وَالْعَالِمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُحَالًا لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْإِيمَانِ مِنْ أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ طَاعَةَ اللَّه عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ لَا عَنْ مُوَافَقَةِ إِرَادَتِهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ اسْمٌ لِمُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ | قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ |
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَاقِلَ عَالِمٌ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَلِيقُ مُعَارَضَتُهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الرَّكِيكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ بِهَذَا التَّرْتِيبِ. أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللَّه، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟
قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللَّه، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أمر اللَّه لا محالة، فثبت بما ذكرناه أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، وَالدَّلِيلُ صفحة رقم 112
عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ كَانَ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْخَطَأِ يَكُونُ قَدْ أَمَرَ اللَّه بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ لِكَوْنِهِ خَطَأً مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، فَثَبَتَ قَطْعًا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، ثُمَّ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ إِمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأُمَّةِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا، وَإِيجَابُ طَاعَتِهِمْ قَطْعًا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِنَا عَارِفِينَ بِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، عَاجِزُونَ عَنِ اسْتِفَادَةِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ لَيْسَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْأُمَّةِ، وَلَا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِهِمْ. وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْصُومُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَأُولِي الْأَمْرِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي أُولِي الْأَمْرِ وُجُوهًا أُخْرَى سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أُمَرَاءُ السَّرَايَا،
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّه بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ،
فَجَرَى بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ.
وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُفْتُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَهَذَا رِوَايَةُ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَاكِ. وَرَابِعُهَا: نُقِلَ عَنِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَلَمَّا كَانَتْ أَقْوَالُ الْأُمَّةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْتُمُوهُ خَارِجًا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَاطِلًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْتُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ أَوَامِرُهُمْ نَافِذَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أُولُو الْأَمْرِ/ أَمَّا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ نَافِذٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْحُكَّامَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَبِرِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أُشْكِلَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَرَاءِ لَا بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ،
فَقَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّه وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»
فَهَذَا مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلًا خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَّةِ، بَلْ كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لِأَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَتَصْحِيحًا لَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: وَأَمَّا سُؤَالُهُمُ الثَّانِي فَهُوَ مَدْفُوعٌ، لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، عَلَى أَنَّا نُعَارِضُ تِلْكَ الْوُجُوهَ
بِوُجُوهٍ أُخْرَى أَقْوَى مِنْهَا: فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ إِنَّمَا يَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَيْسَ إِلَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا قِسْمًا مُنْفَصِلًا عَنْ طَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، كَمَا أَنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ وَالْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالتِّلْمِيذِ لِلْأُسْتَاذِ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِسْمُ دَاخِلًا تَحْتَهَا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَمْكَنَ جَعْلُ هَذَا الْقِسْمِ مُنْفَصِلًا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَهَذَا أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ يَقْتَضِي إِدْخَالَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْأُمَرَاءِ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانُوا مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُ الشَّرْطُ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مُشْعِرٌ بِإِجْمَاعٍ مُقَدَّمٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ هَذَا التَّنَازُعِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ طَاعَةَ اللَّه وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَعِنْدَنَا أَنَّ طَاعَةَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَأَمَّا طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ قَطْعًا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِالظُّلْمِ، وَفِي الْأَقَلِّ تَكُونُ وَاجِبَةً بِحَسَبِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فَكَانَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالرَّسُولِ عَلَى الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى/ الْفَاجِرِ الْفَاسِقِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ أَوْلَى، وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ عَلَى مَا تَقُولُهُ الرَّوَافِضُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَقُدْرَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِمْ كَانَ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ إِذَا صِرْنَا عَارِفِينَ بِهِمْ وَبِمَذَاهِبِهِمْ صَارَ هَذَا الْإِيجَابُ مَشْرُوطًا، وَظَاهِرُ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَأُولُو الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ إِلَّا إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْفَرْدِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الْإِمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلُهُ:
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِعَادَةً لِعَيْنِ مَا مَضَى، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ
طَلَبَ حُكْمِهِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَدَّ حُكْمِهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَوِّضُوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّه وَاسْكُتُوا عَنْهُ وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُ؟ وَأَيْضًا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرُدُّوا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ إِلَى الْمَنْصُوصِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ إِلَّا بِالنَّصِّ؟ وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرُدُّوا هَذِهِ الْأَحْكَامَ/ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؟
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَدْفُوعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ حُكْمُهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، وَأَمَرَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِالرَّدِّ إِلَى اللَّه وَإِلَى الرَّسُولِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الرَّدِّ السُّكُوتَ، لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إِلَى اللَّه عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَظْهَرُ فَسَادُ السُّؤَالِ الثَّالِثِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَلَا يَكُونُ رَدُّ الْوَاقِعَةِ إِلَيْهَا رَدًّا إِلَى اللَّه بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، أَمَّا إِذَا رَدَدْنَا حُكْمَ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا كَانَ هَذَا رَدًّا لِلْوَاقِعَةِ عَلَى أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِمَا بِسَبَبِ الْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُمَا بِسَبَبِ الْقِيَاسِ الْبَتَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصًا قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَمْرٌ بِطَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ حَصَلَ قِيَاسٌ يُعَارِضُهُمَا أَوْ يُخَصِّصُهُمَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَاجِبَةٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُجُوهٌ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّ» عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لِلِاشْتِرَاطِ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ صريح فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيَاسِ إِلَّا عِنْدَ فِقْدَانِ الْأُصُولِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ ذِكْرَ الْقِيَاسِ عَنْ ذِكْرِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَبَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ حَيْثُ أَخَّرَ الِاجْتِهَادَ عَنِ الْكِتَابِ، وَعَلَّقَ جَوَازَهُ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ حَيْثُ قَالَ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَدْفَعْ هَذَا النَّصَّ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ خَصَّصَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ هُوَ قَوْلُهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: ١٢] ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَاسَ مُقَدَّمًا عَلَى النَّصِّ وَصَارَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَلْعُونًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ تَقْدِيمٌ لِلْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَقْطُوعٌ فِي مَتْنِهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَظْنُونٌ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْمَقْطُوعُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَظْنُونِ. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى/ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] وَإِذَا وَجَدْنَا عُمُومَ الْكِتَابِ حَاصِلًا فِي الْوَاقِعَةِ ثُمَّ إِنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ بَلْ حَكَمْنَا بِالْقِيَاسِ لَزِمَ الدُّخُولُ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ.
السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: ١] فإذا كان عموم القرآن حاضر، ثم قدمنا القياس المخصص عليه لَزِمَ التَّقْدِيمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه وَرَسُولِهِ. الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ
إلى قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٤٨] جَعَلَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَمِنَ الْمُوجِبَاتِ الْقَوِيَّةِ فِي مَذَمَّتِهِمْ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْبَتَّةَ تُرِكَ هَذَا النَّصُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ النُّصُوصِ، فَوَجَبَ عِنْدَ وِجْدَانِهَا أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا ذَرُوهُ»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ الْكِتَابُ مَرْدُودًا فَالْقِيَاسُ أَوْلَى بِهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وَالْقِيَاسُ يُفَرِّقُ عَقْلَ الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى بِالْمُتَابَعَةِ وَأَحْرَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ: أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ أَحْكَامُهَا مَنْصُوصَةً عَلَيْهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِالطَّاعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَالثَّانِي: مَا لَا تَكُونُ أَحْكَامُهَا مَنْصُوصَةً عَلَيْهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِذَا كَانَ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَكْلِيفٍ خَاصٍّ مُعَيَّنٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِشَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِصْلَاحِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدَ هَذِهِ الْأُمُورِ الأربعة فَهُوَ تَغْيِيرُ عِبَارَةٍ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ بَاطِلًا قَطْعًا لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَاعْتَرَضَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ. وَهَذَا يَقْتَضِي افْتِقَارَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِلْفُقَهَاءِ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ الْوَارِدَةَ فِي الْوَقَائِعِ الْمَخْصُوصَةِ دَالَّةٌ عَلَى/ النُّدْبِيَّةِ فَقَوْلُهُ: أَطِيعُوا لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورَاتِ مَنْدُوبٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. لِأَنَّ مُجَرَّدَ النُّدْبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى إِفَادَةِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْأَوَامِرَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْمَأْمُورَاتِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهَا فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ وَعِيدٌ، فَكَمَا أَنَّ احْتِمَالَ اخْتِصَاصِهِ بِقَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ احْتِمَالُ عَوْدِهِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَقَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَائِمٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِعَوْدِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ إِلَى الْكُلِّ صَارَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ مُوجِبًا لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا الْقَوْلُ وَإِمَّا الْفِعْلُ، أَمَّا الْقَوْلُ فَيَجِبُ إِطَاعَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّه لِلْوُجُوبِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي صِفَةِ محمد عليه
الصلاة والسلام: فَاتَّبِعُوهُ وَهَذَا أَمْرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَالْمُتَابَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَعَلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِالرَّسُولِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَقَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُعْتَبَرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَا يُفِيدُ التِّكْرَارَ وَلَا الْفَوْرَ إِلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التِّكْرَارَ، وَالتِّكْرَارُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ لَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمَخْصُوصَ وَالْكَيْفِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيِّنَةً، وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّه عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ مُبَيِّنًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ مُجْمَلًا مَجْهُولًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، وَالتَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنَ الْإِجْمَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ أَضَافَ لَفْظَ الطَّاعَةِ إِلَى لَفْظِ اللَّه، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ الطَّاعَةِ عَلَيْنَا لَهُ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِنَا عَبِيدًا لَهُ وَلِكَوْنِهِ إِلَهًا، فَثَبَتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمَنْشَأَ لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ هُوَ الْعُبُودِيَّةُ وَالرُّبُوبِيَّةُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي دَوَامَ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ/ وَهَذَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فَأَفْرَدَهُ فِي الذِّكْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِهَذَا الْأَدَبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعُوا فِي الذِّكْرِ بَيْنَ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ اسْمِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِهَذَا الْأَدَبِ، وَلِذَلِكَ
رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا ذُكِرَ عِنْدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَالرَّسُولَ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ هَلَّا قُلْتَ مَنْ عَصَى اللَّه وَعَصَى رسوله»
أو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ فِي اللَّفْظِ يُوهِمُ نَوْعَ مُنَاسَبَةٍ وَمُجَانَسَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَنَقُولُ:
كَمَا أَنَّهُ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمُ اسْتِنْبَاطُ أَحْكَامِ اللَّه مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ نَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ، وَالَّذِينَ لَهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ لَا اعْتِبَارَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أُولِي الْأَمْرِ حُجَّةٌ علمنا دلالة الآية على أنه يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْأَمْرِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْحَاصِلَ عَقِيبَ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ طَاعَةِ جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا حَصَلَ بَعْدَ الْخِلَافِ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حُجَّةً.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ انْقِرَاضَ أَهْلِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْمُجْمِعِينَ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ وَمَا إِذَا لَمْ يَنْقَرِضْ.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ لأنه تعالى قال في أول الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا سَائِرُ الْفِرَقِ الَّذِينَ يُشَكُّ فِي إِيمَانِهِمْ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، فَنَقُولُ: كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ دَلَّتْ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مَعْنَاهُ فَرُدُّوهُ إِلَى وَاقِعَةٍ بَيَّنَ اللَّه حُكْمَهَا، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرُدُّوهَا إِلَى وَاقِعَةٍ تُشْبِهُهَا، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِرَدِّهَا رَدَّهَا إِلَى وَاقِعَةٍ تَخَالِفُهَا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ رَدُّهَا إِلَى بَعْضِ الصُّوَرِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إِلَى الْبَاقِي، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الرَّدُّ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَرُدُّوهَا إِلَى وَاقِعَةٍ تُشْبِهُهَا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَاهُ يُؤَكَّدُ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، أَمَّا الْخَبَرُ
فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ»
يَعْنِي الْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةَ الْأَكْلِ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ، فَكَمَا أَنَّ تِلْكَ الْمَضْمَضَةَ لَمْ تَنْقُضِ الصَّوْمَ، فَكَذَا الْقُبْلَةُ.
وَلَمَّا سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ عَنِ الْحَجِّ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ هَلْ يُجْزِي فَقَالَتْ نَعَمْ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَدَيْنُ اللَّه أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ»
وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اعْرِفِ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ وَقِسِ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَدَلَالَةِ الْخَبَرِ وَدَلَالَةِ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:
فَرُدُّوهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الشَّيْءِ إِلَى شَبِيهَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَ اللَّه الْمُشَابَهَةَ فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ مُشَابِهٌ لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه قِيَاسَ الْأَشْبَاهِ، وَيُسَمِّيهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قِيَاسَ الطَّرْدِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ هُوَ أَنَّهُ رُدُّوهُ إِلَى شَبِيهِهِ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ مَحْضُ الْمُشَابَهَةِ، وَهَذَا بَحْثٌ فِيهِ طُولٌ، وَمُرَادُنَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ مِنَ الْآيَاتِ، فَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا فَمَذْكُورٌ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ مُشْعِرٌ بِهَذَا الِاشْتِرَاطِ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْوَاقِعَةِ نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهِ كَيْفَ كَانَ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي الْكَفَّارَاتِ/ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ عَامٌّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا.